كتاب المَخرج الوحيد.. الإسلام والعلم ونظرية التطور
مراجعة عبد المنعم أديب
تعدُّ “نظرية التطور” أحدَ أهمّ دعائم الإلحاد في العصر الحديث. لأنَّها توفِّر غطاء علميًّا لفكرة أنَّ الكون أتى من غير خالق عن طريق مجموعة من التفاعُلات الكيميائيَّة. ولأنَّها على هذه المكانة فقد خصَّص لها كتاب “المَخرَج الوحيد” فصلاً ضخمًا، تناول فيه النظريَّة ومعضلات تقف في طريقها، وكذلك تناول مسألة الإسلام وعلاقته بالعلم، وتناول بعضًا من رؤية الإسلام لبدء الكون وخلق الأشياء والإنسان.
وسنركِّز هنا على هذَيْن القسمَيْن: نظرية التطور في الميزان، والإسلام والعلم. باختصار بالغ وبحذف كامل لكثير من التعقيدات العلميَّة التي أوردها الكاتب “د/ عبد الله الشهري” والتي تحتاج إلى خبرة أو على الأقلّ سبق معرفة بعلوم الأحياء والفيزياء وفلسفة العلوم. كما سندمج بعض المقاطع من فصول أخرى لنكون أنساقًا معرفيَّة سهلة ميسورة لنا جميعًا.
القسم الأوَّل: نظرية التطور في الميزان
الكاتب المُخلص للطريقة الغربيَّة في الكتابة -والتي لها أساليب مختلفة عن الكتابة المُعتادة لدينا- لا يُعرِّف الأشياء بل يبثُّها بثًّا في ثنايا الحديث. وبالعموم “نظرية التطور” هي نظريَّة أحيائيَّة ضخمة نشأت على يد العالِم الشهير “تشارلز دارون” -وبالذكر يرى أستاذ الفلسفة الإسلاميَّة الشهير د/ حامد طاهر أنَّ جماعة “إخوان الصفا” قد سبقتْ دارون في القول بالتطور وله بحث في الأمر-. تقوم النظريَّة في بساطتها على أنَّ الكون لمْ يُخلقْ لكنَّه تطوَّر شيئًا فشيئًا عن طريق مجموعة من التفاعُلات بين المواد الكيميائيَّة التي يتركَّب منها الكون، وظهرت الأنواع المُختلفة عن طريق آليَّة “الانتخاب الطبيعيّ”، ومدى تكيُّف الأنواع الموجودة والتي من خلالها تستحقُّ البقاء عن أخرى قد انقرضتْ. مع العلم بأنَّ النظريَّة أشدُّ تعقيدًا من هذا التبسيط السابق؛ لأنَّ لها الكثير من الجوانب الأخرى في علاقاتها مع عدد كبير من العلوم.
هذا ما لمْ يقُلْه الكاتب بوضوح. لكنَّ ما قاله أشدُّ فائدةً ومنه أنَّه أورد أنَّ النظريَّة لها جانب إلحاديّ وهو التصوُّر السابق، ولها جانب إيمانيّ يعتقد أنَّ هناك إلهًا كان وراء هذه التفاعُلات وجَمعِها، ووراءَ بقاء أنواع وانقراض أخرى. ففي أبسط التقسيمات للنظريَّة أنَّها نوعان: تطوُّر عشوائيّ إلحاديّ، وتطوُّر مُوجَّه وهذا أحد الاتجاهات الإيمانيَّة.
علاقة الإسلام بنظرية التطور
لمْ يرَ الكاتب تعارُضًا بين الإسلام وبين “نظرية التطور” في مفهومها العُموميّ، بل وحَّد بين مفهومَيْ التطوُّر والصَّيرُورَة -أيْ التغيُّر المُستمرّ- وحاول ربطهما ببعض الآيات القُرآنيَّة. وكذلك لمْ يرَ في آليَّة الانتخاب الطبيعيّ تعارُضًا صرفًا مع الإسلام، بل حاول الجمع بين هذه الآليَّة وبين أنَّ الله -تعالى- يخلق ويختار من مخلوقاته ما يشاء.
