مقالاتمقالات مختارة

كفتارو؛ المعركةُ الفاصِلَة مع السّباعي وشرخُ المؤسّسة الدّينيّة

كفتارو؛ المعركةُ الفاصِلَة مع السّباعي وشرخُ المؤسّسة الدّينيّة

بقلم محمد خير موسى

في خمسينات القرن الماضي كانت سوريا موضع صراع محتدم بين القوة الشّيوعيّة المتمثّلة بالاتّحاد السوفييتي والقوى الغربيّة التي تمثّلها الولايات المتحدة الأميركيّة.

وكان من نتائج هذا الصّراع على الحياة البرلمانيّة السوريّة عام 1957م إدانة عددٍ من نوّاب البرلمان بتأييد حلف بغداد والتآمر مع الأميركان لإحداث انقلاب عسكريّ في سوريا، ورفعت الحصانة عنهم وألقي القبض على بعضهم بينما نجح آخرون بالفرار.

في دمشق أدين النّائب منير العجلاني وحكم عليه بالسّجن المؤبّد بعد إلقاء القبض عليه، وكان العجلاني قريبًا من التيّار الإسلامي فهو زوج ابنة تاج الدّين الحسني الرّئيس الثّاني للجمهوريّة السّوريّة في الفترة بين 1941 و 1943م، وحفيدة الشّيخ بدر الدّين الحسني محدّث الشّام وأبرز رموز المؤسسة الدّينيّة في القرن الماضي.

  • من دفع السّباعي للترشّح

تعاملت المؤسسة الدّينيّة مع شغور مقعد العجلاني البرلماني في مدينة دمشق والانتخابات التّكميليّة التي ستجري في العام نفسه 1957م بوصفها فرصة لإثبات الذّات والحضور والثّقل النّسبي.

اجتمعت رابطة علماء الشّام التي كان يترأسّها الشيخ أبو الخير الميداني وعقدت المشاورات مع رموز الجماعات الدّعويّة لتتفق كلمتهم على ترشيح الدّكتور مصطفى السّباعي بوصفه عضوًا في رابطة علماء الشّام إضافة إلى كونه مراقبًا عامًا لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وصاحب تجربةٍ سابقةٍ ناجحةٍ في الانتخابات البرلمانيّة عام 1949م

شهدت جماعة الإخوان المسلمين نقاشات موسّعة في أطرها القياديّة لمسألة الترشّح وكان فيها رأي يعتقد أنّ الترشّح في الظروف الحاليّة خطأ كارثيّ ومغامرةٌ غير محسوبة إضافة إلى أنّ صحّة السّباعي لا تسمح بذلك، وكان يتصدّر هذا الفريق الأستاذ عصام العطّار، لكنّ الفريق الآخر المؤيّد للترشّح نجح بتمرير القرار بالأغلبيّة.

فالذي دفع السّباعي ابتداء للترشّح هم علماء دمشق ثمّ وافقت جماعة الإخوان على هذا الترشّح، ممّا جعل العلماء يتعاملون مع هذه المعركة الانتخابيّة على أنّها معركتهم هم وليست معركةَ جماعة الإخوان المسلمين وحدهم.

  • ماذا عن رياض المالكي؟

بالمقابل كانت هناك ثلاثُ قوى في الجهة المقابلة هم البعثيّون والشيوعيّون والحزب الوطني، فرشّح البعثيون المحامي البعثيّ الشّاب رياض المالكي، ورشّح الحزب القومي ظافر القاسمي، بينما رشّح الشيوعيّون مصطفى أمين.

اجتمعت الجهات الثلاثة واتّفقت على تشكيل جبهةٍ موحّدة في مواجهة مرشّح الإسلاميّين، فسحب كلّ من الشوعيين والحزب القومي مرشّحيهم ليصبح رياض المالكي مرشّح القوى غير الإسلاميّة جميعها.

وهنا لا بدّ من التّنويه إلى أنّ كثيرًا من الكتّاب يصفون رياض المالكي بأنّه شيوعيّ وهذا غير صحيح فقد كان رياض المالكي بعثيًّا اشتراكيًّا ولم يكن شيوعيًّا، ولم يكن متديّنًا لكنّه لم يكن ملحدًا كما يحاول كثيرون تصويره، وقد أسهمت الحملة الانتخابيّة في ترسيخ هذه المعلومة غير الصّحيحة في الأوساط المختلفة.

