قضية الإيغور.. كيف يدرأ المسلمون كيد السياسة الأمريكية؟
بقلم د. ناصر الزيادات
قتلت أمريكا قاسم سليماني على أراض عراقية لطالما كان عليها التنسيق العسكري والأمني على أعلى مستوياته بين الطرفين لقتال “تنظيم الدولة” الذي خدم حالة التمدد الإيراني في العراق وسوريا، وأسهم في تبرير وجود أمريكا بالقرب من منابع النفط، من جهة وإشعال الفتنة الطائفية التي استفادت منها أمريكا وإيران على حد سواء لتحقيق مصالحهما على الأراضي العربية من جهة أخرى. وقد أتى حدث اغتيال سليماني والرد الإيراني في الوقت الذي تسعى فيه العديد من منظمات حقوق الإنسان الدولية ووسائل الإعلام الغربية إلى إبراز قضية المسلمين الإيغور في الصين رغم أن تلك القضية ليست حديثة العهد، بل يعود تأريخها إلى احتلال الصين لإقليم “شنغيانغ” قبل حوالي 70 عام. فلماذا ظهرت قضية الإيغور على السطح فقط في الوقت الذي تتنافس فيه أمريكا والصين على الهيمنة على الاقتصاد العالمي؟
تسعى هذه المقالة إلى تسليط الضوء على المشهد الكلي لمستقبل التعامل مع قضية الإيغور من خلال الإجابة على سؤال قد يصنف على أنه استراتيجي: كيف ندعم المسلمين الإيغور بما لا يجعل كل المسلمين ضحية لخداع السياسة الأمريكية؟
هذا السيناريو مستبعد جداً ولأسباب عديدة. أهمها أن المسلمين يمتلكون الموارد ويتحالفون مع أمريكا فقط لقتال بعضهم، فحرب اليمن، والتأجيج الطائفي السني الشيعي، وصفقة القرن، وغزو العراق، وحصار قطر، كلها أمثلة على أزمة قيادة في العالم الإسلامي |
تقدم نظرية اللعب (Game Theory) عددا من السيناريوهات التي تتيح لصانع القرار الاستراتيجي تحليل أبعاد قراره من خلال توظيف سيناريو القرار وفقاً لعدد من المعاضل التي تقدمها النظرية. ولعل أفضل سيناريو يمكن تطبيقه على معضلة تعامل مسلمي العالم مع مأساة الإيغور هو سيناريو “معضلة السجناء”. في هذه المعضلة يوجد سجينان ممنوعان من التواصل مع بعضهما. وقد عرض الادعاء العام على كل واحد منهما أن يعترف على الآخر حتى يحصل على عقوبة مخفضة، في حين أن الآخر يحصل على العقوبة المشددة. وتقدم هذه المعضلة ثلاثة احتمالات: أن يعترف السجينان على بعضهما في آن واحد، وهنا يخضع كلا السجينين للعقوبة القصوى؛ وأن يعترف أحد السجينين على الآخر، فيحصل المعترف على عقوبة مخففة والآخر على عقوبة مشددة؛ وأخيراً أن لا يعترف أي من السجينين فيحصلا على عقوبة مخففة ويخسر الادعاء العام.
تمثل الصين في تعاملها مع الإيغور أحد السجناء في المعضلة، في حين أن العالم الإسلامي يمثل السجين الآخر ويلعب صانعو السياسة الأمريكية وحلفاؤهم دور الادعاء العام. وعليه، يواجه العالم الإسلامي ثلاثة سيناريوهات: أولها، المواجهة مع الصين في حرب “جهادية” بالوكالة لحساب أمريكا؛ وثانيها، اتفاق أمريكي صيني على حساب مسلمي الإيغور؛ وثالثها، اتفاق أمريكي مع العالم الإسلامي ضد الصين، وهذا أمر مستبعد جداً. أما السيناريو الأنجع والذي لا تعترف فيه “معضلة السجناء” فيتمثل في تمكن الصين والمسلمين من التواصل من أجل الإطاحة بالمخطط الأمريكي.
