قصة علمية خلدها الزمن: اليونيني ومخطوطته الشهيرة لصحيح البخاري
تأليف : منتصر زمان
ترجمة : عبدالجليل السحيمي
تحرير: ناريمان علاء الدين
أثناء جهوده لتحديد النسخة الاصلية لصحيح البخاري ، حدد ابن حجر العسقلاني (المتوفى 852 هـ) تسع طرق للرواية عن محمد بن يوسف الفربري (توفي عام 320 هـ)- احد الرواة الرئيسيين لصحيح البخاري عن مصنّفه – و تتضاعف هذه الطرق مع انتشار الرواية في كل جيل متتالٍ. و على ان اختراع المطبعة سمح بإنتاج نسخ متطابقة لا تعد ولا تحصى من كتاب صحيح البخاري بكل سهولة ، الا ان هذا امتياز لم يُسمع به منذ وقت ليس ببعيد. وبالتالي ، و بسبب مجموعة من العوامل المتعلقة بالمنهجية ، والذاكرة ، والفهم ، والحضور ، والإشراف على الكتابة ، اختلفت تحقيقات صحيح البخاري بشكل طبيعي في تفاصيلها. و في القرن السابع الهجري ، شرع أحد الباحثين في بلاد الشام في جمع التحقيقات المختلفة الرئيسية لإنتاج نسخة اكثر دقة للصحيح .
كان التحقيق الخرافي لصحيح البخاري في دمشق حوالي عام 666 هـ برئاسة عالم الحديث الشهير شرف الدين اليونيني (المتوفى 701 هـ) ، بمساعدة العالم اللغوي الشهير ، ابن مالك (توفي 672) هـ ، في تجمع للعلماء الذين استخدموا المخطوطات التي نالت استحسانا كبيرا من ” الإحالات المرجعية ” في حلقة رائعة من الحفاظ على الأدب في تاريخ البشرية. و لا يمكن المبالغة في التأكيد على دور اليونيني اثناء تلك الفترة الزمنية في جمعه لتحقيقات صحيح البخاري الاساسية في مخطوطة واحدة. و ابتداءً من سيرة اليونيني ، سوف يستكشف هذا المقال هذا المشروع الهائل على صحيح البخاري . بالاضافة الى انه تم إرفاق ثلاثة أوراق من المخطوطات المتعلقة بالنسخة اليونينية لغرض التوضيح.
سيرته :
وُلد اليونيني عام 621 هـ ، و ينتمي أبو الحسين شرف الدين إلى عائلة علمية انحدرت من بلدة صغيرة في منطقة بعلبك تُعرف باسم يونين ، ومن هنا جاء لقب اليونيني. ومع الحملات الصليبية في الغرب والغزو المغولي للأراضي الإسلامية الشرقية ، كان المشهد السياسي خلال حياة اليونيني مضطرب للغاية. و كان والده تقي الدين اليونيني (المتوفى عام 658 هـ) ، وهو عالم فقه حنبلي وعالِم حديث ، وشقيقه هو المؤرخ الشهير قطب الدين اليونيني (المتوفى عام 726 هـ). و بطبيعة الحال ، كانت تربيته التعليمية استثنائية. فمنذ سن العطاء ، كان يتردد على مجالس العلماء و قد حظي بالدراسة على يد أكثر من سبعين مُدرسًا . وفي سعيه المستمر للتعليم ، سافر مرارًا وتكرارًا إلى مراكز المعرفة مثل دمشق ومصر حيث درس في عهد إبن الصلاح (المتوفى 643 هـ) والمنذري (المتوفى 656 هـ) ، على التوالي.
