قراءة ونقد كتاب (الكوكبُ الدُّرِّي في أنَّ صومَ يومِ عرَفةَ لم يَصُمْه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
عنوان الكتاب: الكوكبُ الدُّرِّي في أنَّ صومَ يومِ عرَفةَ لم يَصُمْه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
اسم المؤلِّف: فوزي بنُ عبدِ الله الحُميدي
الناشر : مكتبة أهل الحديث- مملكة البحرين- قلالي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1437هـ – 2016م
عدد الصفحات: 96
عرض ونقد: القِسمُ العِلميُّ بمؤسَّسةِ الدُّرر السَّنيةِ
أولًا: عرضُ الكتابِ:
هذا الكِتابُ عبارةٌ عن رِسالةٍ تتحدَّثُ عن مسألةِ صومِ يومِ عَرفةَ، وفيه يَزعُمُ المؤلِّفُ أنَّه غيرُ مَشروعٍ للحاجِّ ولا لغيرِ الحاجِّ، ويَنهى عن صِيامِه، ويُنفِّرُ منه! وأنَّ الأحاديثَ الواردةَ في الحثِّ على صيامِه واستحبابِه لغيرِ الواقف بعَرَفةَ ضعيفةٌ ولا يُحتَجُّ بها!
وقد بدَأَ المؤلِّفُ كتابَه ببعضِ العناوينِ الفرعيَّةِ تَسبِقُ المقدِّمةَ، التي يهدُفُ منها إلى النَّهيِ عن صيامِ يومِ عَرَفةَ بما يُوحي للقارئِ أنَّ موضوعَ النَّهيِ هذا موضوعٌ مُنتهٍ، ولا جِدالَ ولا خِلافَ فيه!
ومع صِغَرِ حجمِ الكتابِ إلَّا أنَّ المؤلِّفَ بدَأَ كتابَه بعدَّةِ مُقدِّماتٍ مِن النُّقولاتِ حولَ آدابِ المخالَفةِ العِلْميةِ، ونُقولاتٍ عن كيفيَّةِ النَّصيحةِ، وعدَمِ التشهيرِ بالمخالِفِ بنَقلِ عدَّةِ نُصوصٍ مِن رِسالةِ الحافظِ ابنِ رجَبٍ “الفرقُ بيْن النصيحةِ والتعييرِ”، واستوعَبَ ذلك نصفَ الكتابِ تقريبًا على ما يأتي في التعقيبِ! وبعدَ ذلك بدَأ في المدخلِ للموضوعِ، وأخَذَ المدخَلُ خمْسَ صفحاتٍ أُخرى، متكلِّمًا فيه عن مسألةِ التقليدِ وإثمِ مَن يُفتي بالتقليدِ وهو غيرُ عالمٍ بخلاف العلماءِ، وذكَرَ مَن لهم حقُّ الإفتاءِ وصِفَتَهم، وصِفَةَ الجهَّالِ المتجرِّئينَ على الإفتاءِ!
وممَّا ذُكِر مِن عناوينَ: (الإمامُ يحيى بنُ مَعِينٍ رحِمَه اللهُ لم يَصُمْ يومَ عَرفةَ). (قاعدةٌ جليلةٌ: كلُّ حديثٍ فيه ذِكرُ غُفرانِ الذُّنوب الماضيةِ والمتأخِّرةِ فهو حديثٌ ضعيفٌ). (يجِبُ توقيرُ أهلِ العِلم). (أهلُ الأهواءِ لا يأخُذون إلَّا ما لهم). (ذِكرُ الدليلِ على أنَّ أبا بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه، وعمَرَ رضِيَ اللهُ عنه لم يَصُومَا يومَ عَرفةَ في المدينةِ). (يجِبُ توقيرُ طَلبةِ العِلم، وإنْ خالَفوك في أحكامِ الدِّين).
ثم بدَأَ في المقدِّمةِ، وفيها مَدخلٌ: في أنَّ الفقيهَ هو الذي يَعرِف مواقعَ الخلافِ، لا حِفظَ مُجرَّدِ الخلافِ؛ فإنَّ المقلِّدةَ بجميع أنواعِهم في هذا الزمانِ يَحفَظون الخلافَ، لكنْ لا يَعرِفون مواقعَ الخلافِ؛ فهم يَذكُرون الإجماعَ في بعضِ الأحكام بجَهلٍ بالغٍ في الفِقه الإسلاميِّ.
ثم ذكَر الدليلَ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمْ يومَ عَرفةَ؛ لا في الحجِّ ولا في غيرِه، ولم يَتحرَّ في السَّنةِ إلَّا صومَ يومِ عاشوراءَ.
ثم تحدَّثَ عن حديثِ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها: «أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمِ العشرَ الأُولى من ذي الحجةِ»، وإبطالِ الشيخ ابنِ بازٍ رحِمَه اللهُ لتأويلاتِ حديثِ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها، وأنَّه يَبعُدُ أنْ يكونَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يصومُ العشرَ، ويَخفى ذلك على عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها، وتَضعيفِ الشيخِ لحديثِ حَفصةَ رضِيَ اللهُ عنها بالاضطرابِ، وإثباتِ صحَّة حديثِ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها.
ثم ذكَر سقوطَ الاجتهادِ مع وُجود النصِّ، وسقوطَ التقليدِ عند ظُهورِ النصِّ. ثم ذكَر الدليلَ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمِ العشرَ الأُولى مِن ذي الحجةِ، ولم يَصُمْ عرَفةَ وهو بالمدينةِ في السَّنةِ التاسعةِ، والدليلَ على أنَّ الصحابةَ الكرامَ لم يَنقُلوا صومَه في العشرِ الأُولى مِن ذي الحجةِ، مع أنَّ مِثلَ هذا يُحفَظُ ويُضبَطُ، وتتوفَّر الهِمَمُ والدواعي إلى نقْلِه، وذكَر الدليلَ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصحابةَ الكرامَ لم يَتحرَّوا في السَّنةِ إلَّا صومَ يومِ عاشوراءَ.
وذكَر الدليلَ على أنَّ تكفيرَ الذُّنوبِ المتقدِّمةِ والمتأخِّرة خاصٌّ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُشارِكُه فيه أحَدٌ. ثم ذكَر الدليلَ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُشرِّعْ لأهلِ الإسلامِ من الحُجاجِ وغيرِهم صومَ يومِ عَرفةَ، وأنَّ الإمام البُخاريَّ رحِمَه اللهُ لم يَرَ صومَ يومِ عَرفةَ؛ لضَعفِ حديثِ أبي قتادةَ رضِيَ اللهُ عنه في صومِ يومِ عَرفةَ.
وذكَر الدليلَ على أنَّ أفضلَ الصيامِ بعدَ شهرِ رمضانَ شهرُ اللهِ المحرَّمُ، وأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصحابةَ كانوا يَصومون يومَ عاشوراءَ، وأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمْ يومَ عَرفةَ، ولا أبو بكرٍ، ولا عمرُ، ولا عثمانُ، ولا علِيٌّ رضِيَ اللهُ عنهم!
ثانيًا: نَقدُ الكتابِ:
تَجدُرُ الإشارةُ -بدايةً- إلى أنَّ الكتابَ فيه أشياءُ عامَّةٌ جيِّدة وحَسنةٌ، وأمورٌ متَّفقٌ عليها، مِثلُ حديثِه عن الحثِّ على السُّنةِ والتحذيرِ من البِدْعة، وكذلك دعوتُه إلى عَدمِ تحكيمِ العاداتِ المألوفةِ في الدِّين، وغير ذلك، أمَّا ما زعَمَه المؤلِّفُ مِن أنَّ صيامَ يومِ عَرَفةَ ليس مِن السُّنة؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمْه؛ فهذا خلافُ ما عليه المسلِمون قديمًا وحديثًا مِن اعتقادِ مَشروعيَّةِ صِيام يومِ عَرَفةَ لغيرِ الحاجِّ، وجمهورُهم على استحبابِه لغيرِ الحاجِّ، وخلافُ ما يحُثُّ عليه العلماءُ والدُّعاةُ غيرَ الحاجِّ مِن صيامِ يومِ عَرَفةَ والترغيبِ فيه؛ لِمَا له مِن عظيمِ الأجرِ، واستدلالاتُ المؤلِّفِ ضعيفةٌ، ومخالِفةٌ لِفُهومِ أهلِ العلمِ، ومخالِفةٌ لطريقتِهم على مرِّ العصورِ، وقد خلَطَ في بحثِه –كما سيَتبيَّن- بيْن النصوصِ التي تَنهى عن صومِ عَرفةَ للحاجِّ وبيْن النصوصِ التي تُرغِّبُ في صيامِه لغيرِ الحاجِّ. وكذلك طريقةُ المؤلِّفِ الغريبةُ، وأسلوبُه في الردِّ والاعتراضِ، ورمْيُ المخالِفِ بما لا يَنبغي، وعَدمُ أمانتِه في النقلِ وحكايةِ الأقوالِ، وعَدمُ فَهمِه الصحيحِ لِمَا يَنقُلُ ولِمَا يَستدِلُّ به… إلخ، ممَّا أنكَرَه هو نفْسُه ونقَل ما يُنفِّرُ منه؛ قد وقَع في أكثرِه، كما سيَتبيَّنُ ذلك أيضًا.
وسوف نَتناولُ نقدَ الكتابِ على النحوِ التالي:
أولًا– نقدُ الكِتابِ من حيثُ المحتوى والمضمونُ:
فِكرةُ الكتابِ أو الرأيُ الذي انطلَق منه المؤلِّفُ غيرُ صوابٍ؛ حيث قرَّر عَدمَ مشروعيَّةِ صِيامِ يومِ عَرَفةَ للحاجِّ وغيرِ الحاجِّ على حدٍّ سواءٍ، واعتبَر غيرَه على خطأٍ ابتداءً، وأنَّ الحقَّ والصوابَ معه؛ ولذلك صدَّر الكتابَ بعنوانٍ يَحمِلُ الحكمَ النهائيَّ في الموضوعِ، وجعَل عُنوانَه: (الكوكبُ الدُّرِّي في أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ لم يَصُمْه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم). وقال بجُرأةٍ غريبةٍ في (ص: 49): “قلت: وصومُ يومِ عَرفةَ للمقيمِ لم يَعرِفْه الصحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم، ولم يُنقَلْ عنهم صومُهم ذلك اليومَ، وما لم يَعرِفْه الصحابةُ الكرامُ فليس مِن الدِّين بلا شكٍّ، وإنْ عمِلَ به الناسُ كلُّهم في هذا الزمانِ الحاضر”! ومشى في بَحثِه على لَيِّ أعناقِ النصوصِ والآثارِ؛ للاستدلالِ بها على هذا القولِ الغريب الشاذِّ!
التعقيبُ: لا نَدري كيف سوَّغَ المؤلِّفُ لنفْسِه أنْ يَجزِمَ بهذا القولِ وبهذا الحُكمِ؟! مع أنَّ الواقعَ خلافُ ذلك؛ فقد اختلَف الصحابةُ رِضوانُ اللهِ عليهم في صيامِه، ومنهم مَن صامَه في عَرفةَ وفي غيرِ عرَفةَ، كما أنَّ المراجعَ التي يَنقُل عنها المؤلِّفُ وفي الصفحاتِ نفْسِها التي رجَعَ إليها؛ فيها أدلَّةُ الاختلافِ بينهم، ومذكورٌ فيها مَن رَأى صيامَ يومِ عَرَفةَ ومَن رأى عدَمَ صيامِه، واختلافُهم هذا مع اجتماعِهم في مكانٍ واحدٍ: في المدينةِ، ومكَّةَ، وغيرِهما؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ الأمرَ واسعٌ، وقد نقَل ابنُ عبدِ البرِّ ذلك في كتابِه ((التمهيد)) (21/158)، فقال: “وكان ابنُ الزُّبيرِ وعائشةُ يصومانِ يومَ عَرفةَ، وعن عمرَ بنِ الخطَّابِ وعثمانَ بنِ أبي العاصي مِثلُ ذلك، إلَّا أنَّه قد جاء عن عمرَ أنَّه لم يَصُمْ يومَ عَرفةَ، وهذا عندي على أنَّه بعَرفةَ؛ لئلَّا تَتضادَّ عنه الرِّوايةُ في ذلك… وكان إسحاقُ بنُ راهَويهِ يَمِيلُ إلى صومِه بعَرَفةَ وغيرِ عرَفةَ، وقال قتادةُ: لا بأسَ به إذا لم يُضعِفْ عن الدُّعاء، وكان عطاءٌ يقولُ: أصومُه في الشِّتاءِ، ولا أصومُه في الصيفِ؛ وهذا لئلَّا يُضْعِفُه صومُه مع الحرِّ عن الدُّعاءِ، واللهُ أعلَمُ”. ويُنظَر في ذلك: [((التمهيد)) لابنِ عبد البرِّ (21/ 157 – 164)، و((تهذيب الآثارِ)) للطَّبَري (1/361)].
وممَّا يدُلُّ على أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ كان معروفًا لدَى الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم في عهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما جاء عن أمِّ الفضلِ بنتِ الحارثِ: “أنَّ ناسًا تمارَوا عندها يومَ عَرفةَ في صومِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقال بعضُهم: هو صائمٌ، وقال بعضُهم: ليس بصائمٍ. فأرسَلَت إليه بقدَحِ لَبنٍ وهو واقفٌ على بَعيرِه، فشرِبَه”. [أخرجه البخاري (1988) واللفظ له، ومسلم (1123)].