يتمثل هذا السيناريو بتأجيج عوام المسلمين، وإحداث ارتخاء أمني في أفغانستان للتمهيد لعودة “الجهاد” منها إلى إقليم شينغيانغ الذي يتشارك مع أفغانستان بحدود برية تزيد عن 70 كيلومتر. ومما يؤيد بدأ التحرك الأمريكي لتطبيق هذه السيناريو محادثات السلام مع طالبان، والانقلاب الإعلامي الغربي للتعاطف مع المسلمين منذ مذبحة نيوزلاندا التي قد تكون جزءاً من هذا المخطط، وتحرك الهند ضد المسلمين في كشمير التي تقع جنوب إقليم شينغيانج، ومراكز الاعتقالات الصينية ضد الإيغور الذين تعتبرهم الصين جزءاً لا يتجزأ من المخطط المستقبلي لحرب جهادية ضدها، واختراق الصين لأمريكا في تكوين علاقات مع باكستان التي تعتبر من أهم البوابات اللوجستية والأيديولوجية والأمنية للـ”جهاد” في أفغانستان.
يعتبر هذا السيناريو الأسوأ للمسلمين وللصين والأفضل لأمريكا وحلفائها. فهو سيناريو شبيه بالـ”جهاد الأفغاني” الذي أثبت التاريخ أنه كان عبارة عن حرب “إسلامية” ضد الشيوعية ولحساب الغرب الرأسمالي “الحر”. والذي أثبت أنه كان فكرة ناجعة لدحر السوفييت، ومن ثم تشويه صورة العالم الإسلامي من خلال أفعال “القاعدة” وأخواتها، و “داعش” الإبن الأسوأ العاق لها، والذي لم يبق جهاز استخباري متنفذ لم يستخدمه لمصالحه، والذي دمر حواضر العراق السنية، وقتل قيادات الثورة السورية، ثم سلم الأراضي لوكلاء روسيا وإيران وأمريكا.
عام 1995 ألغى بيل كلينتون العقوبات على روسيا بسبب حربها على الشيشان، فيما ألغى بوريس يلتسين الحظر الروسي على صادرات الدجاج الأمريكية، وقد عرف الاتفاق آنذاك بـ”الشيشان مقابل الدجاج”. نعم، هذه هي أمريكا “الحرة” التي تقايض حقوق الإنسان بصادرات الدجاج. وهؤلاء هم المسلمون، كما تراهم أمريكا، يمكن مقايضتهم بصادرات الدجاج. قبل أسابيع أقر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون عقوبات على مسؤولين صينيين بسبب انتهاكات حقوق المسلمين في شينغيانغ. في حقيقة الأمر، القانون كله جزء من أوراق الضغط على الصين بتأجيج المسلمين عليها. لكن كعادة أمريكا، تستخدم حقوق الإنسان في كل الدنيا لخدمة مصالحها. فبين طيات القانون الأمريكي ضد الصين عقوبات على شخص واحد ذي أهمية وهو خوان شين، رئيس الحزب الشيوعي في شينغيانغ. هذا الشخص له علاقات وطيدة مع شركات تكنولوجيا التجسس الصينية، وهذا هو بيت القصيد. ربما ترتقي نظرة أمريكا للمسلمين هذه المرة فتقايضهم بتنكنولوجيا التجسس بدلاً من الدجاج، وينتهي الأمر، كما العادة، بتسوية الأمور على حسابهم لأنهم الحلقة الأضعف منذ سقوط الدولة العثمانية.