وغني عن القول إن بروزه في مجال الحديث جذب عدداً لا يحصى من طلاب العلم إلى حلقة دراسته. ومن أبرز قائمته الطويلة من الطلاب تقي الدين بن تيمية (توفي 728 هـ) ، والقاسم البرزالي (توفي 739 هـ) ، وشمس الدين الذهبي (توفي 748 هـ). و بدون استثناء ، ليس لدى سيرة حياته سوى أشياء إيجابية لقولها عنه. يصفه الصفادي (المتوفى عام 764 هـ) بأنه “لا مثيل له” ويذكر الذهبي أنه كان “المعلم للعلماء”. و تتكون مؤلفاته فقط من مشيخة ومجموعة من الأحاديث المرفوعة ، ولكن مساهمته الرئيسية في العالَم الأكاديمي كان عمله الاستثنائي في صحيح البخاري. اذ انه في غضون سنة واحدة ، قام بمقابلته و تحريره بمختلف تكراراته ، ثم أسمعه بأكمله أحد عشرة مرة .
و في يوم الجمعة الخامس من رمضان ، 701 هـ ، بعد دخوله مكتبة محلية ، تعرض اليونيني للاعتداء الجسدي من قبل مهاجم مضطرب العقل ، مما أدى في النهاية إلى وفاته بعد عدة أيام عن عمر 80 عامًا. وقضى أيامه الأخيرة مُحاطا بالكتب ، و كانت حياة اليونيني تجسيدًا للقول الشهير: اكتسب المعرفة من المهد إلى اللحد – رحمه الله.
مشروع اليونيني على صحيح البخاري :
في حوالي عام 666 هـ في دمشق ، عقد اليونيني اجتماعات للعلماء على مدى 71 جلسة لإعداد مخطوطة ذات دقة عالية لصحيح البخاري. و لهذا الغرض ، حصل اليونيني على خمسة مخطوطات قيمة ( نُسخ ) من الصحيح ، جاعلا أحدها هو النص الأم ويشير إلى الاختلافات في الباقي من خلال الرموز. و من خلال اقتصاره على مخطوطة واحدة كالنص الأم ، لم يقم اليونيني بإجراء تغييرات على النص الرئيسي حتى لو اعتبر البديل أكثر دقة ، وفي هذه الحالة فهو يضع الاختلاف في الهوامش ثم يضع علامة عليه أكثر دقة . ولتوضيح ذلك فإنه استهل عمله بمقدمة يحدد فيها طريقة منهجه في التحقيق .
و استند النص الأم إلى مخطوطة عبد الغني المقدسي ، والتي بدورها استندت على مخطوطة أبي الوقت كمثال نموذجي وتضمنت اختلافات أخرى. و حتى القرن التاسع ، كانت مخطوطة المقدسي هي الأكثر موثوقية بالنسبة إلى المشرقيين ، بشهادة كل من المنذري (المتوفى عام 656 هـ) ، والذهبي ، والعلائي (المتوفى عام 761 هـ). و كان لدى اليونيني ابن زيد (توفي 702 هـ) ، وهو كاتب مؤهل معروف بخطه المكتوب بخط اليد ، نسخة من هذه المخطوطة لاستخدامه كنص أُم للتحليل التوضيحي المذكور أعلاه. ثم تم استخدام المخطوطات التالية لملاحظة الاختلافات :
– أبو ذر الهروي (توفي 434 هـ) ، والذي استخدم الرمز “ه ” رمزا لرواية أبو ذر عن المستملي (المتوفى عام 376 هـ) ، والحموي (توفي عام 381 هـ) ، والكُشميهني (توفي عام 389 هـ) عن الفربري ، و الرموز الاخرى تميّز المصادر المختلفة .
-عبد الله الاصيلي (توفي عام 392 هـ) عن أبو زيد المروزي (المتوفى عام 371 هـ) عن الفربري ، والذي استخدم له الرمز “ص”
-ابن عساكر (توفي عام 571 هـ) عبر طرق متعددة تعود إلى الفربري ، والذي استخدم له الرمز “س”
-أبو سعيد السمعاني (توفي عام 562 هـ) عن أبي الوقت (توفي 553 هـ) عن الداوودي (توفي عام 467 هـ) عن الحموي عن الفربري ، رامزا لها برمز ” ظ ” بسبب دقة السمعاني و قوة ذاكرته و حفظه .