وقد علَّق الحافظُ ابنُ حَجرٍ على هذا بقولِه: (هذا يُشعِرُ بأنَّ صومَ يومِ عَرفةَ كان معروفًا عندهم، مُعتادًا لهم في الحضَرِ، وكأنَّ مَن جزَمَ بأنه صائمٌ استنَدَ إلى ما ألِفَه مِن العبادةِ، ومَن جزَم بأنه غيرُ صائمٍ قامت عنده قرينةُ كونِه مسافرًا، وقد عرَفَ نَهيَه عن صومِ الفرضِ في السفَرِ فضلًا عن النفْلِ) [((فتح الباري)) لابن حجر (4/237)].
ولمَّا رأى المؤلِّفُ أنَّ هذا الكلامَ صريحٌ في نقْضِ كلامِه؛ زعَم في صفحةِ (67) أنَّ كلامَ الحافظِ ابنِ حَجرٍ (اجتهادٌ في مقابَلةِ النصِّ)! وقال: (فإذا وُجِدَ النصُّ فلا رأيَ ولا اجتهادَ؛ فالنقلُ هو الأصلُ، وهو المقدَّمُ على كلِّ شيءٍ في حالةِ ما يُشبِهُ التعارُضَ). فهل فَهمُ الحديثِ على وجهِه، وعلى ما فهِمَه العلماءُ منه، وما هو واضحٌ لكلِّ متأمِّلٍ؛ اجتهادٌ في مقابَلةِ النصِّ؟!
ومِن ذلك: قوله (ص: 76): (لا يُشرَعُ لأهلِ الإسلامِ -من الحُجاجِ وغيرِهم- صومُ يومِ عَرفةَ؛ لأنه أوَّلُ أعيادِهم وأكبرُ مَجامعِهم، وقد أفطَرَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَرَفةَ والناسُ ينظُرون إليه، ولم يُبيِّنْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ غيرَ الحاجِّ يصومُه)، ثم قال: (وإليك الدَّليل…)، وساق حديثَ أمِّ الفضلِ بنت الحارثِ السابقَ، وحديثَ مَيمونةَ رضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ الناسَ شكُّوا في صيامِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ عَرفةَ، فأرسَلَت إليه بحِلابٍ، وهو واقفٌ في الموقفِ، فشرِبَ منه، والناسُ ينظُرون)).
فهذان الحديثانِ واضحانِ في كونِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفطَرَ وهو واقفٌ بعرَفةَ، وليس فيهما أيُّ إشارةٍ إلى عدَمِ مشروعيَّةِ صِيامِ مَن ليس واقفًا بعَرَفةَ مِن أهلِ الأمصارِ، وهذا مِن دَيدنِ المؤلِّفِ في تأويلِ النصوصِ والمتونِ على خِلافِ ما هي عليه، واستنطاقِها بعكسِ ما يُفهَمُ منها، وليس هذا من مفهومِ المخالَفةِ أيضًا!
بل هذانِ الحديثانِ عند التأمُّلِ يَصلُحانِ أنْ يكونَا من الأدلَّةِ لِمَن يقولُ بمشروعيَّةِ واستحبابِ صَومِ يومِ عَرفةَ؛ فإنَّه لولا أنَّ الصحابةَ يَعرِفون صومَ هذا اليومِ، أو أنَّ صومَه مشهورٌ، أو أنَّ صومَ الأيامِ الفاضلةِ مُستحَبٌّ؛ لَمَا شكُّوا في صَومِه ذلك اليومَ، وإلى ذلك أشار الحافظُ ابنُ حَجرٍ، كما مرَّ.
وفيما يلي أيضًا بيانٌ مختصَرٌ لرأيِ أئمَّةِ الأمَّةِ وفُقهائها سلَفًا وخلَفًا –بعدما ذُكِرَ ذلك عن جمْعٍ من الصحابةِ والتابعين- في صومِ يومِ عَرفةَ؛ ليَتبيَّنَ شُذوذُ رأيِ المؤلِّفِ الذي زعَمه:
فقد نقَل ابنُ عبد البَرِّ في ((التمهيد)) (21/164) إجماعَ العلماءِ على مَشروعيةِ (جوازِ) صيامِ يومِ عَرَفةَ بغيرِ مكَّةَ، وسيأتي هذا النقلُ في محلِّه من هذا الردِّ.
وقد اتَّفقت المذاهبُ الفِقهيةُ الأربعةُ (الحنَفيةُ، والمالكيَّة، والشافعيَّة، والحنابِلةُ) على استحبابِ صومِ يومِ عَرفةَ، وممَّن نقَل الاتِّفاقَ على ذلك: ابنُ هُبيرةَ؛ قال: “واتَّفقوا على أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ مُستحبٌّ لمَن لم يكُنْ بعرَفةَ” [الإفصاح 3/170].
وهو أيضًا قولُ الظاهِريَّةِ -للحاجِّ وغيرِه- كما نصَّ على ذلك ابنُ حزْمٍ في ((المحلَّى)) (7/17)، وهو أيضًا قولُ الطبَريِّ، وابنِ عبدِ البرِّ، وابنِ العرَبيِّ، وابنِ قُدامةَ، والنوويِّ، وابنِ تَيميَّةَ، وابنِ حَجرٍ، وابنِ الهُمامِ، والصَّنعانيِّ، والشَّوكانيِّ، وغيرِهم مِن العلماءِ، ولم نقِفْ على أحدٍ من المتقدِّمين والمتأخِّرين قال بعَدمِ مشروعيَّةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ لغيرِ الحاجِّ.
وكذلك أفتى باستحبابِ صومِ يومِ عَرفةَ لغيرِ الحُجاجِ عامَّةُ عُلماءِ هذا العصرِ وفقهائِه، ونَذكُر هنا بعضًا منهم: فممَّن أفتى باستحبابِ صومِ يومِ عَرفةَ لغيرِ الحُجاجِ، واستدلَّ بحديثِ أبي قتادةَ: الشيخُ محمَّد بنُ إبراهيمَ آل الشيخِ مُفتي السُّعوديةِ الأسبقُ في [فتاوى ورسائل الشيخِ محمَّد بن إبراهيمَ 4/204]، والشيخ ابنُ بازٍ في [فتاوى نُور على الدَّرب 16/ 411]، والشيخ محمَّد ناصرُ الدِّين الألبانيُّ في [سِلسلة الأحاديث الضَّعيفة 1/45]، ، والشيخ ابنُ عُثَيمين في [شرح رِياض الصالحين 5/ 304]، والشيخ صالح الفوزانُ في [دُروس وفتاوى الحجِّ 1/26].
وبه أفتَتِ اللَّجنةُ الدائمة [فتاوى اللَّجنة الدائمة – المجموعة الأولى (10/ 395)]، ودارُ الإفتاءِ المِصرية [فتاوى دار الإفتاء المصرية 9/ 255].
ويُنظَر كذلك لحكايةِ المذاهبِ الفِقهية: الموسوعةُ الفِقهيةُ بموقعِ الدُّررِ السَّنية على هذا الرابطِ:
ويُرجَع أيضًا إلى هذه المراجعِ: ((بدائع الصَّنائعِ)) للكاسانيِّ (2/79)، ((فتح القديرِ)) للكمالِ ابنِ الهُمامِ (2/350). ((مواهب الجليلِ)) للحطَّابِ (3/312)، ((الفواكهُ الدَّواني)) للنَّفراويِّ (1/91). ((المجموع)) للنَّووي (6/380)، ((مُغني المحتاجِ)) للشِّربيني (1/446). ((المُغني)) لابنِ قُدامةَ (3/177)، ((الفروع)) لابن مُفلِحٍ (5/88).
وبهذا يَتبيَّنُ أنَّ جوازَ صومِ يومِ عَرفةَ لغيرِ الحُجاجِ -بلْ واستحبابُه- معروفٌ عند الصحابةِ والتابعينَ، وعامَّةِ العُلماءِ قديمًا وحديثًا، كما سيَتبيَّن أنَّ العِللَ التي ذكَرها المؤلِّفُ لم يُصِبْ في شيءٍ منها على الإطلاقِ، وأنَّه قد اختلَطَت عليه الأمورُ؛ فعمَدَ إلى الآثارِ التي تدلُّ على عدَمِ استحبابِ صيامِ يومِ عَرَفةَ للحُجاجِ، فاستدلَّ بها على عَدمِ مشروعيةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ لغيرِ الحُجاجِ، كما أنَّه أخطَأَ في استنتاجِ الأحكامِ مِن كلام العلماءِ، ومِن تَبويباتِ كُتبِ الحديثِ، وقام بِلَيِّ أعناقِ النصوصِ؛ لِيَصِلَ إلى حُكمٍ تصوَّرَه قبلَ البَدءِ في البحثِ، ثم إنَّه لم يَعتمِدْ رأيَ المذاهبِ الفِقهيَّة في المسألةِ؛ ويكونُ بذلك قد خالَف أُصولَ المنهجِ العِلميِّ في البحثِ الشرعيِّ، وأثبَتَ أنَّه لا يستطيعُ معرفةَ كيفيَّةَ الخُلوصِ إلى الحكمِ الصحيحِ.
ومِن المُؤاخذاتِ: أنَّ المؤلِّفَ لم يَذكُرْ حديثَ أبي قتادةَ رضِيَ اللهُ عنه، ولا تخريجَه، ولا مواطنَ ضَعفِه، إلَّا بما توهَّمَ أنَّه معارَضٌ به، وحديثُ أبي قتادةَ رضِيَ اللهُ عنه هو: ((صِيامُ يَومِ عَرفةَ أحتسِبُ على اللهِ أنْ يُكفِّرَ السنةَ التي قبْلَه والسَّنةَ التي بعْدَه))، والحديثُ أخرَجه مسلمٌ في صحيحِه (2/ 818)، ولا مَطعَنَ فيه، وصحَّحه جمعٌ غفيرٌ من العلماءِ، والقولُ بأنه منقطعٌ؛ لعَدمِ سَماعِ عبدِ اللهِ بنِ مَعبَدٍ الزِّمَّانيِّ مِن أبي قتادةِ: كلامٌ غيرُ مقبولٍ؛ كما قال ابنُ حزْمٍ في [(المحلَّى: 7/19)]: “أمَّا سماعُ عبدِ اللهِ بنِ مَعبَدٍ مِن أبي قتادةِ؛ فعبدُ اللهِ ثقةٌ، والثِّقاتُ مقبولون، لا يَحِلُّ ردُّ رِواياتِهم بالظُّنون”.
وممَّا يدُلُّ على معاصَرةِ عبدِ الله بنِ مَعبَدٍ أبا قتادةَ: أنَّ أبا قتادةَ تُوفِّي سنةَ أربعٍ وخمسينَ في قولِ الأكثرينَ، وقيل: إنه تُوفِّيَ سنةَ ثمانٍ وثلاثين؛ قال ابنُ حَجرٍ في [تقريب التهذيب /1192]: (والأولُ أصحُّ وأشهرُ)، وقال عن الثاني: (وهو شاذٌّ، والأكثرُ على أنَّه مات سنةَ أربعٍ وخمسينَ)، وذكَر الذَّهبيُّ في [سير أعلام النُّبلاء 4/207]: أنَّ عبدَ اللهِ بنَ مَعبَدٍ مات قبلَ المئةِ؛ فعلى هذا تكونُ مُعاصرتُه لأبي قتادةَ ظاهرةً. وقد روى البُخاري في ((التاريخ الكبير)) 2/377 حديثًا مِن روايةِ عبدِ الله بنِ مَعبَدٍ الزِّمَّانيِّ عن أبي هُريرةَ، ولم يَتعقَّبْه بشيءٍ يَتعلَّقُ بسَماعِ عبدِ الله بنِ مَعبَدٍ مِن أبي هُريرة، وأبو هُريرة تُوفِّي سنةَ سبعٍ وخمسينَ على المُعتمَدِ، كما ذكَر ابنُ حَجرٍ في “الإصابة في تمييز الصحابة” (7/ 362)؛ فعلى هذا يكونُ سماعُ عبدِ الله بنِ مَعبَدٍ مِن أبي قتادةَ ممْكنًا؛ لتقارُبِ وفاتَيْ أبي قتادةَ وأبي هُريرةَ.
ومِن المؤاخَذاتِ: قولُ المؤلِّفِ (ص:5): (الإمامُ يحيى بنُ مَعِينٍ لم يَصُمْ يومَ عَرفةَ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ الحديثَ لم يَثبُتْ عنده، بل لم يَعرِفِ الحديثَ أصلًا، والحديثُ الذي لم يَعرِفْه الإمامُ ابنُ مَعِينٍ ليس بحديثٍ؛ فكيف العملُ به؟!”
التعقيبُ: هذا القولُ هو أوَّلُ الألفاظِ التي كتَبها المؤلِّفُ في كتابِه، ولم يَذكُرِ الحديثَ المقصودَ الذي لم يَعرِفْه الإمامُ يحيى بنُ مَعِينٍ، بل ترَك القارئَ يُخمِّنُ أنَّ المقصودَ هو الحديثُ الذي فيه صحَّةُ صِيامِ يومِ عَرفةَ، وهذا خطأٌ مَنهجيٌّ في التصنيفِ؛ إذ لا بُدَّ مِن ذِكرِ القولِ المُعتَرَضِ عليه أوَّلًا، ثم تَفنيدُه بالحُجةِ والدليلِ النَّقليِّ والعقليِّ.
