قصة التطبيع ج(4)
بقلم رانيا مصطفى
أدرك كل من السادات ومبارك مبكرًا أن الولايات المتحدة الأمريكية ستصبح قطب العالم الأوحد، وخاصة بعد أن انشغلت أوروبا بتضميد جراحها والاستماتة للحفاظ على نفوذها؛ فظهر مبارك بحلة رأسمالية محافظًا على خط التطبيع الاشتراكي الجمهوري الذي رسمته كامب ديفيد.
كانت أطماع النظامين الرأسمالي والاشتراكي في فلسطين وطريقها البديل لقناة السويس، وفي السيطرة على نفوذ الجماعة اليهودية فيها، أكبر من أن تصنع اتفاقًا يخطو نحو حل للصراع، لذلك لم تكن كامب ديفيد واتفاقيتا أوسلو الأولى والثانية سوى محاولات للتهدئة وكسب الوقت وترتيب الأوراق وترسيخ مبدأ حل الدولتين الفضفاض كخيار وحيد يفهمه كل طرف من وجهة نظره.
مثلت كامب ديفيد بداية نهاية الاتحاد السوفيتي، وانكماش دوره في منطقة الشرق الأوسط، وردة للخلف لمعسكره الاشتراكي بنسخته الشيوعية الألمانية، فتحول من منافس يناطح رأسًا برأس إلى حزب معارض يؤلب الشعوب على أنظمتها الرأسمالية الأصيلة أو المهجنة إلى أن انهار الاتحاد رسميًا في 1991، فعادت الرأسمالية تنهش بوحشية القواعد الاشتراكية في المنطقة.
لم يضيع الجمهوريون الوقت، فوضع بوش الأب حجر أساس تواجد أمريكا العسكري في منطقة الخليج عبر خوضه و34 دولة معركة تحرير الكويت في 1991؛ ومن بعده شن بوش الابن الحرب على أفغانستان في 2001 والعراق في 2003 بحجة القضاء على الإرهاب وأطلق صيحته الشهيرة: «أن الدول التي ليست مع الولايات المتحدة فهي ضدها».
في 2005 أعلنت كونداليزا رايس وزيرة خارجية بوش الابن عن تشكيل شرق أوسط جديد عبر نشر «الفوضى الخلاقة». بدأت اللعبة من خلال إشعال حروب صغيرة، لكنها ذات تأثير كبير في المنطقة، كسلسلة الحروب الإسرائيلية على لبنان، وعلى قطاع غزة في عامي 2006 و2008.
توافقًا مع سياسة جمهوريي أمريكا، نفذ شارون في 2005 خطة فك الارتباط الأحادية الإسرائيلية مع قطاع غزة، فقام بتفكيك المستوطنات وإخلائها، وقتل معظم قادة الصف الأول الفلسطيني، وخرب البنية التحتية والممتلكات، وبدأ في بناء جدار العزل العنصري. خرجت القمة العربية الطارئة الرأسمالية الهوى بالقاهرة ببيان هزيل يؤكد على أن حلًّا مرضيًا للطرف الفلسطيني هو مدخل إلزامي لعملية التطبيع العربي الإسرائيلي، قابله بيان مؤتمر الدوحة الإسلامي الاشتراكي الروح، الناقم على الكيان المحتل والناقد للموقف الأمريكي المتسامح مع القمع الإسرائيلي.
شكلت تحركات الحزب الجمهوري تهديدًا وجوديًا للديمقراطيين فعملوا على إزاحة بوش الابن وتنصيب مرشحهم أوباما الذي طور مشروع الفوضى الخلاقة ليأخذ شكل الثورات على حكام المنطقة العربية الموالين للجمهوريين. استطاعت الدول المَلَكية امتصاص صدمة الثورات فاحتفظت بتماسكها على الطريقة البريطانية، أما الجمهوريات فلم تتحملها وانفرط عقدها. برغم أن بريطانيا لم تعد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، إلا أنها لا تزال تملك أقدم أوراق اللعب.
اعتمدت إدارة أوباما على العداء التقليدي بين التيار الاسلامي والأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية، وبرغم رفضها تولي إسلامي للحكم في بلاد الربيع العربي، وبرغم تجنب التيار نفسه الانخراط الكامل في المشهد، إلا أنها جرته في النهاية للسقوط في أتون الثورات لعلمها أنه الثقل الوحيد المساوي لوزن الأنظمة الحاكمة.