وكذلك حاول تفسير الهداية التي يودعها الله في خلقه منذ الخلق مع فكرة -أو مُكوِّن إنْ أردنا الدقة- المعلومات الجِينيَّة. أمَّا ما رفضه رفضًا مُطلقًا فهو الصورة الإلحاديَّة من النظريَّة أو الاعتقاد أنَّ الطبيعة هي الخالقة لا الإله. كلُّ ذلك لأنَّه رأى أنَّ الرفض المُطلق للنظريَّة يعدُّ تعميمًا لموقف يقتضي التدقيق والاختيار.
بعض النقود التي أوردها على نظرية التطور
هناك الكثير من النقول التي بثَّها الكاتب في صفحاته تحمل مُعضلات أمام النظريَّة بصورتها الإلحاديَّة. سأختار منها في نقاط الأيسر لنا جميعًا:
- لو كانت رؤية النظريَّة التطوريَّة بصورتها الإلحاديَّة صحيحةً، وكان الإنسان نتاج تفاعلات عمياء لَمَا كانت فكرة الإيمان بإله خالق موجودةً أصلاً. فإذا كان الإنسان مجموع أخلاط من موادّ فمن أين أتى مفهوم الإله وفطرة الإيمان به في النفس البشريَّة؟! علمًا بأنَّ الإيمان هو الأصل والإلحاد عارض.
- نظرية التطور تصِمُ العقل الإنسانيّ نفسه بوصمة النقص والقصور؛ فكيف يكون العقل البشريّ الذي أتى بالتطور ناشئًا عن تطوُّر؟! وكيف نثق بعقلنا وهو نتاج تفاعُلات تطوريَّة عن كائنات أدنى -كما ذكر دارون نفسه في إحدى رسائله-.
- نظرية التطور لا تملك تفسيرًا للكون ولا للإنسان ولا لتعقيده الهائل، وكذلك لا تملك تفسيرًا للتعقيد غير القابل للاختزال الذي يمتاز به الكون.
- كذلك ركَّز الكاتب على أنَّ النظريَّة تخادعنا بوصف “العلم”؛ فإنَّها ليست علمًا أحيائيًّا -بيولوجيًّا- بل هي فكر بيولوجيّ، وهي أيدولوجيا بيولوجيَّة. والأدلَّة على هذا كثيرة في الآتي.
- النظريَّة لا تثبُتُ أمام الاختبار الذي يعتمده العلم التجريبيّ نفسه القائم على الملاحظة والتجربة. وقد نقل نتائج أبحاث تقدح في الأمر قدحًا هائلاً.
- النظريَّة تعتمد على سلطويَّة إلحاديَّة تدعمها بأموال طائلة، وتمتلك ولاءات في المعاهد العلميَّة الكبرى في الغرب. وبذلك يُظهِر اعتمادها على “البلطجة العلميَّة” لا العلم الحقيقيّ.
- آليَّة “الانتقاء الطبيعيّ” نفسها لا تدلُّ على العشوائيَّة، بل تدلُّ على الاختيار المُدبَّر من مُدبِّر لها. ومثَّل لهذا بعمليَّات اختيار انتقائيّ لكائنات مثل النحل وكذلك على تصرفات الإنسان.
- التطوُّر والانتقاء الطبيعيّ عاجزان عن تفسير قضيَّة “لماذا هناك أشياء أصلاً في العالَم؟!” وبذلك يكون العالَم أجمع لُغزًا ضخمًا في حدّ ذاته أمام نظر الإنسان.
- لنطرح مثالاً يقدح في النظريَّة؛ خرافة “أشباه الإنسان” -وهي التي تطورت عن القرود الراقية ومثَّلت حلقة الوصل بينها وبين الإنسان بصورته الحاليَّة- كيف حاول التطوُّريُّون الملحدون إثباتها عن طريق عمليَّات نصب تمَّ فضحها فيما بعد والتشهير بها في الأوساط العلميَّة كافَّةً، ثُمَّ لماذا لمْ تبقَ هذه الأشباه وانقرضتْ -حسب رواية النظريَّة- في الوقت الذي بقيتْ فيه القرود العاديَّة التي هي أقلّ تطوُّرًا منها؟!