هذا السيناريو مستبعد جداً ولأسباب عديدة. أهمها أن المسلمين يمتلكون الموارد ويتحالفون مع أمريكا فقط لقتال بعضهم، فحرب اليمن، والتأجيج الطائفي السني الشيعي، وصفقة القرن، وغزو العراق، وحصار قطر، كلها أمثلة على أزمة قيادة في العالم الإسلامي لا سيما العربي. علّني أشدد هنا أن المشكلة ليست في أمريكا، بل هي فيمن يعرفون بأنهم “قادة” في العالم الإسلامي، وفي مؤسسات العمل المشترك الإسلامي، وفي علماء السلاطين، وفي المستودعات الفكرية، إن وجدت، في العالم الإسلامي. ربما تكون القمة الإسلامية المصغرة التي عقدت في كولالمبور مؤخراً بارقة أمل لمشوار الألف ميل. فكيف يمكن للقمة المصغرة أن تعمل استراتيجياً مع الصين لدرأ مكائد أمريكا، وحل مشكلة الإيغور، وتحقيق نجاحات مشتركة؟
لا تعترف معضلة السجناء بتعاون السجينين، لأن الادعاء العام يحرص على عزلهما عن بعضهما. وهنا يكمن التحدي الاستراتيجي في إيجاد قنوات اتصال بين العالم الإسلامي والصين. فالأخيرة تعيش ضمن محيط إسلامي منذ قرون، ويمثل المسلمون من جيرانها ما يزيد عن نصف سكانها. وتتمتع الكثير من دول العالم الإسلامي بمواقع جيوسياسية استراتيجية تساعد الصين في تحقيق مشروعها “الحزام والطريق”. ولدى الصين علاقات استراتيجية مع إندونيسيا وباكستان تحديداً في هذا الصدد، كما أن الصين في حاجة لدول العالم الإسلامي في أفريقيا، ولها علاقات استثمارية فوق العادة مع الجزائر، في الحقيقة كلا الطرفين يحتاجان لبعضهما أكثر من أي وقت مضى.
قرأت مقالة الباحث يربا الخراشي “من هم ضحايا زعزعة إقليم شينغيانغ الصيني؟” على مدونات الجزيرة. وقد أجزل الباحث في تأطير المشهد الإسلامي-الصيني. وبلغته الرشيقة، وصف “قطار التنمية الصيني فائق السرعة” الذي بدأ بالانطلاق نحو العالم، ولفت إلى أهمية التقارب الصيني الإسلامي في ضوء التاريخ المشترك المليء بالسلم، وبعض الثقافات المشتركة بين الأمتين. علني أثني هنا على ما جاء في تلك المقالة، وأستغل الفرصة لأخذ ما ورد فيها إلى مستوى آخر.
فمشكلة العالم الإسلامي، كما أوضحت، أنه يعاني من أزمة في القيادة. فلو وجدت الصين قيادات إسلامية تتعامل معها وفق المصالح المشتركة، ووفق التاريخ السلمي بين الأمتين، لما كانت حصلت أزمة الإيغور ابتداءاً. لعل أزمة الإيغور تكون التحدي الأبرز لدول قمة كولالمبور، أو ربما مفتاح النجاح لتلك القمة. فقد تبين أن قادة الدول الذين حضروا قمة كولالمبور أنهم يمثلون نبض غالبية الشارع الإسلامي وأحلامهم بتحقيق تكامل وتعاون مثمر بين دول العالم الإسلامي. كما أن عدد سكان دول قمة كولالمبور يفوق نصف المسلمين في العالم هذا بالإضافة إلى امتلاك غالبية قلوب المسلمين من الدول التي لم تشارك في القمة.
استعرضت هذه المقالة سيناريوهات التعامل مع أزمة الإيغور وفق “معضلة السجناء” في نظرية اللعب. ورأى الكاتب أن أسوأ السيناريوهات هو الحرب “الجهادية” ضد الصين بالوكالة لحساب أمريكا. وحذرت المقالة من سيناريو مقايضة المسلمين في صفقة مصالح صينية أمريكية. وأبرزت أهمية فتح قنوات اتصال إسلامي صيني وفق مبادئ المصالح المشتركة، وألقت بمسؤولية حل الأزمة وفق أنجع السيناريوهات على عاتق قادة قمة كوالالمبور لأنهم يمثلون نبض غالبية الشارع الإسلامي، ولأن مؤسسات العمل الإسلامي المشترك غير فاعلة منذ زمن بعيد، وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
(المصدر: مدونات الجزيرة)