ولا يَختلِفُ أحدٌ على أنَّ ابنَ مَعِينٍ حُجةٌ عندَ أهلِ الحديثِ، وإنَّ مَا يُذكَرُ -والذي ذكَره المؤلِّفُ- في حقِّ ابنِ مَعِينٍ إنما يكونُ على سبيلِ التوقيرِ والإكبارِ؛ لمَنزلتِه وفضْلِه، لا على سبيلِ التشريعِ؛ فمقولةُ: “كلُّ حديثٍ لا يَعرِفُه يحيى ليس بحديثٍ” مقولةٌ لا يُبْنى عليها قَبولُ الأحاديثِ أو رَفضُها، وليست أصلًا مِن الأصولِ، وإلَّا لَضعَّفنا كلَّ الأحاديثِ التي لم يَعرِفْها يحيى بنُ مَعِينٍ، بل هناك أحاديثُ ضعَّفها يحيى بنُ مَعِينٍ، وبعدَ البحثِ والتحرِّي في السَّندِ والمتْنِ يتيبيَّنُ أنها صحيحةٌ لا غُبارَ عليها. وقائلُ هذه العبارةِ هو الإمامُ أحمدُ بن حَنبلٍ، كما في [تهذيب الكمال: 31/ 559]، وقالها في تَعظيمِ شأْنِ يحيى بنِ مَعِينٍ في عِلمِ الحديثِ، ولا يَقصِدُ بها أبدًا أنَّ يحيى بنَ مَعِينٍ قد استوعَبَ كلَّ الأحاديثِ والآثارِ دونَ غيرِه. ثم مَن قال: إنَّ صومَ يومِ عَرفةَ أو إفطارَه كان دَيدنَ الإمامِ يحيى بنِ مَعِينٍ؟! فلعلَّه أفطَرَ في سنَةٍ، وصامَه في سنواتٍ أُخرى!
وبعد ذلك ذكَر المؤلِّفُ (ص: 5): (عن يعقوبَ بنِ إبراهيمَ بن كثيرٍ الدَّورقيِّ قال: رأيتُ يحيى بنَ مَعِينٍ عشيَّةَ عرَفةَ في مسجدِ الجامعِ قد حضَرَ مع الناسِ، ورأيتُه يشرَبُ ماءً، ولم يكُنْ بصائمٍ). قال المؤلِّفُ عَقِبَه: (وهذا يدُلُّ على أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ لم يكُنْ معروفًا عندَ الإمامِ…، ولا الناسِ…، لذلك لم يُنكِرْ عليه أحدٌ مِن الناسِ).
التعقيب: بل ذِكْرُ هذا وتقييدُه يدُلُّ على أنَّ صِيامَ يومِ عَرَفةَ كان معلومًا معروفًا؛ ممَّا اضطَرَّه إلى تَسجيلِ مثلِ هذا الحدَثِ ونقْلِه، وهو واضحٌ لمَن تأمَّلَه. والإنكارُ إنما يكونُ في تركِ الواجباتِ دونَ عُذرٍ أو رُخصةٍ، لا في ترْكِ الفضائلِ والمستحبَّاتِ، كما في حديثِ أبي سعيدٍ رضِيَ اللهُ عنه قال: ((كنَّا نسافرُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في رمضانَ، فما يُعاب على الصائمِ صومُه، ولا على المُفطِرِ إفطارُه)) [أخرجه مسلم].
ومِن المؤاخَذات: استدلالُ المؤلِّفِ بقاعدةٍ للشيخِ ابنِ عُثَيمين (أنَّه إذا أتاك حديثٌ فيه: أنَّ مَن فعَلَ كذا غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِن ذنْبِه وما تأخَّرَ؛ فاعلَمْ أنَّ قولَه: ((ما تأخَّر)) ضعيفٌ لا يصِحُّ) (ص:6).
التعقيب: هذه القاعدةُ وإنْ كانت صحيحةً، فإنَّ الاستدلالَ بها على تضعيفِ حديثِ صومِ يومِ عَرفةَ ليس في مَحلِّه؛ لأنَّ الحديثَ فيه تحديدُ سَنتينِ فقطْ -سَنَةٍ قبْله، وسَنَةٍ بعده- وليس العمرَ بأكمَلِه، أو ما تأخَّرَ بأكمَلِه، بل هي سَنةٌ واحدةٌ مُقبِلةٌ، والدليلُ القاطعُ على هذا: أنَّ الشيخَ ابنَ عُثَيمين لم يُطبِّقْ هذه القاعدةَ على يومِ عَرفةَ، وكان يُفتي باستحبابِه ويُحافِظ على صِيامِه. كما أنَّ هذا مِن نُصوصِ الوعدِ، وفضْلُ اللهِ واسعٌ ولا يُحَدُّ. والعجيبُ أنَّ المؤلِّفَ لَمَّا علِمَ هذا من حالِ الشيخِ: زعَم في هامشِ الصفحةِ أنَّ الشيخَ قد خفِيَ عليه تطبيقُ تلك القاعدةِ على حديثِ يومِ عَرفةَ!
وكذلك قال المؤلِّفُ: (وكلُّ ما يرِدُ في الأخبارِ مِن تكفيرِ الذُّنوبِ المُستقبَلةِ فهي ضعيفةٌ؛ لِتَخصيصِ ذلك بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحْدَه)، ثم قال: (ومِن هذه الأخبارِ الضعيفةِ خبَرُ صومِ يومِ عَرفةَ؛ فإنه يُكفِّرُ سَنةً ماضيةً، وسَنةً مُستقبَلةً)، وقال (ص:51): (وهذا يدُلُّ على أنَّ حديثَ أبي قَتادةَ رضِيَ اللهُ عنه في فضْلِ يومِ عَرفةَ قد أنكَره بعضُ العلماءِ؛ ممَّا يتبيَّنُ أنَّه غيرُ مُجمَعٍ على صحَّتِه)!
التعقيب: قولُ المؤلِّفِ هذا يُشِير إلى حديثِ أبي قتادةَ رضِيَ اللهُ عنه في صحيحِ مسلمٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((صيامُ يومِ عَرفةَ أحتسِبُ على اللهِ أنْ يُكفِّرَ السنةَ التي قبْلَه والسَّنةَ التي بعْدَه))، وفي روايةٍ: وسُئِلَ عن صومِ يومِ عَرفةَ، فقال: ((يُكفِّرُ السَّنةَ الماضيةَ والباقيةَ))، ويُمكِن إجمالُ الردِّ عليه في الآتي:
أولًا: بذِكْرِ بعضِ كلامِ أهل العِلم في توضيحِ هذا الأمْرِ الذي يَستشكِلُه، ويُطبِّقُ عليه تلك القاعدةَ تطبيقًا مغلوطًا مرودًا:
قال النَّوويُّ في [((المجموع)) (6/381)]: (واختلَفَ العلماءُ في معنى تَكفيرِ السَّنةِ الباقيةِ المُستقبَلةِ؛ فقال بعضُهم: معناه إذا ارتكَبَ فيها معصيةً، جعَل اللهُ تعالى صومَ يومِ عَرفةَ الماضي كفَّارةً لها، كما جعَله مُكفِّرًا لِمَا في السَّنةِ الماضيةِ، وقال بعضُهم: معناه أنَّ اللهَ تعالى يَعصِمُه في السَّنةِ المُستقبَلةِ عن ارتكابِ ما يَحتاجُ فيه إلى كفَّارةٍ، وقال صاحبُ العُدَّةِ: في تَكفيرِ السَّنةِ الأخرى يَحتملِ مَعنيينِ: أحدَهما: المرادُ السَّنةُ التي قبْلَ هذه، فيكونُ معناه أنْ يُكفِّرَ سنتينِ ماضيتينِ، والثانيَ: أنَّه أراد سَنةً ماضيةً، وسَنةً مُستقبَلةً).
وقال الشَّوكاني في [((نَيل الأوطار)) (4/324)]: (وقد استُشكِلَ تكفيرُه السَّنةَ الآتيةَ؛ لأنَّ التكفيرَ التَّغطيةُ، ولا تكونُ إلَّا لشَيءٍ قد وقَعَ، وأُجِيبَ بأنَّ المرادَ يُكفِّرُه بعدَ وُقوعِه، أو المُراد: أنَّه يَلطُفُ به، فلا يأْتي بذنْبٍ فيها؛ بسَببِ صِيامِه ذلك اليومَ).
وثانيًا: أنَّ حديثَ أبي قتادةَ له نظائرُ في تَكفيرِ الذُّنوبِ المُستقبَلةِ أو الماضيةِ؛ منها: حديثُ أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن اغتسَلَ، ثم أتى الجُمعةَ، فصلَّى ما قُدِّرَ له، ثم أنصَتَ حتى يَفرُغَ مِن خُطبتِه، ثم يُصلِّي معه؛ غُفِرَ له ما بيْنه وبين الجُمعةِ الأُخرى، وفضْلَ ثلاثةِ أيَّامٍ)) وهذا أخرجه مسلمٌ: (857).
وقال النَّوويُّ في شرحِه على صحيحِ مسلمٍ: (6/147): (قال بعضُ أصحابِنا: والمرادُ بما بيْن الجُمعتينِ: مِن صلاةِ الجُمعةِ وخُطبتِها إلى مِثلِ الوقتِ مِن الجمعةِ الثانيةِ، حتى تكونَ سبعةَ أيَّامٍ بلا زيادةٍ ولا نُقصانٍ، ويُضَمُّ إليها ثلاثةٌ، فتَصيرُ عشَرةً).
ومنها حديثُ علِيٍّ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لعلَّ اللهَ أنْ يكونَ قد اطَّلعَ على أهلِ بَدْرٍ فقال: اعمَلوا ما شِئتُم؛ فقد غفَرْتُ لكم)) أخرجه البُخاري (3007) واللفظ له، ومسلم (2494).
قال ابنُ حَجرٍ في [((فتح الباري)) (7/305-306)]: (قِيل: إنَّ صِيغةَ الأمرِ في قولِه: “اعمَلوا” للتَّشريفِ والتكريمِ، والمرادُ عَدمُ المؤاخَذةِ بما يَصدُر منهم بعدَ ذلك، وأنهم خُصُّوا بذلك؛ لِمَا حصَلَ لهم مِن الحال العظيمةِ التي اقتَضَت مَحوَ ذُنوبِهم السابقةِ، وتأهَّلوا لأنْ يَغفِرَ اللهُ لهم الذُّنوبَ اللاحقةَ إنْ وقَعَت. أي: كلُّ ما عمِلْتموه بعدَ هذه الواقعةِ مِن أيِّ عملٍ كان فهو مَغفورٌ).
فهل طبَّقَ أحدٌ مِن العلماءِ قديمًا وحديثًا هذه القاعدةَ على هذينِ النَّصينِ وغيرِهما ممَّا يُشبِهُهما، وحكَموا بضَعْفِ هذه الأخبارِ بناءً على تلك القاعدةِ؟!
ومِن المؤاخَذات: قولُه في صفحة (9): (عن سُليمانَ الأحولِ رحِمَه اللهُ قال: ذكَرْنا لطاوسٍ صومَ يومِ عَرفةَ، وأنَّه كان يُقال: كفَّارةُ سَنتينِ، فقال طاوسٌ: فأين كان أبو بكرٍ وعمَرُ عن ذلك؟! يعني أنَّهما كانا لا يَصومانِه).
وكأنَّ المؤلِّفَ هنا قد دخَل في صُلبِ مَوضوعِه بهذا الحديثِ، ولكنه طيلةَ 40 صفحةً بعدَ هذا لم يَتكلَّمْ عن صومِ يومِ عرَفةَ!
التعقيب: المؤلِّفُ قال بصِحَّةِ هذا الأثرِ دونَ نقْلِ تصحيحِ عن أحدٍ من العُلماءِ، والحديثُ مُنقطِعٌ؛ فطاوسٌ لم يُدرِكْ أبا بكرٍ ولا عمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما؛ قال أبو زُرْعةَ الرازيُّ: “طاوسٌ عن عمَرَ؛ مرسَلٌ” [((المراسيل)) لابنِ أبي حاتم (ص: 100)]، ولو سلَّمْنا بصِحَّةِ هذا الأثرِ -على حسب قولِه- فإنَّ شاهدَه عند التِّرمذيِّ عن أبي نَجِيحٍ قال: “سُئِلَ ابنُ عمَرَ عن صومِ يومِ عَرفةَ بعرَفةَ، فقال: حجَجْتُ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يَصُمْه، ومع أبي بكرٍ فلم يَصُمْه، ومع عمَرَ فلم يَصُمْه، ومع عُثمانَ فلم يَصُمْه، وأنا لا أصومُه، ولا آمُرُ به، ولا أنْهى عنه”. وقد بوَّب التِّرمذيُّ لهذا الحديثِ بقولِه: “بابُ كراهيةِ صومِ يومِ عَرفةَ بعرَفةَ” [((سنن الترمذي)) (751)]؛ فهو ظاهرٌ في صومِ يومِ عَرفةَ بعَرَفةَ للحاجِّ، وخارجٌ عن موضوعِنا، والمؤلِّفُ استدلَّ بهذا على العمومِ للحاجِّ وغيرِه. وفي روايةِ الفاكهيِّ في أخبارِ مكَّةَ التي عزَا إليها المؤلِّفُ أيضًا: جُملةٌ مهِمَّةٌ تُوضِّح المرادَ مِن الحديثِ لم يَذكُرْها المؤلِّفُ؛ وهي قولُ الفاكهيِّ: “يعني يومَ عَرفةَ في الحجِّ [((أخبار مكة)) للفاكهي (2783)]! فجاء الجوابُ على قدْرِ حالِ المُسْتفتي الذي قد فهِمَ مِن ترغيبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صيامِ عرَفةَ أنَّه يَشمَلُ الحاجَّ.