فقد احتدمت الحملة الانتخابيّة وعمل الإسلاميّون على تصويرها على أنّها معركة بين الإسلام والكفر وبين الإيمان والإلحاد، وقد أسهم في هذا شعورهم أنّ حزب البعث قد فتح سوريا للمدّ الشّيوعي وأنّ السّفارة السوفييتية غدت صاحبة قرارٍ فعليّ في البلاد.

وهذا التّوصيف فيه جانب كبيرٌ من الصّحة إذ يقول باتريك باسيل في كتابه الصّراع على سوريا في توصيف تلك الفترة: “إنّ الشّيوعيين آنئذٍ قد أصبح لهم في سوريا اليد الطّولى”.

كان الشّيخ أحمد كفتارو يطمحُ إلى مركز الإفتاء للجمهوريّة السّوريّة، وكان يأمل أن يصل في المستقبل إلى هذا المركز

  • كيف برز موقف الشّيخ أحمد كفتارو؟

كان الشّيخ أحمد كفتارو في تلكم الفترة مفتيًا لدمشق وكان يتطلّع إلى منصب الإفتاء العام، وقد انتهز أكرم الحوراني أحدُ أهمّ المؤثّرين في السّياسة السّوريّة آنذاك، ومهندس الانقلابات في سوريا، وزعيم حزب البعث، ورئيس البرلمان في تلكم السّنة؛ هذه الرّغبة التي كان يلمسها في الشّيخ أحمد كفتارو فزاره وأومأ له بأنّ الطّريق إلى منصب الإفتاء العام سيكون ممهّدًا في حال دعم المرشّح البعثيّ رياض المالكي، وعن تلكم الزّيارة يقول أكرم الحوراني في مذكّراته:

“كان الشّيخ أحمد كفتارو يطمحُ إلى مركز الإفتاء للجمهوريّة السّوريّة، وكان يأمل أن يصل في المستقبل إلى هذا المركز، فقمت بزيارته، وبحثنا معًا الوضع الانتخابيّ في دمشق، وضرورة تأييد المالكي ضدّ مرشّح الإخوان المسلمين، فأبدى استعداده للمساهمة في المعركة، لأنّه لم يكن على وفاقٍ مع الإخوان المسلمين، وقد برّ الشّيخ كفتارو بوعده”.

وصلت الأخبار إلى رابطة العلماء عن زيارة أكرم الحوراني إلى الشّيخ أحمد كفتارو فسارع العلماء إلى عقد اجتماع في بيت السيّد مكّي الكتّاني وكان حينها نائب رئيس الرّابطة، وتقرر في الاجتماع تشكيل وفدٍ برئاسة الشيخ “أبو الخير الميداني” رئيس الرّابطة وزيارة الشّيخ كفتارو.

حاول الوفد بيان مخاطر تأييد كفتارو للمالكي لكنّه بقي صامتًا في اللّقاء وما كان يزيدُ على تكرار عبارة “إنّ غدًا لناظره قريبُ”، حتّى وصل الأمر إلى أن يقبض الشّيخ أبو الخير الميداني على لحيته ويناشد كفتارو قائلًا: “يا شيخ أحمد لا تُذلّ هذه اللّحى، لا تُحزن هذه اللحى” فما زاد كفتارو على قوله: “إنّ غدًا لناظره قريبُ”.

بعد يومين من هذا اللّقاء وفي أوج احتدام المعركة الانتخابيّة كان موعد الدّرس العام للشّيخ أحمد كفتارو في جامع يَلبُغَا في ساحة المرجة، وكان قد رتّب اتفاقًا بينه وبين رياض المالكي على أن يكون في الصّفوف الخلفيّة من المسجد أثناء الدّرس، وفي النّصف الثّاني من الدّرس انتقل للحديث عن الانتخابات، وكان ممّا قاله:

“يقولون إنّ رياض المالكي ليسَ فيه دين وليس فيه إسلام، رياض المالكي لا يغادر درسي، وينك يا أستاذ رياض؟ ورجيني حالك”.

فوقف رياض المالكي وطلب منه الشّيخ أحمد أن يتقدّم ويجلس عن يمينه ثمّ روى لمريديه منامًا رآه في تلكم الليلة، وكما هو معلوم بأنّ أحاديث الكرامات والمنامات تمثّل عصب المنهج الدّعويّ في الطّريقة النّقشبنديّة، فقال:

“الليلة شفت بالمنام سيارة معطّلة وبدها دفشة حتّى تمشي، وكان الاستاذ رياض هو يللي عم يقود السيّارة، فأنا دفشت السيّارة وناديت الأحباب حتّى يدفشوا معي وبهمّة الأحباب مشيت سيّارة الاستاذ رياض، فبدنا من الأحباب دفشة بالانتخابات للاستاذ رياض”.

