إعداد أمير سعيد
حين يتبادر سؤال إلى الأذهان حول اللون الأحمر في الأعلام التركية والألبانية المتعاقبة؛ فإن الإجابات في معظمها تنصرف إلى معركة قوصوة الكبرى التي سال فيها الدم بغزارة من الصرب المنهزمين، والمسلمين المنتصرين أيضاً، إذ اتخذ اللون الأحمر الذي تدفق في أرض قوصوة رمزاً للانتصار والشهادة معاً للدولة العثمانية، وكان الحدث الأبرز الذي عزي إليه اصطباغ العلم العثماني باللون الأحمر، وأعلام بعض الدول التي ورثت دولته.
كان فتح قوصوة هو نقطة التحول الكبرى في أوروبا قبل فتح القسطنطينية وكان أحد أبرز معارك العثمانيين في التاريخ الأوروبي، حيث تداعت دول أوروبا لقتال العثمانيين بعد انزعاجهم من تمدد دولتهم، لكن ملك الصرب لم ينتظر احتشاد أوروبا الكاثوليكية؛ فبادر للتحالف مع البلغار وخرجوا لقتال المسلمين نقضاً لعهدهم ومنعاً للجزية التي كانا يدفعانها للدولة العثمانية، “وسار الجيش الإسلامي إلى الأعداء، فالتقاهم في سهل (قوص أوه) سنة 791هـ، ونشب القتال بين الجانبين، ووثب المسلمون على النصارى والتحموا معهم في القتال التحامًا لم يعد يُرى معه إلا جماجم طائرة وفرسان غائرة (…) ودارت الدائرة على الصربيين، وجرح ملكهم لازار، ثم وقع أسيرًا في يد المسلمين، وانتصر المسلمون على الصربيين، وكانت من المعارك الحاسمة في تاريخ أوربا الشرقية، وظلَّ ذكرها شهيرًا في أوربا بأسرها، وزال استقلال الصرب وخضعت كل بلادها للمسلمين، كما فقدت البلغار استقلالها من قبل”، د. عبد العزيز بن راشد العبيدي/ “من معارك المسلمين في رمضان”. معركة قوص أوه أو أمسل فيلد تركت ندبة في الضمير الصربي لا تنسى. “وفي 28 يونيو من عام 1989 وبعد 600 سنة على ذكرى مصرع الملك الصربي لازار وقف الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش بين هتافات تشق عنان السماء من مئات الآلاف من الصرب العنصريين المحتشدين من كل صربيا يحيون لازار الجديد في يوم ذكرى معركة (أمسل فيلد) أو (قوص أوه) كما سماها الأتراك، (…) وقف ميلوسيفيتش منتشياً في جو محموم من روح القومية المتعصبة، ثم زعق بما أوتي من قوة: هل تعلمون ما حدث في هذا المكان قبل 600 سنة؟ لقد قُتل ملكنا واحتلت أرضنا ووضع علينا نير الحكم الأجنبي أحقابا. الحق أقول لكم لن نسمح قط أن يضرب الصرب أحد بعد اليوم. وبعد زعيق مجنون من جماهير سكرى بنعرة الشوفينية، تابع قوله بطبقة صوت أعلى: إن وقت إذلالنا انتهى بغير رجعة. فهتفت الجماهير الصربية بحناجر مبحوحة: لقد جاء المخلص”، خالص جلبي/”يوم العدالة”.
وبعد 600 عام بالتمام، أصدرت رابطة الكتاب في صربيا عام 1989م، مجلداً بعنوان كوسوفا (1389 1989م) ثم قام ميلوسيفتش بإلغاء الحكم الذاتي، وقام بزيارة كوسوفا للاحتفال بمرور ستة قرون على معركة كوسوفا حيث قال: “معركة كوسوفا بدأت قبل ستة قرون وانتهت اليوم، ونحن مستعدون أن نضحي بثلاثمائة ألف مقاتل صربي لاستئصال الإسلام من سراييفو إلى مكة”، د.يوسف الصغير/ كوسوفا المأزق – مجلة البيان.