وأيضًا عزا المؤلِّفُ هذا الأثَرَ للطَّبريِّ، ولو راجَعَ المؤلِّفُ كلامَ الطبريِّ في تعليقِه على صومِ يومِ عرَفةَ والخلافِ فيه؛ لَعرَفَ منه طريقةَ أهلِ العلمِ في الكتابةِ؛ قال الطَّبريُّ: “فأمَّا الخبرُ الذي رُوِيَ عن عمرَ، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ كفَّارةُ سَنتينِ، فإنه مَعنِيٌّ به صومُه في غيرِ عرَفةَ. وكذلك كلُّ ما رُوِيَ في ذلك عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنه مُرادٌ به صومُه بغيرِ عرَفةَ” [((تهذيب الآثار- مسند عمر)) للطبري (1/350].
ومِن الجُرأةِ العجيبةِ لدى المؤلِّف: قولُه في حاشية (ص: 50): (وأمَّا الصحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم فأجْمَعوا على عَدمِ مَشروعيةِ صومِ يومِ عَرفةَ)!
فكيف يَجرُؤُ على ذِكْرِ إجماعِ الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم على هذا الأمرِ، مع ما ثبَتَ وصحَّ، واشتُهِرَ عن جمْعٍ من الصحابةِ أنهم صاموا يومَ عَرفةَ؛ ممَّا ذكَرْنا أمثلةً قليلةً عليه هنا في هذا الردِّ!
ومِن ذلك أيضًا ما ذكَره الإمامُ ابنُ حزْمٍ بسنَدِه: أنَّه قد صامه غيرُ واحدٍ مِن الصحابةِ، منهم عثمانُ بنُ عفَّانَ في يومٍ حارٍّ يُظلَّلُ عليه، وعائشةُ أمُّ المؤمنين كانت تصومُ يومَ عَرفةَ في الحجِّ. ويُنظُر الآثارُ الثابتةُ عنهم في صومِ يومِ عَرفةَ في: ((مصنَّف ابن أبي شَيبة)) (3/96)، و((تهذيب الآثار)) لابن جرير الطَّبريِّ (2370) و(2371)، و((مصنَّف عبد الرزَّاق)) (7830)، وغيرِ ذلك.
ومِن الردِّ الصريحِ الواضحِ على كلامِ المؤلِّفِ: قولُ ابنِ جريرٍ الطَّبريِّ في “تهذيب الآثارِ مُسند عمر” (1/ 365): (وبعدُ: فإنَّ كراهةَ الصومِ ذلك اليومَ لمَن صامَه غيرُ مُجمَعٍ عليه، بل ذلك مُختلَفٌ فيه، وقد اختار صومَه على إفطارِه جماعةٌ مِن الصحابةِ والتابعينَ، حتى لقد صامَه جماعةٌ منهم بعرَفةَ…)؛ فابنُ جريرٍ الإمامُ يَحكي الخلافَ صراحةً، والمؤلِّفُ يدَّعي الإجماعَ على عَدمِ المشروعيَّةِ!
وقال الشَّوكانيُّ في ((نَيل الأوطار)) (4/284) عند شرحِه لحديثِ أبي قتادةَ: (والحديثُ يدُلُّ على استحبابِ صومِ يومِ عَرفةَ، وكذلك الأحاديثُ الواردةُ في معناه التي قدَّمنا الإشارةَ إليها، وإلى ذلك ذهَبَ عمرُ، وعائشةُ، وابنُ الزُّبيرِ، وأسامةُ بنُ زيدٍ، وعثمانُ بن أبي العاصِ، والعِترةُ، وكان ذلك يُعجِبُ الحَسنَ ويَحكِيه عن عثمانَ…).
بل المؤلِّفُ نفْسُه ناقَض نفْسَه؛ فقد حَكى (ص: 28 هامش 2) أنَّ المسألةَ خِلافيةٌ، وأنكَر على مَن لا يَعرِفُ إلَّا قولًا واحدًا في المسألةِ؛ فكيف تكونُ خلافيةً بعدَ إجماعِ الصحابةِ؟!
بل أنْكَى مِن هذا: أنَّ ابنَ عبد البَرِّ نقَل في ((التمهيد)) (21/164) إجماعَ العلماءِ –وعلى رأسِهم صحابةُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- على مشروعيَّةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ بغيرِ مكَّةَ؛ حيث قال: ((وقد أجمَع العلماءُ على أنَّ يومَ عَرفةَ جائزٌ صِيامُه للمُتمتِّعِ إذا لم يجِدْ هدْيًا، وأنَّه جائزٌ صيامُه بغيرِ مكَّةَ، ومَن كرِهَ صومَه بعَرَفةَ فإنما كرِهَه مِن أجلِ الضَّعفِ عن الدُّعاءِ والعملِ في ذلك الموقفِ والنَّصبِ للهِ فيه…))! فهذه حكايةُ إجماعٍ مِن إمامٍ ثقةٍ، وهو ضِدُّ القولِ الذي يَزعُم المؤلِّفُ أنَّ عليه إجماعَ الصحابةِ!
فما أعظَمَ جُرأةَ المؤلِّفِ! وما أظهَرَ مُخالَفتَه لِمَا أصَّلَه في بحثِه هذا، ونعى على المقلِّدةِ بجميعِ أنواعِهم في هذا الزمانِ بأنهم (يَحفَظون الخلافَ، لكنْ لا يَعرِفون مواقعَ الخلافِ؛ فهم يَذكُرون الإجماعَ في بعضِ الأحكام بجَهلٍ بالغٍ في الفِقه الإسلاميِّ)؛ فإنَّ المؤلِّفَ بصَنيعِه -الجُرأةِ على ادِّعاءِ هذا الإجماعِ- أحقُّ بوصْفِ نفْسِه، وأنَّه ممَّن (يَذكُرون الإجماعَ في بعضِ الأحكام بجَهلٍ بالغٍ في الفِقه الإسلاميِّ)!
ومِن المؤاخَذات: قولُه في صفحة (55- 57): (فعن عُقبةَ بنِ عامرٍ رضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يومُ عرَفةَ، ويومُ النَّحرِ، وأيَّامُ التشريقِ عِيدُنا أهلَ الإسلامِ، وهي أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ»، ثم يُعلِّقُ على الحديثِ بقولِه: (عِيدُنا أهلَ الإسلامِ)؛ هذا عامٌّ لجميعِ المسلمين من الحُجاجِ وغيرِهم، ولم يَثبُتْ أيُّ دليلٍ يُخصِّصُ هذا العامِّ بأنَّ هذا خاصٌّ بمَن كان بعَرَفةَ من الحُجاجِ؛ فالحديثُ يدُلُّ على أنَّ هذه الأيامَ الخمسةَ -بما فيها يومُ عَرفةَ- أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ للحاجِّ وغيرِ الحاجِّ، وهذا المعنى يُوجَدُ في العيدينِ وأيَّامِ التشريقِ أيضًا؛ فإنَّ الناسَ كلَّهم فيها في ضِيافةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، لا سيَّما عيدُ النَّحرِ؛ فإنَّ الناسَ يأكُلون مِن لُحومِ نُسكِهم؛ أهلُ الموقفِ، وغيرُهم، فلا يَصومُنَّ أحدٌ… لذلك ذهَب بعضُ أهلِ العلمِ إلى هذا الحديثِ؛ فكرِهوا به صومَ يومِ عَرفةَ، وجعَلوا صومَه كصومِ يومِ النَّحرِ).
التعقيب: أنَّ هذا مخالِفٌ لفَهمِ الراسخينَ من أهلِ العِلْم؛ ويدُلُّ على ذلك ما يلي:
أولًا: ذكَرَ جمعٌ من الأئمَّةِ والمحدِّثينَ أنَّ لفظةَ (يوم عرَفةَ) في هذا الحديثِ غيرُ مَحفوظةٍ؛ قال الأثرمُ في ((ناسخ الحديث ومنسوخه)) (ص: 151): (وأمَّا حديثُ عُقبةَ بنِ عامرٍ فإنه حديثٌ تفرَّدَ به مُوسى بن علِيٍّ. وروى الناسُ هذا الحديثَ مِن وُجوهٍ كثيرةٍ، فلم يُدخِلوا فيه “صوم عرَفةَ”، غيرَه؛ فالأحاديثُ إذا تظاهَرَت فكثُرَت كانت أثبَتَ مِن الواحدِ الشاذِّ”.
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ في ((التمهيد)) (21/ 163): (هذا حديثٌ انفرَدَ به مُوسى بن علِيٍّ عن أبيهِ، وما انفرَدَ به فليس بالقويِّ. وذِكرُ يومِ عَرفةَ في هذا الحديثِ غيرُ محفوظٍ، وإنما المحفوظُ عن النبيِّ e مِن وجوهٍ: “يومُ الفِطرِ، ويومُ النَّحرِ، وأيَّامُ التشريقِ أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ”).
وهذا قولُ جمْعٍ من العلماءِ المُصنِّفين في علومِ الحديثِ؛ فإنهم حِين يتكلَّمون عن الحديثِ الشاذِّ يَذكُرون هذا الحديثَ مثالًا على الشُّذوذِ في المتنِ، ومنهم الزَّركشيُّ، والسَّخاويُّ، وزَكريا الأنصاريُّ، وعلي القاري.
[ينظر: ((النكت على مقدمة ابن الصلاح)) للزركشي (2/ 137)، ((فتح المغيث)) للسخاوي (1/ 245)، ((فتح الباقي بشرح ألفية العراقي)) لزكريا الأنصاري (1/ 233)، ((شرح النخبة)) للقاري (ص: 334)].
ثانيًا: على فرْضِ صِحَّةِ هذه اللفظةِ وعَدمِ شُذوذِها؛ فإنَّ وصفَ يومِ عَرفةَ بأنه عِيدٌ لا يدُلُّ على عَدمِ مشروعيَّةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ لغيرِ الحُجاجِ؛ لأنَّ المقصودَ به أنَّ عرَفةَ عِيدٌ لأهلِ عرَفةَ مِن الحُجاجِ؛ لاجتماعِهم فيه، قال الإمامُ الطَّبريُّ: (وليس في قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يومُ عرَفةَ، ويومُ النَّحرِ، وأيَّامُ التشريقِ عِيدُنا أهلَ الإسلامِ، هنَّ أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ» دَلالةٌ على نَهيِه عن صومِ شيءٍ مِن ذلك، وإنْ كان صومُ يومِ النحرِ غيرَ جائزٍ عندنا؛ لنَهيِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صومِه نصًّا، ولإجماعِ الأمَّةِ نقلًا عن نبيِّها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا يجوزُ صومُه. وإنما قلْنا: لا دلالةَ له في ذلك مِن قولِه على نَهيِه عليه السلامُ عن صومِ شيءٍ مِن ذلك؛ لصِحَّةِ الخبرِ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا صاموا يومًا قبلَه أو يومًا بعده، وهو لهم عِيدٌ، فلم يُحرِّمْ صومَه عليهم مِن أجلِ أنَّه عِيدٌ لهم، بل وعَدَهم -مِن اللهِ على صومِه على ما أطلَقَه لهم- الجزيلَ من الثَّوابِ، فكذلك يومُ عَرفةَ لا يَمنَعُ كونُه عِيدًا مِن أنْ يَصومَه بغيرِ عرَفةَ مَن أراد صومَه، بل له على ذلك الثوابُ الجزيلُ والأجرُ العظيمُ…). [((تهذيب الآثار- مسند عمر)) للطبري (1/351)].
ونقَل ابنُ القيِّمِ في ((زاد المعاد)) (1/ 62) عن شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ قولَه: (إنما يكونُ يومُ عَرفةَ عيدًا في حقِّ أهلِ عرَفةَ؛ لاجتماعِهم فيه، بخلافِ أهلِ الأمصارِ، فإنهم إنَّما يَجتمِعون يومَ النَّحرِ، فكان هو العيدَ في حقِّهم).
وقال ابنُ حَجرٍ في ((فتح الباري)) (4/238): (وقيل: إنما كُرِه صومُ يومِ عَرفةَ؛ لأنه يومُ عِيدٍ لأهلِ الموقفِ؛ لاجتماعِهم فيه. ويُؤيِّده ما رواه أصحابُ السُّننِ عن عُقبةَ بنِ عامرٍ مرفوعًا: «يومُ عَرفةَ، ويومُ النحرِ، وأيامُ مِنًى عِيدُنا أهلَ الإسلامِ».
وقال الشَّوكانيُّ في((نيل الأوطار)) (4/ 284): (اعلَمْ أنَّ ظاهرَ حديثِ أبي قَتادةَ المذكورِ في البابِ: أنَّه يُستحَبُّ صومُ يومِ عَرفةَ مُطلقًا، وظاهرُ حديثِ عُقبةَ بنِ عامرٍ المذكورِ في البابِ أيضًا: أنَّه يُكرَهُ صومُه مُطلقًا؛ لِجَعْلِه قريبًا في الذِّكرِ ليَومِ النَّحرِ وأيَّامِ التشريقِ، وتعليلُ ذلك بأنها عِيدٌ، وأنَّها أيامُ أكلٍ وشُربٍ. وظاهرُ حديثِ أبي هُريرة: أنَّه لا يجوزُ صومُه بعَرفاتٍ؛ فيُجمَعُ بيْن الأحاديثِ بأنَّ صومَ هذا اليومِ مُستحَبٌّ لكلِّ أحدٍ، مكروهٌ لمَن كان بعرفاتٍ حاجًّا. والحكمةُ في ذلك: أنَّه ربَّما كان مُؤدِّيًا إلى ضَعفٍ عن الدُّعاءِ والذِّكرِ يومَ عَرفةَ هنالك، والقيامِ بأعمالِ الحجِّ. وقيل: الحكمةُ أنَّه يومُ عيدٍ لأهلِ الموقفِ؛ لاجتماعِهم فيه، ويُؤيِّده حديثُ أبي قتادةَ…).