ثلاثون عامًا من حكم مبارك لمصر تخللتها خمس محاولات اغتيال فاشلة، وقلاقل واضطرابات قضى عليها بالحديد والنار، إلى أن أثمرت جهود الديمقراطيين، وبدأت موجة الربيع العربي في محاولة لاستعادة سيطرتهم على المنطقة وبترولها وممراتها الأساسية: قناة السويس، وباب المندب، إلى أن يزيحوا الليكود في إسرائيل ويضعوا أيديهم على حيفا-الخليج.
نجحت الثورات في بدايتها، فعزلت حكام مصر واليمن وتونس وليبيا، ثم أقصت توابعها حاكمي السودان والجزائر. راقب الجمهوريون عملية انتقال السلطة في مصر، وحرصوا على وصول الإسلاميين للحكم بشفافية لأجل قدره عام، ما اضطر الديمقراطيين في النهاية للتوافق معهم على قبول حل الضرورة «السيسي».
قام صندوق العسكريين الأسود بترشيح عبد الفتاح السيسي الذي قدم خدمات قيمة في إطار تحجيم الثورة المصرية، ودفعها في الاتجاه المرسوم، لذا دعمته دول النفط الموالية للجمهوريين ليصبح عسكري المنطقة المكلف بعملية إحباط ثورات الربيع العربي، وقطع الطريق أمام أحلام الفلسطينيين في سند حقيقي لقضيتهم. بالرغم من استغراقه في إثبات رأسماليته، إلا أن السيسي لم يتخل عن جذوره الاشتراكية الشيوعية، ولهذا قبله الديمقراطيون «على مضض».
نجح الجمهوريون وتولى ترامب مقاليد حكم أمريكا، فأعاد ترتيب البيت، وكما أن الديمقراطييين اعتمدوا على دفع الإسلاميين نحو التغيير، فإن ترامب رفع شعار الحرب على الإرهاب ليتخلص منهم. حافظ ترامب على استقرار حالة فشل الديمقراطيين؛ فثبت عروش ملوك ورؤساء العرب الذين مولوا إخماد ثوراتهم وقبض الثمن.
اعترف ترامب بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وكأنه يزرع راية الرأسمالية في قلب المنطقة العربية معلنًا النصر على الاشتراكية، وأوقف معونة الأونرا، وأدرج جماعتي الحوثي باليمن وحماس بفلسطين المدعومتين إيرانيًا في قائمة الإرهاب؛ منح إسرائيل تنازل مصر للسعودية عن تيران وصنافير؛ وعقد اتفاقات تاريخية لتنفيذ طريق حيفا الخليج العربي، وتشغيل خط الأنابيب الذي يربط ميناء إيلات جنوب فلسطين المحتلة بمحطة ناقلات في عسقلان على ساحل البحر الأبيض المتوسط؛ كما أنه شكل درع حماية لإثيوبيا لاستكمال بناء سد النهضة.
أعاد ترامب لحمة مجلس التعاون الخليجي في محاولة لإبعاد قطر عن الحضن الايراني، وتمركز في باب المندب بقوات إماراتية، وفي ليبيا وسوريا بقوات تركية، وانسحب من الملف النووي الإيراني، وأوقف معونات الاتحاد الأوروبي، كما شجع بريطانيا على البريكست، وقتل أبو بكر البغدادي مسمار جحا الديمقراطيين في الشرق، كما قتلوا هم بن لادن مسمار جحا الجمهوريين من قبل.
بصعوبة خلع ضرس العقل، استطاع الحزب الديمقراطي إزاحة ترامب من على منصة حكم أمريكا وتنصيب بايدن الذي يجتهد ليمحو كل قرارات ترمب رافعًا شعار الحفاظ على حقوق الإنسان في محاولة للوصول إلى حيث انتهى الديمقراطيون قبل وصول الجمهوريين للحكم. أثار ترامب عاصفة من التطبيع العربي الرأسمالي الإسرائيلي قبيل انتهاء مدته، فرشت طريق بايدن نحو منطقة الشرق الملتهبة بالشوك، لكن الأخير يفكك حقول الألغام التي زرعها الأول بتأن ويثبت قنابله ليحظى بتطبيع اشتراكي مضاد.
كنت أتساءل دومًا، ما الذي يعيق الكيان الصهيوني عن احتلال فلسطين بالكامل، فالأمر ليس صعبًا، ووسائل المقاومة ضعيفة جدًا؟ والإجابة هي أن وجود صراع حياة أو موت بين دول العالم المتكتلة حول القوتين الماليتين المؤثرتين، وهما يهود غرب رأسماليين، ويهود شرق اشتراكيين يؤدي إلى استحالة حسم قضية فلسطين لصالح طرف دون قيام حرب عالمية.
انتهى.
(المصدر: ساسة بوست)