- هذا ليس دليلاً لكنَّه استئناس حيث ظهر الكثير من العلماء المُحدثين الذين اتجهوا من التطوُّر العشوائيّ الإلحاديّ إلى التطوُّر الإيمانيّ الذي يؤمن أنَّ وراء عمليَّة التطوُّر إجمالاً إلهًا مُدبِّرًا. كما أنَّ “دارون” نفسه لمْ يكن مُلحدًا وأنَّ ما أنكره هو أنَّ الإيمان بالإله فطرة ضروريَّة عند جميع البشر.
هذه غالب النقود التي نقلها الكاتب في كتابه بعد تخليصها من صورها العلميَّة لغرض التسهيل.
نظريَّة التصميم الذكيّ
هذه هي النظريَّة العلميَّة المُضادَّة لنظرية التطور. وهي النظريَّة التي تقول إنَّ الكون ذو تصميم ذكيّ يشير إلى مُصمِّم هو الإله الذي صنع هذا الكون الإبداعيّ. هذه النظريَّة قديمًا كانت تُعرف بلفظ النظام -وكان المفكرون المسلمون يعرِّفونه بدليل النظام-. وفكرة التصميم نفسها دليل مُفحِم للمُلحدين؛ حيث غالبهم يتفق على أنَّ الخبرة البشريَّة المُشتركة بيننا تثبت وجود تصميم وراء الكون بمُجرِّد فحصه والنظر فيه.
كما أنَّ التصميم يدلُّ على الغائيَّة ويفسِّر الحياة بدلاً عن التصوُّر الساذج جدًّا للتطوُّر الإلحاديّ الذي يُفسِّر كلَّ هذا الإبداع الدقيق في الكون على أنَّه ضرب عشواء في ليل بهيم!.. يدلُّ على صحَّة التصميم إدراكُنا الفطريّ له، وتساؤلنا عن تصميم الأشياء واعتمادنا على أنَّها مُصمَّمة. وهنا يشير الكاتب إلى فكرة “إله الفجوات” -وهي الفكرة القائلة إنَّ المُؤمنين ادَّعوا أو اخترعوا فكرة الإله ليُفسِّروا الفجوات التي عجزوا عن تفسيرها في الطبيعة-.
وبالعموم أورد الكاتب حُججًا فلسفيَّة عميقة، سأورد بعضها مُحاولاً التيسير قدر الإمكان. ومنها:
- الحُجَّة الإنسانيَّة الغائيَّة: التي تؤكِّد على أنَّ خصائص الكون تمَّ ضبطها بطريقة تسمح بوجود كائنات ذكيَّة مثلنا، وكذلك بالحفاظ على تلك الكائنات. يؤيِّد هذه الحُجَّة حقيقتان: أنَّ البشر يتمتعون بقُدرة مُعقَّدة على المُلاحظة والاستكشاف، وأنَّ الكون مصمَّم على نحوٍ يُفسح مجال الملاحظة والاستكشاف والقياس.
- مبدأ العِلَّة الكافية: ويعني أنَّ الأشياء قد وُجدتْ على حالتها هذه لعِلَّة ما تُفسِّر وجودها، ودليلها أنَّها تخدم ما وُجدتْ من أجله.
- سؤال المعنى في الوجود الذي لا يفتأ الإنسان يطرحه على نفسه دليلٌ على أنَّ الإنسان مُصمَّم ليسأل هذا السؤال. علمًا بأنَّ السؤال عن القيمة أو الوجود ليس له موضع في ظلّ نظرية التطور باتجاهها الإلحاديّ.
بعض أفكار الكاتب عن تفسير الإسلام لخلق الكون والإنسان
لقد أدرج الكاتب أفكارًا عن تفسير الإسلام لبدء الكون وخلق الإنسان سأختار هنا بعضًا منها لعرضه باختصار. مع التنويه على أنَّ الكاتب تناول مسألة عرض القرآن للتكوُّن الجنينيّ بتفصيل.
- أصل الكون من الآية (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا). ومنها يصحح نظريَّة “الانفجار الكبير” -التي تقول إنَّ الكون ناشئ من انفجار عملاق- حيث كانت البداية فتقًا لا انفجارًا.