ومِن المؤاخَذات: قولُه في صفحة (59- 65): (عن عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها، قالت: “ما رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صائمًا في العشرِ قطُّ”… قلت: وهذا الحديثُ نصٌّ صريحٌ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمِ العشرَ الأُولى مِن ذي الحجةِ، واليومُ التاسعُ منها، وهو يومُ عَرفةَ، واللهُ ولِيُّ التوفيقِ، فقولُها: (ما رأيتُه صائمًا قطُّ)؛ يَتعذَّرُ تأويلُ بعضِ العلماء فيه؛ لأنه صريحٌ في أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمْ مُطلقًا في أيامِ العشرِ مِن ذي الحجةِ، وعلى هذا ممَّا جاء أنَّه ما صام صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جميعِ العشرِ هو الأصلُ، فليُتأمَّلْ). وقد أطال المؤلِّفُ في إثباتِ صِحَّةِ هذا الحديثِ وطُرُقه في 15 صفحة، وهو لا يحتاجُ إلى كلِّ هذا!
التعقيب: هذا الذي زعَمه المؤلِّفُ مخالِفٌ أيضًا لفَهمِ العلماءِ الراسخينَ؛ يُوضِّح ذلك قولُ الإمامِ النَّوويِّ تعليقًا على هذا الحديثِ: (قال العلماءُ: هذا الحديثُ ممَّا يُوهِمُ كراهةَ صومِ العشرِ، والمُراد بالعشرِ هنا الأيامُ التِّسعةُ مِن أولِ ذي الحجةِ، قالوا: وهذا ممَّا يُتأوَّلُ؛ فليس في صومِ هذه التِّسعةِ كراهةٌ، بل هي مُستحبَّةٌ استحبابًا شديدًا، لا سيَّما التاسعُ منها، وهو يومُ عَرفةَ، وقد سبَقَت الأحاديثُ في فضلِه، وثبَت في صحيحِ البُخاري: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «ما مِن أيامٍ العمَلُ الصالحُ فيها أفضَلُ منه في هذه»، يعني العشرَ الأوائلَ مِن ذي الحجةِ؛ فيُتأوَّلُ قولُها: (لم يَصُمِ العشرَ) أنَّه لم يَصُمْه لعارضِ مرَضٍ، أو سفَرٍ، أو غيرِهما، أو أنها لم تَرَه صائمًا فيه، ولا يَلزَمُ مِن ذلك عَدمُ صيامِه في نفْسِ الأمرِ، ويدلُّ على هذا التأويلِ حديثُ هُنيدةَ بنِ خالدٍ، عن امرأتِه، عن بعضِ أزواجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالت: كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصومُ تِسعَ ذي الحجةِ، ويومَ عاشوراءَ، وثلاثةَ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ، الاثنينِ مِن الشهرِ والخميسَ، ورواه أبو داودَ، وهذا لفظُه، وأحمدُ، والنَّسائي). [((شرح النووي على مسلم)) (8/71)]
وقولُ الحافظِ ابنِ حَجرٍ تعليقًا على حديثِ عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها أيضًا: (لاحتمالِ أنْ يكونَ ذلك لكونِه كان يَترُك العملَ وهو يُحِبُّ أنْ يَعملَه؛ خَشيةَ أنْ يُفرَضَ على أُمَّتِه، كما رواهُ الصحيحانِ مِن حديثِ عائشةَ أيضًا). [((فتح الباري)) لابن حجر (2/460)].
وممَّا يُوضِّح ذلك أيضًا قولُ الإمامِ الطَّحاويِّ في [((شرح مشكل الآثار)) (7/418-419)]: (يجوزُ أنْ يكونَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ يصومُ فيها على ما قالت عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها؛ لأنه كان إذا صام ضعُفَ عن أنْ يَعمَلَ فيها ما هو أعظَمُ مَنزلةً مِن الصومِ وأفضلُ منه؛ مِن الصلاةِ، ومِن ذِكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وقراءةِ القرآنِ… وإنْ كان الصومُ فيها له مِن الفضلِ ما له ممَّا قد ذُكِرَ في هذه الآثارِ التي قد ذكَرْناها فيه، وليس ذلك بمانعٍ أحدًا مِن المَيلِ إلى الصومِ فيها، لا سيَّما مَن قدَرَ على جمْعِ الصومِ مع غيرِه من الأعمالِ التي يُتقرَّبُ بها إلى اللهِ).
وأيضًا فإنَّ عائشةَ لو علِمَت أنَّ النبيَّ نهى عن صيامِه ما صامَتْه في الحجِّ، وفي غيرِ الحجِّ، كما ورَدَ عن القاسمِ بن محمَّدٍ قال: “كانت عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها تصومُ يومَ عَرفةَ. ولقد رأيتُها عشيَّةَ عرَفةَ يَدفَعُ الإمامُ، ثم تقِفُ حتى يَبْيَضَّ ما بيْنها وبين الناسِ مِن الأرضِ، ثم تَدعو بالشرابِ فتُفطِرُ”. أخرَجه مالكٌ في “الموطَّأ” (1/ 375 – 376 رقم 133)، وهو أثرٌ موقوفٌ صحيحٌ، ويُنظَر [التحبير لإيضاح معاني التيسير: (6/ 261)، التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 456)].
ومِن المؤاخَذات: استدلالُ المؤلِّفِ (ص:71) بحديثِ ابن عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما قال: (ما رأيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتحرَّى صِيامَ يومٍ فضَّلَه على غيرِه إلَّا هذا اليومَ؛ يومَ عاشوراءَ، وهذا الشهرَ، يعني: شهرَ رمضانَ)، أخرَجه البُخاري (2006) واللفظ له، ومسلم (1132)… وأطال في تخريجِه.
ثم قال معلِّقًا: (وهذا يدُلُّ على أنَّ صيامَ يومِ عاشوراءَ كان معروفًا عند الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم، بل وحتى عند الأنبياءِ في السابقِ. قلت: وأمَّا صومُ يومِ عَرفةَ لم يكُنْ معروفًا عندهم، وإلَّا لَذكَره ابنُ عباسٍ رضِيَ اللهُ عنهما. وهذا الحديثُ يدُلُّ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَتحرَّ فضْلَ صيامِ يومِ عَرفةَ، بل كان يَطلُب فضلَ صومِ يومِ عاشوراءَ على غيرِه مِن الأيامِ، وهذا نصٌّ صريحٌ، ولا اجتهادَ مع وُجودِ نصٍّ. قلت: والسلَفُ على هذا الاتِّباعِ، أي: أنهم لم يَتحرَّوا إلَّا صومَ يومِ عاشوراءَ فقطْ، ولم يأمُروا إلَّا به)!
التعقيب: يقولُ ابنُ حَجرٍ في [((فتح الباري)) (4/249)] عن حديثِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: (هذا يَقتَضي أنَّ يومَ عاشوراءَ أفضلُ الأيامِ للصائمِ بعدَ رمضانَ، لكنَّ ابنَ عباسٍ أسنَدَ ذلك إلى عِلْمِه؛ فليس فيه ما يَرُدُّ عِلمَ غيرِه، وقد روى مسلمٌ مِن حديثِ أبي قتادةَ مرفوعًا: “إنَّ صومَ عاشوراءَ يُكفِّرُ سنةً، وإنَّ صيامَ يومِ عَرَفةَ يُكفِّرُ سَنتينِ”، وظاهرُه أنَّ صيامَ يومِ عَرَفةَ أفضلُ مِن صيامِ يومِ عاشوراءَ، وقد قِيل في الحكمةِ في ذلك: إنَّ يومَ عاشوراءَ مَنسوبٌ إلى مُوسى عليه السلامُ، ويومَ عرَفةَ مَنسوبٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فلذلك كان أفضلَ).
وقال الشيخُ الألبانيُّ في [((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (1/454)]: (التعارضُ بيْن نفْيِ ابنِ عباسٍ فضْلَ يومٍ غيرَ عاشوراءَ، وإثباتِ غيرِه -كأبي قتادةَ- الأمْرُ فيه هيِّنٌ؛ لِمَا تقرَّرَ في الأصولِ أنَّ المُثبِتَ مُقدَّمٌ على النافي”، ويُؤيِّدُ هذا أنَّ ابنَ عباسٍ رضِيَ اللهُ عنهما لم يَذكُرْ صومَ شعبانَ، وقد ثبَت عند [البُخاري (1971) واللَّفظُ له، ومسلم (782)] عن عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها، أنها قالت: (لم يكُنِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصومُ شهرًا أكثَرَ مِن شعبانَ؛ فإنه كان يصومُ شعبانَ كلَّه)؛ فاقتصارُ ابنِ عباسٍ على ذِكْرِ يومِ عاشوراءَ لا يَستلزِمُ ضعفَ الأحاديثِ التي ذَكَرت غيرَه).
وهذا كلُّه واضحٌ غيرُ محتاجٍ إلى تنبيهٍ، لكنْ كم مِن عائبٍ قولًا صحيحًا وآفتُه من الفَهمِ السقيمِ!
ومِن المؤاخَذات: استدلالُ المؤلِّفِ (ص: 68) بحديثِ أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ أبا بكرٍ الصدِّيقَ رضِيَ اللهُ عنه بعَثه في الحجةِ التي أمَّرَه عليها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبل حَجةِ الوداعِ يومَ النَّحرِ في رهطٍ، يُؤذِّنُ في الناسِ: (ألَا لا يَحُجُّ بعدَ العامِ مُشركٌ، ولا يطوفُ بالبيتِ عُريانٌ) أخرَجه البُخاري (1622) واللفظُ له، ومسلم (1347).
ثم أعقَبه المؤلِّفُ بقولِه: (وهذا الدليلُ الضربةُ القاضيةُ للمجوِّزينَ لصومِ يومِ عَرفةَ؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان حَجُّه في السنةِ العاشرةِ في حَجةِ الوداعِ، وقد حجَّ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضِيَ اللهُ عنه بالناسِ في السَّنةِ التاسعةِ بأمْرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان النبيُّ في الحضَرِ، ولم يكُنْ حاجًّا، ولم يُنقَلْ عنه أنَّه صام يومَ عَرفةَ وهو في المدينةِ في السَّنةِ التاسعةِ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ غيرُ مشروعٍ صومُه، ولو كان مشروعًا لصامَه، وأمَرَ الناسَ بصيامِه، كما فعَلَ في أمْرِه بصَومِ يومِ عاشوراءَ وغيرِه مِن صومِ النفْلِ).
التعقيب: أوَّلًا: نَعجَبُ من هذا الأسلوبِ: الضَّربةُ القاضيةُ! وهو أسلوبُ ما يُسمَّى اليومَ بالمصارعةِ الحُرَّةِ، وكأنه في حَلبةِ مُصارعةٍ مع المخالِفين له، وهم كِبارُ عُلماءِ وفقهاءِ الأمَّةِ.
وثانيًا: ما الضربةُ القاضيةُ للمجوِّزين في هذا الحديثِ؟! وما وجهُ الدليلِ في هذا الحديثِ؟! فليس فيه أكثرُ ممَّا ذُكِر سابقًا، وإذا لم يُنْقَلْ أمْرُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للناسِ بالصومِ في هذه السَّنةِ، فإنه لم يُنقَلْ عنه أيضًا أنَّه نهى الناسَ عن صومِه في ذاتِ السَّنةِ؛ التاسعةِ من الهجرةِ، مع أنَّ بيانَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لفضْلِ ذلك اليومِ كان سابقًا على ذلك، وليس في عَدمِ صَومِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دليلٌ على عدَمِ مشروعيةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ كما بينَّاه.
ثم إنَّ هذا كلامٌ عجيبٌ! فلم يَتناوَلْ أحدٌ من المُتقدِّمين ولا المتأخِّرين هذا الحديثَ بمثلِ ما تناوَلَه هذا المؤلِّفُ؛ فالحديثُ موضوعُه تكليفُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبا بكرٍ بإبلاغِ مَن معه مِن الحُجاجِ أحكامًا عامَّةً تتعلَّق بشريعةِ الحجِّ تُراعى في العامِ القادمِ، حتى إنَّ أطولَ رِواياتِ هذا الحديثِ إنما تَختصُّ بسَرْدِ قصَّةِ هذا البلاغِ؛ وكونُه لم يُذكَرْ فيه صومُ يومِ عرَفةَ لغيرِ الحاجِّ، فلا حُجةَ فيه على كلامِه، خاصَّةً وأنَّ البلاغَ وقتُه كان يومَ النَّحرِ.