وهكذا أعلن الشّيخ كفتارو انحيازه التّام لمرشّح البعثيين والشيوعيين والعلمانيين رياض المالكي وخذلانه للمؤسسة الدّينيّة في معركتها المصيريّة تلك.

  • أثر موقف الشّيخ كفتارو في نتائج الانتخابات

انتهت الانتخابات بفوز رياض المالكي ممّا تسببّ في تطوّر مرض الدّكتور السباعي الذي كان يعاني من قبل الانتخابات فأصيب بجلطة تسببت له بالشّلل الذي ألزمه الفراش وكان على إثرها وفاته.

حصل الدّكتور السباعي على 47% من مجموع الأصوات، وهي نسبةٌ لا يستهان بها ولخسارته أسباب عديدة لا تنحصر كلّها في موقف الشّيخ أحمد كفتارو.

يقول باتريك سيل في كتابه الصّراع على سوريا:

“لقد جرى أكبر اختبار للقوّة في دمشق حيثُ فاز رياض المالكي من حزب البعث على الشّيخ مصطفى السّباعي زعيم الإخوان المسلمين بأغلبيّة ضئيلة، لقد حاز السّباعي على 47% من مجموع الأصوات، وهذا يدلّ على أنّ الإسلام لم يكن قد انتهى كقوّةٍ سياسيّة على مسرح السّياسة السّوريّة، هذا على رغم أنّ منافسه قد تلقّى دعم البعثيّين والشّيوعيّين وجميع التّقدّميّين وحزب الشّعب والحزب الوطني، كما أفاد من كونه أخًا لعدنان المالكي”.

وممّا يجدر بالملاحظة هنا أنّ المسيحيين في دمشق أعطوا أصواتهم للدّكتور مصطفى السّباعي، ويؤكّد ذلك أكرم الحوراني في مذكّراته إذ يقول متعجّبًا:

“كان نجاحُ السّباعي في نظر اليمين داخليًّا وعربيًّا مضمونًا ضمانًا أكيدًا، إذ مَن يصدّق بأنّ الشّيخ السّباعي نال من أصوات النّاخبين في حيّ القصّاع المسيحي أكثر ممّا ناله الأستاذ رياض المالكي”.

وإعطاء المسيحيين أصواتهم للدكتور السّباعي يرجع باعتقادي إلى سببين رئيسين، الأوّل: العلاقة المتميّزة التي كانت بين الدّكتور السّباعي والمكوّن المسيحي في سوريا فقد كان منفتحًا على جميع المكوّنات الدّينيّة في البلاد، والثّاني: خوف المسيحيين من المدّ الشيوعي الذي يستهدفهم أيضًا كما يستهدف المسلمين، وكان المالكي هو المرشّح المعبّر عن هذا المدّ وهيمنته.

ولكن ما هي الأسباب التي أسهمت في فوز رياض المالكي إلى جانب موقف الشّيخ أحمد كفتارو؟

يمكن تلخيص هذه الأسباب بما يلي:

أولًا: حدوث عمليّات التّزوير وشراء الضّمائر، وقد ساق الدّكتور عدنان زرزور نماذج منها في كتابه “مصطفى السّباعي، الدّاعية المجاهد، والفقيه المجدّد” فتحدّث عن تلاعب في الصّناديق، وعمليّات واسعة من تحليف اليمين على المصحف للموظفين بأنّ ينتخبوا رياض المالكي.

ثانيًا: التّعاطف الواسع مع رياض المالكي إثر اغتيال شقيقه عدنان المالكي الضّابط البعثيّ ونائب رئيس هيئة الأركان الذي اغتيل عام 1955م، فهو في نظر الكثيرين شقيق الشّهيد عدنان المالكي.

ثالثًا: صلابة التّحالف البعثي الشيوعي العلماني الذي بيده السّلطة ومفاتيح القوّة والإعلام.

ولكنّ السّؤال الذي يتبادرُ هنا، لو وقف الشّيخ كفتارو موقفًا داعمًا للسّباعي فهل كانت ستتغيّر النتيجة؟

موقف الشّيخ كفتارو ودعمه لرياض المالكي كان السبب الرّئيس الأكثر تأثيرًا في خسارة الدّكتور السباعي

يحاول أتباع ومريدو الشّيخ كفتارو التّقليل من أهميّة موقفه ضدّ السّباعي في الانتخابات، ويردّدون بأنّ النتيجة ما كانت لتتغيّر لو وقف الشّيخ كفتارو خلاف موقفه متهمين المؤسسة الدّينيّة وجماعة الإخوان بتهويل الأمر لغاياتٍ غير بريئة.