- البشر ليسوا مركز الكون لكنَّهم ليسوا كائنات تافهة في وسط كون شاسع كما يقول المُلحدون. بل البشر عند التدقيق هم المخلوق المُتوسِّط بين عالَم الأفلاك العُظمى وعالَم الذرَّة المُتناهية الصغر. وهكذا يفسِّر الكاتب قول الله (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فالله قد خلق الإنسان في أحسن تقويم كونيّ بين بنية البشر وبنية الأرض التي هُم عليها، وكذلك في مقام مُتوسِّط بين الأفلاك والذَّرَّات -كما سبق-. (وهُنا ننوِّه على أنَّ “أحسن تقويم” ليست جُملةً اسميَّة كما كرَّر الكاتب مرَّات بل مجرَّد تركيب إضافيّ).
- الكون نفسه في نظرة الإسلام مُتناسب مُتجانس مُتوحِّد الخواصّ وبهذا ينحو الإسلام طريقًا وسطًا بين اتجاهَيْن غربيَّيْن: وحدة الوجود عند “اسبينوزا” وبعثرة الذَّرِّيَّة عند “ديفيد هيوم”.
- اعتمد المؤلف على صفة الله “الخلَّاق” ليؤسِّس لاعتماد الكون على الخلق الدائم منه تعالى.
- لجأ إلى وجهة نظر “ابن تيميَّة” في أنَّ الله مستمرٌّ في عمليَّة الخلق بشكل أبديّ أزليّ. ورأى أنَّ هذا الرأي يفسِّر مُعضلة أنَّ الكون فجأةً ظهر أو أنَّ الإله لمْ يكن يفعل شيئًا ثمَّ خلق الكون فجأةً -نظرة تتردَّد بين ثنايا النقاشات في مسألة الخلق والوجود-.
القسم الآخر: الإسلام والعلم
لقد ناقش الكاتب هذا الأمر باحترافيَّة وثبات؛ فأكَّد على الدور التاريخيّ للعلم الذي أنتجه المسلمون من خلال نقول تؤيِّد الأمر. لكنَّ ما يُهمُّنا هنا أمران يستحقَّان العرض باختصار بالغ.
عيوب العلم في العصر الحديث
وهي من أفضل مواضع الفصل الثالث رغم أنَّها إشارات مبدئيَّة. فقد أكَّد على أنَّ الهَوَس العلميّ مُوازٍ تمامًا للتطرُّف الدينيّ الذي يتشدَّق به المثقَّفون المُحدَثون والعلماء المُلحدون ويحاولون تعميمه للتشهير به على جميع المؤمنين. فليس هناك أيُّ فارق بين أنْ تتطرَّف للدين أو العلم.
وكذلك ندَّدَ بالدعاية الرخيصة التي يتلاعب بها العلماء ويردِّدها البُلهاء من مُثقَّفينا -والسواد الأعظم من مُثقَّفينا لا يعرفون شيئًا عن العلوم التجريبيَّة للأسف ويتحدثون بغير علم ليضلوا الناس- التي تطلق على العلم ونتائجه صفة “الموضوعيَّة” وصفة “اليقينيَّة” بإطلاق. وهذه كلُّها خرافات يعرف ذلك أهل العلم. كما أشار أيضًا إلى وجود كثير من العلوم الزائفة التي يجب أنْ نحذر منها.
وكذلك نوَّه إلى عيب ضخم في البنية العلميَّة الغربيَّة هي سمة “الضياع في التفاصيل” حين يُغرقنا العالِمُ بسَيْلٍ من التفاصيل الدقيقة التي تستوعب اهتمامنا فنضيع فيها وننسى المستوى الفَوقِيّ أو الأعلى الجامع لهذه الحشود من التفاصيل. كما أشار أيضًا إلى سلطويَّة المؤسسات العلميَّة الغربيَّة وتمحورها حول ما تعتقده مهما كان خُرافيًّا وتحصينها له من أيّ نقد أو تشكيك، في الحين الذي تدَّعي فيه أمام الناس حُرِّيَّة البحث العلميّ.
شمول نظريَّة المعرفة في الإسلام
في الوقت الذي تتمحور يقينيَّة الغرب حول العلم التجريبيّ تتنوَّع مصادر نظريَّة المعرفة في الإسلام؛ حيث تتكوَّن من الوحي الصحيح وما أتى به من يقينيَّات، والمعرفة الإدراكيَّة الصحيحة العقليَّة التي مدارها العمل العقليّ، والمعرفة الحِسِّيَّة الصحيحة التي مدارها الواقع المحسوس وما يعرِّفنا إيَّاه.
(المصدر: موقع تبيان)