لم تكن الهزيمة هي ما جعل الأحقاد الصليبية تتلظى على مدى ستة قرون كاملة، حتى استحالت مجازر رهيبة، أسفرت في إحداها عن استشهاد نحو 150 ألف ألباني وتهجير عشرات الآلاف خلال حرب البلقان، ومنح أراضي المسلمين لـ”المستعمرين” الصرب، ثم بعد احتلال كوسوفا مع بداية انهيار الدولة العثمانية، وتداولها من احتلال إلى آخر حتى آلت إلى الاحتلال الصربي، سفك الشيوعيون دم 47 ألف مسلم وهجروا نحو نصف مليون مسلم ألباني إلى تركيا حتى أواسط ستينات القرن الماضي، وتوالت الأحداث على “قوصوة” حتى نالت شيئاً من الاستقلال الصوري، ولم تزل تناضل من أجل انتزاع استقلالها الكامل.
ظلت قوصوة حاضرة الألبان المسلمين لقرون، ومدت الدولة العثمانية بأشد قادتها العسكريين قوة وأشدهم مراساً، منهم القائد حامد باشا الأرناؤوط مير ميران في الجيش العثماني، وأحمد بك الأرناؤوط أحد ضباط الجيش العثماني، تقول حوراء كاظم: “عدت ولاية كوسوفا من أهم الولايات العثمانية في البلقان (…) فكانت بمثابة خط الدفاع الأول للدولة العثمانية في أوروبا، ولهذا كانت مركزاً للجيش العثماني الثالث”، “الإدارة العثمانية ولاية كوسوفو” (رسالة دكتوراة)، واستأثرت بـ40 من جملة الصدور العظام (رؤساء الوزارة) في نظام الدولة العثمانية، وبثت الدعوة الإسلامية في سائر أراضي الألبان حتى دخل الألبان الإسلام، وصاروا أبرز قوة له في أوروبا بعد الأتراك، وصارت قوصوة مركزاً مهماً لنشر علوم الشريعة، وبرز منها العديد من العلماء على مر العصور في سائر بلاد الألبان، منهم علماء الأرناؤوط المشاهير كناصر الدين الألباني وشعيب وعبدالقادر الأرناؤوط، وغيرهم.
قوصوة بولجي، السهل الذي وقعت فيها المعركة، وصار من بعد مركزاً حضارياً تنبعث منه الدعوة إلى ربوع بلاد الألبان الكبيرة، ويؤثر على قوة المسلمين في سائر البلقان، بدأ النور يبزغ فيه من جديد، وتعود مساجده الكثيرة لتبوء مكانها مجدداً لإزاحة عصور الاحتلال الفظيعة، والعهد الشيوعي الذي حاولت إطفاء نور الله، من هذا السهل يأتي بصيص الأمل مثلما جاء قبل ستة قرون فأحيا الأمة الألبانية قروناً من الطمأنينة والاستقرار قبل أن تخور قوة المسلمين في أوروبا، حيث شرعت كوسوفا في النهوض رويداً.
تعاني كوسوفا اليوم من آثار الإنهاك الاقتصادي الذي مورس ضدها لعقود رغم توفرها على ثروات طبيعية وإمكانات يمكنها أن ترفع معدلات نموها بسرعة، حيث إنها لم تعانِ خلال القرون الماضية من أزمات اقتصادية كبيرة، “في الجانب المالي لم تشكل ولاية كوسوفو عبئاً على ميزانية الدولة العثمانية بل إنها ساهمت في رفد إيرادات موازنة الدولة العثمانية على الرغم من قلة سكانها بالنسبة إلى للمجموع الكلي لسكان الدولة العثمانية، وصغر مساحتها بالنسبة إلى المجموع الكلي لمساحة الدولة العثمانية”، “الإدارة العثمانية ولاية كوسوفو”. لكن الأهم أنها عانت من تجهيل مستمر لأبنائها لحرفهم عن العودة لدينهم، ومحاولات مضنية للتنصير ونشر الإلحاد بينهم، لكن يبقى الأمل قائماً بعد أن خف القيد كثيراً عنها، وبدأت مؤسساتها الإسلامية تمارس دورها، وبدأ الوعي يدب في أوساط شبابها الذي لم يزل يشعر بالاضطهاد الأوروبي لهم.
(المصدر: موقع المسلم)