غيرَ أنّ وقفةً منصفةً تجعلنا نتأكّد من أنّ موقف الشّيخ كفتارو ودعمه لرياض المالكي كان السبب الرّئيس الأكثر تأثيرًا في خسارة الدّكتور السباعي، فالنسبة الضّئيلة التي خسر بها السباعي كان بإمكان كفتارو بكلّ بساطة تحصيلها لا سيما إذا عرفنا أنّ جماعته في ذلك الوقت من حيث العدد البشريّ هي الجماعة الأكبر في دمشق كلّها ولا توازيها أيّة جماعة من الجماعات الدّعويّة من حيث الكتلة البشريّة، فلو أنّه وجه أتباعه إلى انتخاب السّباعي لحدث تغيّرٌ حقيقيّ في النّسب العامّة لكلّ من المُرَشحَين.

  • أثر موقف كفتارو في المؤسّسة الدّينيّة

لم تكن المؤسسّة الدّينيّة في أحسن أحوالها قبل الانتخابات البرلمانيّة التكميليّة، لكنّها كانت تتميّز بهامش جيّد من التّوافق على الرّغم من وجود خلافات منهجيّة بين الجماعات القائمة.

لكنّ حال المؤسّسة الدّينيّة بعد هذه الانتخابات لم يعد كما كان قبلها، ويمكن وصف ما حدثَ بأنّه شرخٌ طوليّ قسم المؤسسة وأتباعها إلى فريقين، فريق كفتارو ومريديه، وفريق رابطة علماء الشّام بما تضمّه من جماعات وشخصيّات ومعها جماعة الإخوان المسلمين.

أمّا الدّكتور السّباعي الذي غدا طريح الفراش بعد الشلل الذي أصابه عقب الانتخابات فقد ألّف كتابه “هكذا علّمتني الحياة” وقد جعل في كتابه فقرةً بعنوان “شيطان يتظلّم” يتحدّث فيها عن الشّيخ أحمد كفتارو دون أن يذكره باسمه بمنطق القصّة الرّمزيّة، وقد سمّى بطل القصّة “أخصر عشء” ومن الواضح أنّها رموزٌ تدلّ على معنى خاص فاجتهدتُ في فكّ هذه الرّموز فوجدتُ أنّها تحملُ الحرف الأول من أسماء الشّخصيّات التي يرى السّباعيّ أنّها تآمرت عليه في الانتخابات، وهي على ترتيب الأحرف وفق ما ذكرها، أكرم الحوراني، خالد بكداش رئيس الحزب الشّيوعي، صبري العسلي رئيس الوزراء، رياض المالكي، عبد الحميد السرّاج رئيس المخابرات، وأمّا الشّين والهمزة فهي إشارة إلى الشّيخ أحمد كفتارو الذي لا يحتاجُ المرء إلى كثير اجتهاد ليعرف أنّه المعنيّ بالمقال الذي يقرّر إبليس في نهايته منحه لقب “أستاذ” وتكريس أستاذيَّته في محفل الشّيطان الأعظم، ونقش اسمه في عداد شياطين الإنس الخالدين.

فكان موقف الشّيخ أحمد كفتارو ذلك يمثّل مفاصلةً تامّة بينه وبين أيّة علاقة مع جماعة الإخوان المسلمين، تلك العلاقة التي تحوّلت إلى حالة من العداء المعلن بين الطّرفين.

وكان أشدّ العلماء تشدّدًا في مقاطعته للشّيخ كفتارو عقب موقفه الدّاعم لرياض المالكي في الانتخابات هو الشّيخ عبد الكريم الرّفاعي حيثُ توقّفت العلاقات بين جماعة زيد وجماعة كفتارو بشكلٍ شبه تام، وكذلك كان موقف الشّيخ حسن حبنّكة وتلاميذه في مقاطعة أنشطة جماعة كفتارو وعدم التّعامل معهم في أيّ نشاط عقب ذلك.

واستمرّ هذا الشّرخ إلى وقتٍ متأخرٍ من القرن الماضي وحتّى عند عودة تلكم العلاقات فقد عادت باردةً مع التحفّظ والكثير من المجاملة ليس أكثر.

وقد كانت المعركة التّالية هي معركة انتخاب المفتي العام وكانت في مواجهة الشّيخ حسن حبنّكة الميداني، ما تفاصيل تلكم المعركة وسياقاتها ونتائجها؟ هذا ما سنبحثُ فيه بإذن الله تعالى في المقال القادم.

(المصدر: سوريا تي في)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى