كتاب يؤرخ لبواكير النضال الفلسطيني المنظم ضد الاحتلال
تأليف محمد شلش – عرض فادي الزعتري
الكتاب: داخل السور القديم، نصوص قاسم الريماوي عن الجهاد المقدس
المؤلف: محمد شلش
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ بيروت 2020
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة ذاكرة فلسطين، بيروت، الطبعة الأولى، تموز/ يوليو 2020م. تحقيق ودراسة بلال محمد شلش.
يقدِّم الباحث بلال محمد شلش، ضمن سلسلة ذاكرة فلسطين والتي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، تحقيقه ونقده لنصَّين دوّنهما الكاتب الفلسطيني قاسم الريماوي (1918 ـ 1982م). فترى النصّ الأول يقدِّم تقريرًا مفصلًا عن “الجهاد المقدس” وهو اسمٌ أطلق على التشكيلات العسكرية التي كانت تعمل تحت إشراف الهيئة العربية العليا التي كان يرأسها الحاج أمين الحسيني بين الأعوام 1947 ـ 1949م. كُتِب هذا النص عام 1949م وقُدِّم وقتها للحاج أمين الحسيني.
أمَّا النص الثاني فيقدِّم مادةً عن القائد عبد القادر الحسيني (1910 ـ 1948م) ومسيرته في تأسيس وقيادة الجهاد المقدَّس، تنبع أهمية هذا الكتاب من جانبين أساسيَّين، الأول: تقديمه لمادةٍ أولية غنيَّة عن فترة مؤسِّسَة في تاريخ العدوان الإسرائيلي ـ النكبة عام 1948م وهي فترة عُرِفت بقلَّة المصادر الأولية الجادَّة التي تناولتها بتفاصيلها الدقيقة، خاصة فيما يتعلق بالفعل الفلسطيني العسكري فيها، حيث سبق الاحتلال في كتابة وتوثيق سرديته الخاصة عن الحرب بتفاصيلها الدقيقة، في حين استولى على كمية هائلة من المواد الأرشيفية الشخصية والعامة الفلسطينية وغيرها.
فكان هذا الكتاب وما هو على شاكلته من إصدارات، وما حواه من مادة تتناول تاريخ تلك الحقبة وعلى لسان شخصيَّة قيادية في تلك المرحلة مهمًا من وجوه كثيرة أبرزها ارتباط الكاتب بالفعل السياسي والعسكري خلال تلك المرحلة بشكل مباشر، ثم صحبته لقادة الجهاد المقدس وتأثره وتأثيره المباشر في الفعل العسكري معهم في تلك المرحلة.
الأمر الثاني الذي يجعل هذا الكتاب مهمًا هو الجهد النقدي الذي قام به المحقق بلال محمد شلش من ناحية ربط ومقارنة ماضي الكاتب ـ قاسم الريماوي ـ بمستقبله، حيث انتقل المؤلف الريماوي من كونه رجلًا عسكريًا مشاركًا بالمعارك في ظل الجهاد المقدس، إلى العيش في الأردن وتولي حقائب وزارية ثم مشاركته وفوزه بمقعد نيابي إضافة إلى العمل في الجامعة ومؤسسات مختلفة في الدولة حتى وفاته، حيث تعبر حالة الريماوي عن حالة الكثير من القيادات الفلسطينية التي عملت النكبة وما بعدها من أحداث متعاقبة على تغيير مسار حياتها وتنقلها من الفعل السياسي والعسكري ضد الاحتلال إلى الانشغال بقضايا سياسية وإدارية وأكاديمية تبعًا للواقع والظروف التي خلفتها النكبة فالنكسة، وما خلفه ذلك بتغير في مواقفها وآرائها وتحليلاتها.
ذاكرة الحرب ـ كما سمَّاها المحقق في مقدمته ـ ليس من السهل على أي باحث أن يفتش فيها، خاصة في ظل تحولات كبيرة طرأت على حياة الكاتب وممارساته وتوجهاته وقناعاته، غير أن “المحرر الباحث” هنا جمع بين النصوص التي بين يديه وبين ما خطَّته يد الكاتب الريماوي نفسه في صحف ومواقع أخرى كشفت عن كثير من قناعاته وأفكاره وتبدلها عبر تاريخ حياته، وهو إذ يعبِّر عن تحولاته الذاتية من خلال تلك النصوص كان يعبر عن تحولات هائلة جذرية حصلت في مجمل المسار الفلسطيني الذي انشغل مبكرًا في الحرب وانشغل لاحقًا بالسياسة والصراعات الداخلية الفلسطينية والعربية، كما انشغل خلال كل ذلك أيضًا في التفتيش عن الحرب ومآلاتها، والحرب وما حملته من بطولات تدعو للفخر ومن هزائم تدعو للفهم والتفسير وتحمُّل وتحميل المسؤوليات.
تعبر حالة الريماوي عن حالة الكثير من القيادات الفلسطينية التي عملت النكبة وما بعدها من أحداث متعاقبة على تغيير مسار حياتها وتنقلها من الفعل السياسي والعسكري ضد الاحتلال إلى الانشغال بقضايا سياسية وإدارية وأكاديمية تبعًا للواقع والظروف التي خلفتها النكبة
تشكل المقدمة والمدخل (ص19 ـ 116) اللذان وضعهما المحرر مادة مهمة لفهم نصوص الريماوي وتقدير أهميتها، حيث أسس المحرر من خلال المدخل لما سمَّاه الحديث حول: الذاكرة كحرب إسكات وإثبات. وتناول فيه جوانبَ مهمة من تحولات الكتابة لدى الفلسطيني المحارب بعد أن صار سياسيًا يعمل ضمن سياق سياسي جديد ـ النظام الملكي الأردني ـ فيبذل الباحث في هذه المدخل جهدًا مقدَّرًا في المقارنة بين كتابات الريماوي المبكرة حول الحرب وظروفها وملابساتها، وطبيعة الأدوار التي قامت بها شخصيات فلسطينية مركزية كالحاج أمين الحسيني وشخصيات مقربة من النظام الأردني وغيرها من الأحداث والشخصيات المؤثرة، كل هذا من خلال نصوص الريماوي المبكرة ثم مقارنتها بنصوصه المتأخرة، حيث كان السؤال أين أثبتَ الريماوي ما يريد وأين سكتْ.
كل هذا ضمن جهد بحثي نقدي مقدّر يرسم صورة مهمة لأي مطالع على التاريخ الفلسطيني وكيف انتقل الفلسطيني في مواقفه مضطرًا أو متأثرًا بمتغيرات الظروف من حوله.
يقول المحرر: “إن المقارنة بين نصوص الريماوي المبكرة والمتأخرة، عكست حضور الإثبات/الإسكات فيها، بما يمكن اعتباره نموذجًا لنصوص المهزومين المؤسسة على الذاكرة، والتي تقرأ الحدث بعين الحاضر، فتتغير هذه الذاكرة بتغير الوقائع والتحالفات… ” ص110.
بعد هذه المدخل المؤسِّس والأساسي في فهم طبيعة الكاتب الريماوي، انتقل المحرر إلى تقسيم الكتاب إلى ثلاثة فصول. وضع في الفصل الأول تحقيقًا لنص التقرير الذي رفعه الريماوي إلى الحاج أمين الحسيني عن الجهاد المقدس. مع إضافة هوامش غنيَّة تساعد القاريء في فهم الأحداث التاريخية وسياقها العام الذي حصلت فيه. وفي المادة معلومات أولية أساسية حول الجهاد المقدس تأسيسه وطبيعة تشكيلاته العسكرية وتشكيله وفعله والمشكلات التي عانى منها. وفيه معلومات لا غنى عنها لأي باحث في تاريخ الفعل العسكري الفلسطيني خلال النكبة، والتأثيرات التي حصلت على الساحة الفلسطينية بعدها.
أما الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان “نصوص من سيرة الجهاد المقدس” فقد أورد المحرر فيه نص الريماوي الذي كتبه عن رفيقه عبد القادر الحسيني، وأضاف المحرر إليه ما كتب الريماوي من نصوص لاحقة منشورة حول سيرة الجهاد المقدس. حيث أوردها الباحث ضمن خمسة محاور مركزية جمعها بطريقته الخاصة، تحكي سيرة الجهاد المقدس ضمن سياق زمني محدد وسردية خاصة بالمؤلف الريماوي وضع فيها خلاصة رأيه ورؤيته لتأسيس ومسيرة الجهاد المقدس ومواقف المحيطين به خلال تلك الحقبة الزمنية المفصلية في تاريخ فلسطين، ويقارن الكاتب خلال ذلك كله بين النصوص التي كتِبت في مراحل تاريخية مختلفة ويظهر ما حاول الكاتب إثباته وإسكاته خلال المراحل المختلفة من الكتابة.
أما الفصل الثالث “شذرات” فقد اعتمد فيه المحرر على تحقيق نصوص الريماوي التي لا تندرج بشكل مباشر تحت الفصلين السابقين حفاظًا منه على وحدة موضوع الفصول السابقة، بينما قدم الباحث خلال هذه النصوص رؤية الريماوي للعديد من القضايا المتعلقة بقضية فلسطين كموقفه من النكبة وغير هذا من المواقف التي سجلها في مقالات لاحقة.
وقد ألحق المحقق بالمتن نصوص مختارة من النصوص الأصلية إضافة إلى ملحقات صور وخرائط مختلفة تخدم النص الذي قدمه الريماوي تجدها خلال النص.
يعتبر هذا الكتاب واحدًا من الكتب الفريدة التي تقدِّم مادة أوليَّة تأسيسية لمرحلة مبكرة من مراحل العمل والنضال الفلسطيني المنظَّم، وتقدم صورة عملية واقعية لطبيعة الصراع واختلاف الآراء الذي أوصل القضية الفلسطينية لما وصلت إليه عبر تاريخها من إشكاليات وتضحيات وهزائم. النص والدراسة التي قام بها المحرر يشكِّلان إضافة لا غنى عنها لأي باحث في التاريخ الفلسطيني ابتداءً من النكبة وما جرّتها على المنطقة من أحداث.
*باحث مُشارك في مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية بجامعة إسطنبول “زعيم” ومحاضر في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بنفس الجامعة.
(المصدر: عربي21)