وقولُ المؤلِّف: (ولم يُنقَلْ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه صام يومَ عَرفةَ وهو في المدينةِ في السَّنةِ التاسعةِ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ غيرُ مشروعٍ صومُه، ولو كان مشروعًا لصامَه، وأمَرَ الناسَ بصيامِه، كما فعَلَ في أمْرِه بصومِ يومِ عاشوراءَ، وغيرِه مِن صومِ النفْلِ) خطأٌ ظاهرٌ؛ فلا يُسلَّمُ له أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَصُمْه، وحتى لو سلَّمْنا بعدَمِ صيامِه، فلا يدُلُّ هذا على عَدمِ المشروعيَّةِ؛ فقد تقرَّرَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ربَّما ترَكَ فِعلَ بعضِ المستحبَّاتِ لبعضِ الأمورِ الخاصَّةِ به؛ كمرضٍ، أو سفرٍ، أو اشتغالٍ بما هو أَولى في حقِّه، أو يَترُكه لبعضِ المصالحِ الأخرى التي تعودُ على أُمَّتِه؛ كخشيةِ الفرْضيَّةِ؛ فقد حثَّ على صيامِ يومِ عَرَفةَ، ورغَّب فيه ببَيانِ ثوابِه وأجْرِه، كما سبَق.
وقد قال الإمامُ ابنُ حزْمٍ في [((المحلَّى)) (7/18)]: (أمَّا أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَصُمْه فلا حُجَّةَ لكم في ذلك؛ لأنه عليه السلامُ قد حضَّ على صِيامِه أعظَمَ حضٍّ، وأخبَر أنَّه يُكفِّرُ ذُنوبَ سنتينِ، وما علينا أنْ نَنتظِرَ بعدَ هذا أيصومُه عليه السلامُ أم لا؟ ثم ذكَرَ قولَ عائشةَ أمِّ المؤمنين أنَّها قالت: إنْ كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيترُكُ العملَ وهو يُحِبُّ أنْ يَعمَلَ به؛ خَشيةَ أنْ يَعملَ به الناسُ، فيُفرَضَ عليهم).
ويَلحَقُ بهذا أيضًا: قولُه في صفحة (83): (وقد بيَّن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أفضلَ الصِّيامِ بعدَ شهرِ رمضانَ صيامُ شهرِ مُحرَّمٍ، ولم يَذكُرْ صيامَ يومِ عَرَفةَ في شهرِ ذي الحجةِ، مع أنَّ الأجرَ الذي ذُكِرَ في صومِ يومِ عَرفةَ أعظمُ؛ لأنه يُكفِّرُ السَّنةَ الماضيةَ والسَّنةَ الباقيةَ، وهذا يدُلُّ على أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ غيرُ مشروعٍ في الدِّين)!
التعقيب: سبَق بيانُ ما في هذا الكلامِ مِن الخطأِ والجُرأةِ على دِين اللهِ تعالى، وقد حفَل هذا البحثُ بآراءِ عُلماء متقدِّمين ومتأخِّرين، ولكنَّ المؤلِّفَ لم يَلتفِتْ إلى أدلَّتِهم وقولِهم بمَشروعيةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ لغيرِ الحاجِّ على سبيلِ التطوُّعِ لا الفرضِ.
وخُلاصةُ الكلامِ في هذه المسألةِ: أنَّ تعدُّدَ الأخبارِ والأحاديثِ الصحيحةِ عن صيامِ يومِ عَرَفةَ وفضْلِه، مع وجودِ أخبارٍ وأحاديثَ تدلُّ على عَدمِ صيامِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له، وكذلك عَدمُ صيامِ بعضِ الصحابةِ فيه؛ كلُّ هذا يُجْمَعُ بَيْنَه، ولا يَنفي بعضُه بعضًا؛ فهو مِن باب تعدُّدِ الأوصافِ الصحيحةِ للأمْرِ الواحدِ، وفيه مِن السَّعةِ التي تُبِيحُ للمسلمينَ أنْ يأخُذوا بأيِّ وجهٍ دونَ حرَجٍ؛ فأمْرُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بصيامِه وبَيانُ فضْلِه، ثم عَدمُ صومِه له على الدوامِ: أكبَرُ دليلٍ على سَعةِ الاختيارِ، وليس دليلًا على نفْيِ سُنَّيةِ أو مَشروعيَّةِ العملِ به، وعَدمُ فِعلِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكلِّ ما حثَّ عليه وأمَرَ به لا يَنفي صِفةَ المشروعيةِ عمَّا قاله؛ لأنه يُشرِّعُ للمسلمينَ ما فيه خيرُهم ونفْعُهم، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليس مُطالَبًا بأنْ يَفعَلَ بنفْسِه كلَّ ما ألْزَمَ به أمَّتَه، وإلَّا سنَجِدُ أنفُسَنا قد ألْغَينا كثيرًا من أُمورِ الشرعِ التي أمَرَ بها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولم يَفعَلْها، كما أنَّه في حالةِ النهيِ أو الزَّجرِ عن الفعلِ لم يَقَعْ فيها قبْلَ أنْ يَنهى عنها، بل هي أُمورٌ تَضبِطُ تصرُّفاتِ المسلمِ، والمُشرِّعُ إنَّما يُعلِّمهم ويُرشِدُهم؛ لأنَّ الأوامرَ والنواهيَ تكونُ مُوجَّهةً لأفرادِ الأمَّةِ، فيَسمَعون ويُطيعون، ويأْتون منها ما استطاعوا، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16].
ومِن المؤاخَذات على المؤلِّف: عَدمُ الدِّقَّةِ في النُّقولِ، واجتزاءُ بعضِ الكلامِ مِن سياقِه بما يَخدُم فِكرتَه على غيرِ الحقيقةِ، وهذا خَطأٌ مَنهجيٌّ وعِلميٌّ شنيعٌ، وقد يَرقى إلى عدمِ الأمانةِ العِلْمية إذا ظهَرَ أنَّه مُتعمِّدٌ، ومِن هذه النماذجِ:
1- قولُ المؤلِّف (ص: 50): (وذكَر الحافظُ الطَّبريُّ في “تهذيب الآثار” (ج1/ص363) هذه الآثارَ عن الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم تحتَ باب: (ذِكرُ مَن كرِهَ صومَ يومِ عَرفةَ لكلِّ أحدٍ، لكلِّ موضعٍ).
ولم يَذكُرْ شيئًا من الأحاديثِ التي ذكَرها الطَّبريُّ، ومع ذلك قال معقِّبًا: (ويَتبيَّنُ مِن كراهتِهم لصومِ يومِ عَرفةَ لغيرِ الحاجِّ بأنهم [كذا، والصواب: أنَّهم] لا يرَون سُنِّيةَ صومِ يومِ عَرفةَ، ولا الأجْرَ فيه؛ وذلك لعدَمِ ثُبوتِه عندهم).
التعقيب: هذا نموذجٌ مِن النقْلِ بالهوى، مع اجتزاءِ الكلامِ مِن سياقِه، وقطْعِ ما يُرِيده المؤلِّفُ؛ لإثباتِ دعواهُ، ولو عاد المؤلِّفُ لِمَا ذكَره الحافظُ الطَّبريُّ نفْسُه تحت هذا البابِ نفْسِه، وقبْلَه وبعدَه؛ لوجَد الحافظَ يَجمَعُ بيْن الرِّواياتِ المختلفةِ، ويُرجِّحُ مشروعيةَ صومِ يومِ عَرفةَ لغيرِ الحاجِّ، مع ذِكْرِ كلامٍ شافٍ في مسألةِ أنَّه يومُ عِيدٍ؛ فيقولُ في [((تهذيب الآثار- مسند عمر)) (1/ 351)]: (القولُ في ذلك عندنا: أنَّ جميعَ هذه الأخبارِ صحاحٌ، ومعانيها مُتَّفقةٌ غيرُ مُختلفةٍ، وبعضُ ذلك يُؤيِّد بعضًا، وبعضًه يُصحِّحُ بعضًا؛ فأمَّا الخبرُ الذي رُوِيَ عن عمرَ، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أنَّ صومَ يومِ عَرفةَ كفَّارةُ سَنتينِ، فإنه مَعْنيٌّ به صومُه في غيرِ عرَفةَ، وكذلك كلُّ ما رُوِي في ذلك عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإنه مرادٌ به صومُه بغيرِ عرَفةَ، وليس في قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يومُ عرَفةَ، ويومُ النَّحرِ، وأيَّامُ التشريقِ عِيدُنا أهلَ الإسلامِ، هنَّ أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ» دَلالةٌ على نَهيِه عن صومِ شيءٍ مِن ذلك، وإنْ كان صومُ يومِ النحرِ غيرَ جائزٍ عندنا؛ لنَهيِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صومِه نصًّا، ولإجماعِ الأمَّةِ نقلًا عن نبيِّها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا يجوزُ صومُه. وإنما قلْنا: لا دلالةَ له في ذلك مِن قولِه على نَهيِه عليه السلامُ عن صومِ شيءٍ مِن ذلك؛ لصِحَّةِ الخبرِ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإطلاقِه لأُمَّتِه صومَ يومِ الجمعةِ، إذا صاموا يومًا قبلَه أو يومًا بعده، وهو لهم عِيدٌ، فلم يُحرِّمْ صومَه عليهم مِن أجلِ أنَّه عِيدٌ لهم، بل وعَدَهم -مِن اللهِ على صومِه على ما أطلَقَه لهم- الجزيلَ من الثَّوابِ، فكذلك يومُ عَرفةَ لا يَمنَعُ كونُه عِيدًا مِن أنْ يَصومَه بغيرِ عرَفةَ مَن أراد صومَه، بل له على ذلك الثوابُ الجزيلُ والأجرُ العظيمُ، وكذلك قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «هنَّ أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ»، إنما عَنى به أنَّهنَّ أيامُ أكلٍ وشُربٍ لمَن أراد ذلك، فأمَّا مَن لم يُرِدِ الأكلَ والشُّربَ فيهنَّ، فغيرُ حَرِجٍ بتَرْكِ الأكلِ والشُّربِ فيهنَّ، إذا لم يكُنْ ترْكُه ذلك على وَجْهِ صومِ الأيامِ التي نهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صيامِهنَّ).
ولا أوضَحَ مِن هذا على بَيانِ تهافُتِ كلامِ المؤلِّفِ، وبيانِ الخلَلِ في طريقةِ نقْلِه وتأْليفِه، ومُخالَفةِ طريقتِه لطريقةِ أهلِ العلمِ الراسخينَ، والفُقهاءِ العارفينَ.
2- كذلك: استدلالُ المؤلِّفِ ببعضِ الآثارِ على أنَّ الصحابةَ -وعلى رأسِهم أبو بكرٍ وعمرُ رضِيَ اللهُ عنهما- لم يَصوموا يومَ عَرفةَ، ولم يَكونوا يَعرِفونه، ومِن ذلك أنَّه أورَدَ في (ص: 91) قولَ ابنِ عمَرَ: “لم يَصُمْ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أبو بكرٍ، ولا عمرُ، ولا عثمانُ، ولا علِيٌّ يومَ عَرفةَ” أخرَجه الطَّحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1 /72).
التعقيب: هكذا ذكَر المؤلِّفُ الحديثَ، وخرَّجه مِن ((شرحِ معاني الآثارِ))، ولكنه لم يُكمِلْ ما قال الطَّحاويُّ، ولا ذكَر ما قاله مِن اختلافٍ حولَ صومِ يومِ عَرفةَ، وجمْعَه بيْن الأحاديثِ المختلفةِ في ذلك؛ حيث قال الطحاويُّ: (هذا أيضًا –عندنا- على الصِّيامِ يومَ عَرفةَ بالموقِفِ، وقد بيَّن ذلك ابنُ عمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما في غيرِ هذا الحديثِ… “أنَّ رجلًا سأَلَ ابنَ عمَرَ عن صومِ يومِ عَرفةَ بالموقِفِ، فقال: خرَجْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فلم يَصُمْه، ومع أبي بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه فلم يَصُمْه، ومع عمَرَ رضِيَ اللهُ عنه فلم يَصُمْه، ومع عثمانَ رضِيَ اللهُ عنه فلم يَصُمْه، وأنا لا أصومُه، ولا آمُرُك ولا أنهاك، فإنْ شِئتَ فلا تَصُمْه).
فبيَّن الإمامُ الطحاويُّ الفقيهُ أنَّ ما رَوى نافعٌ عن ابنِ عمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما هو على الصومِ في الموقِفِ. وقد رُوِي عن ابنِ عمَرَ الأمرُ بصومِ يومِ عَرفةَ.
وأيضًا قد ثبَت عن عددٍ مِن الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم والتابعينَ صِيامُ عرَفةَ بعرَفةَ، فضلًا عن صيامِه في غيرِ عرَفةَ؛ قال الإمامُ الطَّبريُّ في ((تهذيب الآثار – مسند عمر)) (1/ 365): (وقد اختار صومَه على إفطارِه جماعةٌ مِن الصحابةِ والتابعينَ،حتى لقد صامه جماعةٌ منهم بعرَفةَ؛ ففي ذلك الدليلُ الواضحُ على صحَّةِ قولِنا؛ مِن أنَّ إفطارَ مِن أفطَرَ منهم، وكراهةَ مَن كرِهَ صومَه منهم؛ إنما كان إيثارًا منه غيرَه مِن نفْلِ الأعمالِ عليه، وإبقاءً منه على نفْسِه؛ لِيَتقوَّى بالإفطارِ على الدُّعاءِ، والاجتهادِ في العبادةِ)، وفي حالِ اختلافِ الصحابةِ فإنه يَسقُط الاحتجاجُ بهم اتِّفاقًا.