تشمل الرموز الأخرى مثل ” لآ ” إلى إغفال شيء ما في مصدر معين و ” ص ” و ” هـ ” لإظهار تفضيل احد الاختلافات. فعلى سبيل المثال التوضيحي ، تمت ملاحظة بعض الاختلافات في الشكل 1 على النحو التالي: تحتوي كل من ” هـ ” و “س ” (أبو ذر وابن عساكر ) على رسول الله بدلاً من النبي ؛ و ” ص ” ( الاصيلي ) تحتوي على أخبرنا بدلاً من أخبرني ؛ و ” هـ ” ، “ص” ، ” س ” ، ” ت ” (أبو ذر ، الاصيلي “ابن عساكر ، وأبو الوقت ) حُذف منها ” هذا” و هذا مُلازم لما في النسخ “ص ” و “هـ ” ( النسخ الأكثر دقة). و تجدر الاشارة الى ان جمع ابو ذر للاختلافات من شيوخه الثلاثة عن الفربري هو محاولة لفعل شيء ما ، ومن ثم بعد قرون طويلة ، يهدف مشروع اليونيني إلى تحقيق ذلك ، وإن كان ذلك على نطاق أوسع بكثير.
دور ابن مالك :
و كجزء من مشروعه ، سعى اليونيني إلى الحصول على خبرة ابن مالك (توفي 672 هـ) ، النحوي الأندلسي الشهير ، الذي حضر الجلسات ، ولعب دورًا مهمًا في توضيح القضايا اللغوية العويصة. و حول طبيعة دور ابن مالك ، كتب اليونيني ، الذي كان القارئ الرئيسي ، في ملاحظاته الختامية أن التحليل الشامل والتعديلات قد اكتملت بحضور ابن مالك ، الذي ”
راعى قراءتى وَ لاحظ نطقى فما اختاره ورجحه وأمر بإصلاحه أصلحته وصححت عليه وما ذكر أنه يجوز فيه إعرابان أو ثلاثة كتبت عليه معا فأعملت ذلك على ما أمر ورجّح ”
و كتب ابن مالك ، ” فكلما مرَّ بهم لفظ ذو إشكال بينت فيه الصواب ،وَضبطته على ما اقتضاه علمى بالعربيَّة “. وتتألف رسالة ابن مالك ” شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح ” من 71 قسمًا بناءً على عدد الجلسات التي أشرف عليها. فعلى سبيل المثال ، وفقًا للباب 27 في حديث التسريع بالجنائز ينص ابن مالك على أن الضمير في ” إليها ” يجب أن يكون مذكّراً ” إليهِ ” لأنه يشير إلى كلمة خير. مستشهدا بآيات قرآنية و أحاديث و ابيات من الشعر، و يشرح أنه يصح نحويا استخدام ضمير مؤنث للإشارة إلى كلمة مذكّرة عندما يكون المقصود مؤنث . على الرغم من أن كلمة خير مذكّرة ، إلا أن المقصود بها هو الرحمة أو الحسنة وكلها مؤنثة .
و كما يتضح بعد قراءة دقيقة لكتاب شواهد التوضيح وتعليقات ابن مالك المدونة في هوامش مخطوطة اليونيني ، فإن ابن مالك لم يغير أي أخطاء نحوية في نص صحيح البخاري. اذ أنه فقط ضبط تشكيل الأحرف و شَرَح الجمل الغامضة . وحتى الجُمل التي تتعارض ظاهريًا مع القواعد اللغوية المتعارف عليها ، و بمجرد إثبات أنها جزء من الرواية قدم تفسيرات لها. وبناء على ما تقدّم ، فليس كل جملة تتعارض ظاهريا مع قواعد اللغة المعروفة ، ففي كثير من الحالات قدم ببساطة للاصول النحوية للجمل التي تتوافق بالفعل مع هذه القواعد و سلّط الضوء على نقاط الخلاف بين النحويين ، واستخدم بعض الجمل كذريعة لتوضيح المفاهيم التي لم يتم تناولها بشكل كاف في كتب اخرى .