وأيضًا صومُ يومِ عَرفةَ كان مَعروفًا لدى الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم، كما سبَق بيانُ ذلك، وسبَق ذِكرُ حديثِ أُمِّ الفضلِ بنتِ الحارثِ: (أنَّ ناسًا تمارَوا عندها يومَ عَرفةَ في صومِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقال بعضُهم: هو صائمٌ، وقال بعضُهم: ليس بصائمٍ. فأرسَلَت إليه بقدَحِ لَبنٍ وهو واقفٌ على بَعيرِه، فشرِبَه) [أخرجه البُخاري (1988) واللفظُ له، ومسلم (1123)]، وكلامُ الحافظِ ابنِ حَجرٍ في [((فتح الباري)) (4/237)]: “هذا يُشعِرُ بأنَّ صومَ يومِ عَرفةَ كان معروفًا عندهم، مُعتادًا لهم في الحضَرِ…”.
3- قولُ المؤلِّف (ص: 74): (وذُكِرَ في حديثِ صومِ يومِ عَرفةَ زِيادةٌ شاذَّةٌ؛ وهي: “صيامُ يومِ عَرَفةَ يُكفِّرُ ذُنوبَ سَنتينِ: سَنةٍ ماضيةٍ، وسَنةٍ آتيةٍ).
التعقيب: هذا القولُ مِن المؤلِّفِ مِن الطوامِّ والبلايا؛ وذلك لِمُحاولَتِه إعلالَ متْنِ الحديثِ بما ليس بعلَّةٍ، وليس له سلَفٌ -فيما نعلَمُ- فيما يقولُ؛ فالمؤلِّفُ حكَمَ بشُذوذِ حديثِ عرَفةَ الذي فيه: “وصِيامُ عرَفةَ إنِّي أحتسِبُ على اللهِ أنْ يُكفِّرَ السنةَ التي قبْلَه والسَّنةَ التي بعْدَه” بقولِه: (وهذا الحكمُ خاصٌّ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لا يُشارِكُه أحدٌ مِن بني آدَمَ؛ لا جُزئيًّا ولا كُلِّيًّا)! والصحيحُ أنَّ بعضَ العلماءِ الذين جعَلوا هذا مِن خصائصِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، جعَلوا ذلك على اعتبارِ أنَّ المغفرةَ الواردةَ في قولِه تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، كُلِّيةٌ لا جُزئيةٌ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد وعَدَ عِبادَه بالمغفرةِ على العباداتِ، وجعَل بعضَ الأعمالِ مُكفِّراتٍ للذُّنوبِ.
وللحافظِ ابنِ حَجرٍ كتابٌ اسمُه: (الخِصال المُكفِّرة للذُّنوبِ المقدَّمة والمؤخَّرة)، جمَع فيه الأحاديثَ التي ورَد فيها الوعدُ بغُفرانِ ما تقدَّمَ مِن الذُّنوبِ وما تأخَّر، وبيَّن في مُقدِّمته أنَّ هذا جائزٌ وواقعٌ، وقال (ص: /18): (وإذا عُلِمَ أنَّ اللهَ تعالى مالكُ كلِّ شيءٍ؛ له ما في السمواتِ وما في الأرضِ، وما بيْنهما، وما تحتَ الثَّرى؛ لم يَمتنِعْ أنْ يُعطِيَ مَن شاء ما شاء، وقد ثبَت أنَّ ليلةَ القدرِ خيرٌ مِن ألْفِ شهرٍ، وقد يقَعُ العملُ في بعضِ ليالي السَّنةِ من بعضِ الناسِ أكثَرَ ممَّا يَعملُ فيها، ومع ذلك فالعملُ فيها أفضلُ مِن غيرِها)؛ فلا دليلَ للمؤلِّفِ أنَّ المغفرةَ الجُزئيةَ مِن خصائصِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا تعارُضَ في الحديثِ؛ لأنَّ صومَ يومِ عرَفةَ يختَصُّ بمَغفرةِ ذُنوبِ سنتينِ.
4- قولُ المؤلِّف (ص: 80): (قلتُ: والحافظُ البُخاري لمَّا تعرَّضَ لحُكمِ صيامِ يومِ عَرَفةَ في صحيحِه لم يُورِدْ شيئا في فضْلِ صيامِه، بل أورَدَ هذينِ الحديثينِ –يعني حديثَ مَيمونةَ، وحديثَ أمِّ الفضلِ في شُربِ النبيِّ لَبنًا وهو واقفٌ بعَرَفةَ في حجَّةِ الوداعِ- وظاهرُهما النهيُ عن صيامِ يومِ عَرَفةَ للحاجِّ وغيرِه. قلتُ: فمُطابقتُه للترجمةِ مِن حيث إنَّه يُوضِّحُ الإبهامَ الذي في الترجمةِ، ويكونُ التقديرُ بابٌ: صومُ يومِ عَرفةَ غيرُ مُستحَبٍّ بعَرَفةَ وغيرِ عرَفةَ، بل ذهَب بعضُ السلفِ إلى كراهةِ صومِ يومِ عَرفةَ للحاجِّ وغيرِ الحاجِّ، كما سوفُ يأتي ذِكْرُ آثارِهم في ذلك).
التعقيب: لقد أخطَأ المؤلِّفُ في استنتاجِه هذا الحكمَ الغريبَ مِن تبويبِ البُخاري، بل تقَوَّل عليه ما لم يَقُلْه، وغايةُ ما هنالك: أنَّ البُخاريَّ أبهَمَ الحكْمَ وسكَت عنه لمَّا كانت الأحاديثُ غيرَ ثابتةٍ على شرطِه، وقد علَّقَ عليه الحافظُ ابنُ حَجرٍ في ((فتْح الباري)) (4/ 236) بقولِه: (“قولُه: بابُ صومِ يومِ عَرفةَ”، أي: ما حُكمه؟ وكأنه لم تَثبُتِ الأحاديثُ الواردةُ في الترغيبِ في صومِه على شرْطه، وأصحُّها حديثُ أبي قتادةَ…).
وقال العَينيُّ في ((عُمْدة القاري)) ( 9 /179): (“بابُ صومِ يومِ عَرفةَ”، أي: هذا بابٌ في بَيانِ حُكمِ صومِ يومِ عَرفةَ، ولَمَّا لم تَثبُتْ عنده الأحاديثُ الواردةُ في الترغيبِ في صومِه على شَرطِه، أبهَمَ ولم يُبيِّنِ الحُكمَ).
وهي طريقةٌ معروفةٌ مِن صنيعِ البُخاري رحِمَه اللهُ تعالى؛ وعليه فقولُ المؤلِّفِ: (ويكونُ التقديرُ بابٌ: صومُ يومِ عَرفةَ غيرُ مُستحَبٍّ بعَرَفةَ وغيرِ عرَفةَ) مِن أفْرَى الفِرى على الإمامِ البُخاري رحِمَه الله، ولم نقِفْ على أحدٍ مِن الشُّراحِ قال بهذا القولِ، أو بهذا التقديرِ الغريبِ العجيبِ! ثم إنَّ تقديرَه بـ(غيرُ مُستحَبٍّ) شيءٌ، وزعْمه بأنه غيرُ مشروعٍ شيءٌ آخَرُ؛ فلْيُتأمَّل!
5- استدلالُ المؤلِّفِ على رأْيِه بعَدمِ مشروعيةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ (ص:91) بفَتوى لِلَّجنةِ الدائمةِ للإفتاء بالمملكةِ العربية السُّعودية، في صيامِ العشرِ الأُوَلِ مِن ذي الحجةِ؛ فقال: “سُئِلَت اللجنةُ الدائمةُ للإفتاءِ -كما في الفتاوى (ج32، ص400)- هل ثبَت أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صام عشرَ ذي الحجةِ؟
فأجابتْ: لم يَثبُتْ -فيما نَعلَمُ- أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صام عشرَ ذي الحجةِ، أي: تسعةَ الأيامِ التي قبْلَ العيدِ، لكنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حثَّ على العملِ الصالحِ فيها؛ فقد ثبَت عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «ما مِن أيَّامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِن هذه الأيَّامِ»، يعني: أيامَ العشرِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ، إلَّا رجلٌ خرَج بنفْسِه ومالِه، فلم يَرجِعْ مِن ذلك بشَيءٍ» رواهُ البخاريُّ”.
التعقيب: المؤلِّفُ استدلَّ بهذه الفتوى على أنَّ العَشرَ مِن ذي الحَجَّة لم يَثبُتْ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صامَها بما فيها يومُ عَرفةَ، وهذا استدلالٌ غلَطٌ؛ لأنَّ السُّؤالَ كان أوَّلًا عن صيامِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكلِّ الأيامِ العشرِ مُتتابعاتٍ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، فكانت الإجابةُ أنَّه لم يَثبُتْ أنَّه صامَها بهذه الطريقةِ، ولم يكُنِ السُّؤالُ عن صيامِ يومِ عَرَفةَ وحْدَه.
وقد اختار المؤلِّفُ هذه الفتوى، ولم يَنظُرْ إلى ما قبْلَها مباشرةً مِن الفتاوى الصادرةِ في مشروعيَّةِ صيامِ يومِ عَرَفةَ تطوُّعًا، وإنْ صادَف يومَ الجُمُعةِ أو يومَ السبتِ، وغير ذلك!
ثمَّ لم يَلتفِتْ إلى ما أفتَتْ به اللجنةُ الدائمةُ برئاسة الشيخِ ابن بازٍ: “يومُ عرَفةَ هو اليومُ الذي يقِفُ الناسُ فيه بعرَفةَ، وصومُه مشروعٌ لغيرِ مَن تلبَّسَ بالحجِّ، ويُشرَعُ صومُ يومِ عَرفةَ إذا صادَف يومَ جُمعةَ، ولو بدونِ صومِ يومٍ قبْلَه؛ لِمَا ثبَت عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الحثِّ على صومِه، وبيانِ فضْلِه، وعظيمِ ثوابِه” [فتاوى اللجنة الدائمة 10/393، 395]، وهذا الفعلُ مِن المؤلِّفِ يُظهِرُ الانتقاءَ المُتحيِّزَ، وعَدمَ الأمانةِ العِلْميةِ في الاستدلالِ، ونقْلِ كلامِ أهل العِلم.
والحقُّ يُقال: إنَّ لهذا الكتابِ وما كان على شاكِلَتِه خُطورةً كبيرةً، وللمُؤلِّفِ نفْسِه مجموعةٌ أخرى مِن الكتُبِ تتحدَّثُ عن هذا الموضوعِ، مبالغًا ذلك أشدَّ المبالغةِ، وفيها مِن الغَلطِ الصَّريحِ أيضًا ما فيها، وهذه الكتُب هي: (الدُّرُّ الفريد في أن يوم عرفة يوم عيد)، (النجم الوهَّاج في تضعيف حديث “صوم يوم عرفة” لغير الحاج) (إفحام المقلِّدة لفتواهم بصوم يوم عرفة) (رمْي الإصابة لبيان أنَّ يوم عرفة لم يصمْه الصحابة)!
وهذه الخُطورة تتمثَّلُ في الآتي:
1- أنَّه يُمثِّلُ حلقةً في هَدمِ قواعدَ وأُصولٍ ثابتةٍ، مثلُ هَدمِ فكرةِ الإجماعِ على حكمٍ معيَّنٍ، وهَدمِ فِكرةِ توثيقِ ما ورَد في كُتبِ الحديثِ الصحيحةِ، وخاصَّةً البُخاريَّ ومُسلمًا؛ وهذا شرٌّ عظيمٌ.
2 – يُمثِّلُ الكتابُ حلقةً في فِكرةِ إعادةِ دائرةِ التفكيرِ في النُّصوصِ الشرعيةِ مِن بدايتِها، والحكمِ على الآثارِ، واستنتاجِ الأحكامِ منها بفِكرٍ مُنعزِلٍ عمَّا قاله العلماءُ الأوَّلون، بل وانتقاءُ بعضِ ما قالَه الأوَّلون في سياقاتٍ مُعيَّنةٍ لها ضوابطُها عندهم، واجتزاءُ النُّصوصِ بما يُحِيل معانيَها، دونَ الإشارةِ إلى وُجودِ نُصوصٍ أُخرى تُشِير إلى تعدُّدِ الأوجهِ في المسألةِ المدروسةِ؛ وكلُّ ذلك بهَدفِ الوصولِ إلى ابتداءِ التفكيرِ، واستنتاجِ أحكامٍ جديدةٍ في مسائلَ تمَّ البتُّ فيها وانتهى الأمرُ، وهذا يُمثِّلُ مَدخلًا لِهَدمِ الدِّين كلِّه، بزَعمِ التمسُّكِ بالسُّنةِ، أو التجديدِ، أو تصويبِ أخطاءِ السابقينَ كلِّهم دونَ وقوفٍ عند حدٍّ.
3- أنَّ هذا الكتابَ يُمثِّلُ تَدليسًا كبيرًا على العامَّةِ في الأحكامِ الشرعيَّةِ، بما يُخالِفُ ما تعارَفَ عليه العلماءُ منذ القِدَمِ، وتلقَّاه الناسُ بالقَبولِ، وعمِلوا به عبرَ الأجيالِ؛ وهذا ما يَعمَلُ على زَعزعةِ يقينِ الناسِ في دِينهم، خاصَّةً وأنَّه يُدلِّسُ بأنه لا يُوجَدُ مخالِفٌ لرأيِه، بل يَزعُمُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصحابةَ الكرامَ لم يَعمَلوا بهذا العمَلِ، ويُوثِّقُ ذلك مِن كتبِ الحديثِ والأثرِ، آخذًا بجُزءٍ مِن النِّصوصِ المَبتورةِ عن سياقِها، وبرأْيِ بعضٍ مِن علماءِ السَّلفِ الذين يَظُنُّ أنَّهم قالوا برأْيِه، دونَ إشارةٍ لغيرِهم ممَّن يُؤيِّدون الرأيَ الأرجَحَ الذي عمِلَت به الأُمَّة، ودونَ جمْعٍ عِلميٍّ بيْن الأحاديثِ المُتعدِّدةِ في الموضوعِ.
4 – أنَّه يُمثِّلُ خُطوةً في إهدارِ قِيمةِ العلماءِ عامَّةً من السَّلفِ والخلَفِ؛ بالتَّشكيكِ الخَفِيِّ والتلميحِ بأنهم غيرُ أُمناءٍ في نقْلِ حقائقِ الدِّينِ وصحيحِ الأحكامِ، والتصريحِ بأنَّهم يُحكِّمون آراءَ الرجالِ على صحيحِ النصوصِ؛ وهذه دَعوى مُنفلِتةٌ وخطيرةٌ، حتى وإنْ كانت نِيَّةُ الباحثِ لا تَذهَبُ إلى ذلك، ولكنَّ فِعلَه وما أورَدَه في كتابِه يُوصِلُ إلى هذه النتيجةِ.
ثانيًا: نَقدُ الكتابِ مِن حيث الشكلُ المَنْهجيُّ:
1- بدَأَ المؤلِّفُ الكتابَ مِن بِدايتِه بعناوينَ فرعيَّةٍ لمُقدِّماتٍ إثاريَّةٍ وتصادُميةٍ على طريقةِ الصُّحفِ الإخباريةِ المُغرِضةِ، وليس على طريقةِ الأبحاثِ العِلْميةِ في وَضعِ هذه العناوينِ تحت مَبحَثٍ عامٍّ يَضُمُّهما، ومِن هذه العناوينِ الإثاريَّةِ على سبيلِ المثالِ: (عَصفٌ وخَسفٌ – قصفٌ وقصْمٌ – حرقٌ وبركانٌ- دكٌّ وانقضاضٌ)، وعند التَّدقيقِ فيها نَلحَظُ أنَّ غرَضَها الإلهابُ والإثارةُ، مع التلميحِ بِدايةً إلى خطأِ مَن خالَفَه، وكأنَّه وجَدَ كَنزًا أو كشْفًا عِلميًّا مُثيرًا لم يَسبِقْه إليه أحدٌ، وسيَهدِمُ به بِناءَ المخالفينَ؛ فهو يُداعِب العاطفةَ أكثَرَ ممَّا يُثير العقلَ والفِكرَ، وهذه عناوينُ لا تَتناسَبُ مع البحثِ العِلْميِّ الذي يُحتِّمُ أنْ تكونَ العناوينُ مَنطقيَّةً، ومُعبِّرةً عن مَضمونِ المحتوى الذي تحتها، ويكونَ المُحتوى قائمًا على الإقناعِ بالحُجةِ والبرهانِ والمنطِقِ العقليِّ مِن ناحيةٍ، ثم يُضاف إلى ذلك أنَّ البحثَ الشرعيَّ يَحتاجُ إلى الدليلِ الواضحِ والنقلِ الثابتِ.
فالمُقدِّماتُ الطويلةُ والأسلوبُ الغريبُ المُتكلَّف خارجُ نِطاقِ البحثِ؛ فالمؤلِّفُ كأنَّه افترَضَ خَصمًا أمامَه، وظلَّ يُعنِّفُه بألفاظٍ غريبةٍ، مِن مِثلِ قولِه في رُؤوسِ الصفحاتِ: (عصفٌ وخسفٌ) (قصفٌ وقصمٌ) (حرقٌ وبركانٌ) (دكٌّ وانقضاضٌ) (الضربةُ القاضيةُ)؛ مُوجِّها هذا إلى مَن يَزعُمُه خَصمًا! وهذا مُخالِفٌ صراحةً لِمَا نقَله المؤلِّفُ عن ابنِ عُثيمينَ: (الرجلُ إذا خالَفَك بمُقتضى الدليلِ عنده لا بمُقتضى العِنادِ؛ يَنبَغي أنْ تَزداد محبَّةً له!)؛ فهذا مُوجَّهٌ منه للمخالِفِ له؛ فهل المؤلِّفُ بكلامِه هذا مع مُخالِفه يَزِيدُ محبَّةً أم عِنادًا؟!
والكتابُ كلُّه 93 صفحةً مِن غيرِ الفهرسِ الذي جاء في 4 صفحاتٍ! والرجلُ سوَّدَ 43 صفحةً في مُقدِّماتٍ ومُهاتراتٍ قبلَ الدُّخولِ في الموضوعِ! ثم بدَأَ في المدخلِ للموضوعِ ص 44! وأخَذَ المدخلُ 5 صفحاتٍ، وبدَأَ ص 49 في الموضوعِ، والخلاصةُ: أنَّ هذا العمَلَ يَفتقِرُ إلى طريقةِ كِتابةِ البحثِ العِلْميِّ؛ فالمؤلِّفُ قدَّمَ مَوضوعَ بَحثِه في النِّصفِ الأخيرِ مِن ورَقاتِ هذا البحثِ؛ فالمُقدِّمةُ والمدخلُ مع الفهرسِ في آخرِه كان لها النَّصيبُ الأكبرُ مِن حَجمِ هذا البحثِ المكوَّنِ مِن 97 صفحةً؛ (فالمُقدِّمةُ والمَدخلُ والفهرسُ جاءتْ في 55 صفحةً تقريبًا، وموضوعُ البحثِ جاء في 42 صفحةً)؛ فيمكنُ أنْ نقولَ: “إنَّ موضوعَ البحثِ حَشوٌ على المقدَّمةِ”، وكلُّ ما فصَّلَ فيه هو في الحقيقةِ خارجُ عنوانِ البحثِ، ويُعَدُّ -في موازينِ الكتابةِ العِلْميةِ- حشْوًا يَنقُصُ البحثَ لا يُرقِّيه، فضلًا عن إجهادِ القارِئِ وتَضييعِ وقتِه بهذا الكمِّ مِن الحَشوِ. والفهرسُ جاء في 4 صفحاتٍ، جعَلَ لكلِّ صفحةٍ في الكتابِ عنوانًا، مع افتقارِ البحث من الداخلِ للعَنْونةِ والعناصرِ؛ مما أدَّى إلى خلَلٍ في الفِهرسِ ومَجيئِه بصُورةٍ غيرِ مَنهجيَّةٍ؛ فأغلَبُ العناوينِ تكادُ تكونُ فِقرةً في مَوضوعِ البحثِ لا عُنوانًا في الفهرسِ؛ مثلُ: (المدخل: في أنَّ الفقيهَ هو الذي يَعرِفُ مواقعَ الخلافِ، لا حِفظَ مُجرَّدِ الخلافِ؛ فإنَّ المقلِّدةَ بجميع أنواعِهم في هذا الزمانِ يَحفَظون الخلافَ، لكنْ لا يَعرِفون مواقعَ الخلافِ؛ فهم يَذكُرون الإجماعَ في بعضِ الأحكام بجَهلٍ بالغٍ في الفِقه الإسلاميِّ)؛ فكلُّ هذا مجرَّدُ عنوانٍ في الفهرسِ!
فجاء الكتابُ غيرَ مُرتَّبٍ وغيرَ مُحكَمِ التنظيمِ في مباحثَ أو مطالِبَ عِلميةٍ، وإنما هو في مُعظَمِه معلوماتٌ مُسترسلةٌ ومَسطورةٌ في أوراقٍ مُتتاليةٍ، وهذا لا يَتناسبُ مع المَنهجِ العِلميِّ في التأليفِ، ولا يُعطي انطباعًا جيِّدًا عن قُدرةِ المؤلِّفِ على التصنيفِ، بل يُثبِت أنَّه غيرُ مُؤهَّلٍ لمثلِ هذا العملِ، وأنَّه دَخيلٌ عليه.
وأيضًا الفهرسُ –كما سبَق- غيرُ مُرتَّبٍ بطريقةٍ عِلْميةٍ صحيحةٍ، ولا يُحِيل إلى شيءٍ في الكتابِ؛ حيث إنَّ المتعارَفَ عليه أنْ يكونَ الفهرسُ الموجودُ في آخِر الكتابِ دليلًا على مواضعِ وُجودِ عناوينِ المباحث والمطالبِ بحسبِ تَقسيماتٍ داخلَه، وهذا ما يظُنُّه القارئُ عند النَّظرةِ الأُولى في الفهرسِ، لكنْ عند الدُّخولِ إلى طيَّاتِ الكتابِ يَكتشِفُ أنَّ المذكورَ في الفهرسِ ما هو إلَّا إشاراتٌ مَرجعِيَّةٌ إلى صفحاتِ وأماكنِ وُجودِ استنتاجاتِ المؤلِّفِ وأفكارِه داخلَ الكتابِ، وليست عناوينَ لمباحثَ أو مطالِبَ.
2 – أنَّ المؤلِّفَ وضَع هذه المقدِّماتِ في أوَّلِ الكتابِ؛ لِيُمهِّدَ لتصويبَ رأْيِه، ونقضِ آراءِ مُخالِفيه؛ من خلالِ سَردِ آثارٍ وأقوالٍ للسلَفِ وللعلماءِ المُحقِّقين، دونَ تحليلٍ وتَفنيدٍ كافٍ لمرادِ هذه الأدلَّةِ وظروفِ ملابساتِ قولِها، والصوابُ مِن حيث المَنهجُ العِلميُّ: أنْ تُختصَرَ هذه المقدِّماتُ وتُؤخَّرَ إلى ما بعدَ المُقدِّمةِ العِلْميَّة لأيِّ بحثٍ عِلميٍّ، التي يُذكَرُ فيها مَوضوعُ الكتابِ وهدفُه ومنْهجُه؛ وهي الأمورُ التي لم يُبيِّنْها المؤلِّفُ بَيانًا شافيًا!
3 – كثرةُ الأخطاءِ اللُّغويةِ، وخاصَّةً في التشكيلِ وضَبطِ بِنْيةِ الكلماتِ وأعاريبِها، ناهيكَ عن أخطاء مَنهجيةٍ في طريقةِ التشكيلِ، وهذا كلُّه أكثرُ مِن أنْ يُضرَبَ له أمثلةٌ، وهو واضحٌ في عمومِ الكتابِ؛ فالكتابُ مَلِيءٌ بالتحريفاتِ والأخطاءِ في الضبْطِ التي تُغيِّرُ المعنى وتُفسِد المادَّة العِلْميةَ؛ ممَّا يُشِير إشارةً واضحةً إلى عدَمِ إتقانِ الكتابةِ، وعدَمِ إتقانِ المادَّةِ العِلْميةِ، وعدَمِ مُراجعةِ مادَّةِ الكتابِ كما يَنبغي، وكفى بذلك دليلًا على عَدمِ الدِّقةِ في الكتابةِ والتأليفِ، بلْ تُوجَدُ أخطاءٌ في شَكلِ وضَبطِ النصِّ القرآنيِّ والحديثِ النَّبويِّ التي يجِبُ التحرِّي في نقْلِهما وضَبطِهما.
فالكِتابُ يَبدو كأنه نتيجةٌ بلا مُقدِّماتٍ مَنطقيةٍ، أو حكمٌ مُسْبَقٌ بُحِثَ له عن أدلَّةٍ ساقَها المؤلِّفُ بِلَيِّ أعناقِ المتونِ والأدلَّةِ النَّقليةِ، واجتزاءِ النُّصوصِ مِن سياقِها، وابتسارِ آراءِ العلماءِ، مع الإشارةِ فقط إلى الآراءِ التي تَخدُم الفِكرةَ والحُكم المُسبَق دون الإشارةِ إلى آراء المخالفينَ ومَن يرَون مشروعيَّتَه.
وأيضًا عَدمُ ترتيبِ الكتابِ، وعَدمُ اتِّساقِ مكوِّناتِه وتَسلسُلِها على مَنهجٍ واضحٍ؛ يُشِير إشارةً واضحةً إلى أنَّ المؤلِّفَ تَعجَّلَ في إصدارِه، فنشَرَ مُسوَّدةً أوَّليةً كان يَجمَعُ فيها المتونَ والآراءَ والأقوالَ، ولعلَّ هذا يُوضِّح عدمَ وُضوحِ المَنهجِ المتَّبعِ في التأليفِ، وعدمِ النُّضجِ الفكريِّ في استخلاص الأحكامِ مِن أدلَّتها؛ وهي أمورٌ ظاهرة في الكتابِ.
وخِتامًا: نُوجِّهُ النصيحةَ للكاتِب وأمثالِه بتَركِ هذه الطريقةِ المُتكلَّفةِ في التأليفِ، واتِّباعِ طريقةِ الراسخينَ في العِلمِ من الأسلافِ الأوائلِ وأتباعِهم بإحسانٍ في تَصنيفِهم، وتَوضيحِهم للأحكامِ الشرعيَّةِ، ومنازِعِ استدلالاتِهم، كما نُوصِيه ونُوصي أنفُسَنا بالانشغالِ بما يَنفَعُ ويُفيد.
ونَسألُ اللهَ العليَّ القديرَ لنا وللكاتِب وللمُسلمين الهِدايةَ والتوفيقَ والسَّدادَ، ونَسألُه سُبحانه أنْ يُرِيَنا الحقَّ حقًّا ويَرزُقَنا اتِّباعَه، وأنْ يُرِيَنا الباطِلَ باطلًا ويَرزُقَنا اجتنابَه.
والحمدُ للهِ ربِّ العالَمين
(المصدر: موقع الدرر السنيّة)