معلومات اضافية على النموذج :
خلال وبعد فترة حياة اليونيني ، كان الوصول الى مخطوطته متاحا و ميسّر و تم كتابة نسخ عليها لا حصر لها . ثم نُقلت كهدية إلى مدرسة الامير علاء الدين اقبغا (المتوفى 843 هـ) في القاهرة ، وخلال ذلك الوقت ، استخدمها القسطلاني (توفي عام 923 هـ) لشرحه على صحيح البخاري المُعنون ب “ارشاد الساري ” . و بعد ان بقيت في حوزة محمد الروضاني (المتوفى سنة 1094 هـ) ، مؤلف جامع الفوائد ، انتقلت إلى يد عالم الحديث المكّي عبد الله بن سالم البصري (المتوفى 1134) هـ) ، الذي قضى عشرين عاما في تنقيح نسخته الشخصية من صحيح البخاري بدقة و مقابلتها على عدة مخطوطات بما فيها اليونينية.
و في عام 1893 م ، أصدر السلطان العثماني ، عبد الحميد الثاني (المتوفى عام 1918) مرسومًا ملكياً إلى دار النشر في القاهرة ، ” المطبعة الأميرية ” ، لطباعة نسخة مقيّمة بدقة من صحيح البخاري . وذلك بالاستعانة بعد من المخطوطات التي لا تُقدر بثمن ، ولا سيّما اليونينية التي تم إرسالها من مكتبة اسطنبول السلطانيّة لهذا الغرض ، و تم الانتهاء من المشروع بحلول عام 1895 م ، وتم إصدار الطبعة الأولى من العمل في تسعة مجلدات. ثم كُلّفت لجنة مكونة من 16 باحثًا من الأزهر – تحت رعاية شيخ الأزهر ، حسونة النواوي – بمراجعة العمل. و من غير المؤكد ما إذا كانت اليونينية بقيت في القاهرة بعد المراجعة أم أُعيدت إلى إسطنبول، إذ أن مكان وجودها غير معروف حاليًا.
سواء كان الأمر كذلك ، فهناك نسخ ثانوية متعددة من المخطوطة تُكافئ أو حتى افضل من النسخة الاصل ، كما اوضَح القسطلاني فيما يتعلق بنسخة محمد الغزالي (المتوفى 777 هـ). و قد تكون النسخة الثانوية الأكثر قيمة هي نسخة من كتاب شهاب الدين النويري (المتوفى 733 هـ) ، الذي كتب بدقة عالية على الأقل ثماني نسخ من مخطوطة اليونيني . وهناك مصدر ثانوي ثمين آخر يمكن الوصول إليه ، و هو كتاب القسطلاني ” إرشاد الساري ” ، الذي استخدم كُلا من المخطوطة الأصلية بالإضافة إلى نسخ ثانوية ممتازة .
في الختام :
بالنظر إلى أن صحيح البخاري يلعب مثل هذا الدور المحوري في توثيق أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس من المفاجئ أن يولي العلماء اهتمامًا تاريخيًا لم يسبق له مثيل للحفاظ على سلامته النصية . ففي القرن السابع ، قام عالم الحديث الدمشقي ، شرف الدين اليونيني ، بتنفيذ مشروع فريد من نوعه ، لضمان إنجاز هذه المهمة بطريقة من شأنها أن تزين سجلات التاريخ. إن الجهود التي بذلها اليونيني في الحفاظ على تحقيقات صحيح البخاري ، رغم أنها تستحق الثناء ، الا انها لا تشكل إلا جزءًا من الجهود الجماعية المتتالية التي قام بها علماء المسلمين من تلاميذ البخاري من اجل ابقاء صحيحه نقيا خاليا من الشوائب . و هناك الكثير مما يمكن قوله حول مشروع اليونين ، لكن من المأمول أن تساعد المناقشة السابقة الطلاب على تطوير فهم أساسي وتقدير لجهوده وكذلك دراسة اضافية مبنية على عمله.
الشكل 1: النسخة الخامسة بخط النويري من اليونينية.
الشكل 2: نسخة ثانوية من مخطوطة عبدالله بن سالم البصري
الشكل 3: مخطوطة عبدالغني المقدسي، النموذج الأكمل لليونينية
(المصدر: موقع أثارة)