قراءة في مشروع الإسلام الأمريكي وتصاعد نشاط الصوفية والحداثية
بقلم طلال الخضر
هناك رصد ملحوظ لموجة فكرية حداثية وصوفية في الوسط الثقافي العربي، تعامل معه التيار الاسلامي بردة فعل دفاعية حازمة، لكنها لا يبدو أنه يعي أسبابها ودوافعها. وقد ترواحت ردات فعل التيار الإسلامي على حملات التشكيك ببعض أصول الإسلام بين العشوائية والاختزالية. أقصد بالعشوائية أن التيار الإسلامي بدأ بالتصدي للهجمة الفكري بضرب عشوائي للغرب، ولأمريكا والحداثيين العرب والعلمانيين والصوفية. وأعني بالاختزالية أنه اختزل الموجة الكبيرة بقضية الحجاب، والإلحاد مثلا دون استيعاب الأجندة الرئيسية لها والسياق الذي أتت به. وبالرغم من تناول الكثير لهذه الحملة الفكرية، إلا أني لم أجد من حللها تحليلا سليماً، الأمر الذي دعاني لمحاولة شرحها.
أحداث ٩/١١ جعلت صناع القرار في أمريكا في خلاف حول سبل التعامل مع الإسلام، الإسلاميين، والدول الإسلامية. هناك تياران في الداخل الأمريكي فيما يخص السياسات الخارجية، لا أقول ديمقراطيين وجمهوريين، ولا يمينا ويسارا، إنما إمبرياليا وغير إمبريالي، حيث التيار الإمبريالي هو امتداد للعقلية الاستعمارية القديمة.
طرح التيار غير الإمبريالي فكرة دعم الديمقراطية في الوطن العربي Democratization، والتخلي عن دعم الأنظمة الاستبدادية، باعتبار أن القمع هو أهم أسباب الإرهاب، وأن الديمقراطية ستقضي عليه. وطرح التيار الإمبريالي فكرة مكافحة التطرف De-radicalization وصناعة الإسلام “المعتدل” الحداثي المتماشي مع المعايير والقيم الغربية.
الخط الأول تبنته على سبيل المثال مؤسسة بروكنغز Brookings، مركز الدراسات السياسية المؤثر على القرارات السياسية في واشنطن، من خلال دراسة قدمتها الباحثة تامارا كوفمان وايت في٢٠٠٨ بعنوان “المسيرة غير المستعدة للديموقراطية، الدور الأمريكي في بناء الديمقراطية العربية”، دعت فيها لدعم الديموقراطية والتصالح مع خيارات الشعوب. أما الخط الثاني تبنته مؤسسة راند، من خلال عدة أبحاث، من أشهرها تقرير الباحثة شيرل بينارد “الإسلام الديموقراطي المدني”.
تبنت إدارة بوش فكرة الدمقرطة -خطابياً على الأقل- وبالرغم من أن الترويج للديمقراطية كان المبرر وراء غزو العراق وأفغانستان، الخطوة التي كانت نتيجة تسوية أمريكية داخلية بين تيار مثالي يريد دعم الديموقراطية، وآخر يريد استمرار الخط الاستعماري، إلا أن فترة بوش تحسنت فيها الأوضاع الانتخابية نسبياً في بعض البلاد العربية، وشهدت للمرة الأولى انتخابات للسلطة الفلسطينية، إلا أن المفاجئة كانت صعود التيار الإسلامي في جميع الانتخابات، وعلى رأسها فوز حماس.
كانت النتائج صادمة، الأمر الذي جعل خطاب “ترويج الديموقراطية” يتراجع ويحل مكانه خطاب “مكافحة التطرف”، وهذا يعني أن صانع القرار الأمريكي رآى أن العرب غير مستعدين للديمقراطية بعد، أو بالأحرى أمريكا غير مستعدة لتقبل نتائج الديمقراطية في الوطن العربي، إلا بعد أن “تعتدل” الشعوب العربية. وعلى هذا تفعلت سياسة “مكافحة التطرف” والتدخل في الحراك الفكري والثقافي في المجتمعات الإسلامية.
في التقرير الشهير لمؤسسة راند، دعت بينارد لدعم التيارات الفكرية “الأقرب لمنظومة القيم الغربية”. فقسّمت التيارات الفكرية العربية إلى الأصوليين، التقليديين، الحداثيين، العلمانيين. وبعد تعريفات مبهمة لهذه التصنيفات دعت لدعم الحداثيين والعلمانيين ومكافحة الأصوليين والتقليديين والصوفية. وفصّل التقرير في طريقة دعم “الشركاء” من خلال “نشر كتبهم وإدراج أفكارهم في التعليم” و”منحهم المنابر”. وأوصت بفضح “الأصوليين” و”تدريب الحداثيين لمناظرتهم” و”إثبات صلاتهم بالجماعات والأنشطة غير القانونية” و”تشجيع الصحافيين على التحري عن حالات الفساد والأعمال اللاأخلاقية في أوساط الأصوليين” و”تشجيع الانقسام بين الأصوليين”، كما دعت لدعم المذهب الحنفي على حساب الحنبلي، والصوفية على حساب السلفية.
ليست كل الانتقادات على الدين، المتدينين، الإسلاميين، أو العلماء جزء من الحملة التغريبية، فبعضها انتقادات موضوعية سببها جمود جانب كثير من الإسلاميين
تعاضدت أدلة أخرى على مضي أمريكا في اتجاه صناعة الإسلام الأمريكي واختيار “الشركاء” المناسبين من بين التيارات في العالم الإسلامي، فكان مؤتمر “فهم الصوفية وأثرها في السياسة الأمريكية” الذي عقده مركز نيكسون في واشنطن، بحضور ديك تشيني، وبيرنارد لويس، ورجال كونغرس، وخلص إلى أهمية دعم التصوف لما يحمله من قيم التسامح مع الغرب، الأمر الذي جعل مير أحمدي أحد المُحاضِرات في المؤتمر تقول: “نظراً للطبيعة العلمانية للنظام السياسي الأمريكي فمن الصعب تخيل أن نرى صنّاع السياسة الأمريكية يؤيدون قيم الصوفية بصراحة”.
أضيف في هذا السياق كتاباً صدر في٢٠١٥ بعنوان Sponsoring Sufism: How Governments Promote “Mystical Islam” in Their Domestic and Foreign Policies كشف فيه المؤلف Fait Muedini عن دعم الأنظمة الحاكمة للتصوف في القوقاز والمغرب والجزائر، والسودان ودور أمريكا وبريطانيا.
يمكننا تلمس الدعم للصوفية من خلال إبراز دور علي الجفري وعبدالله بن بيه، وللحداثيين عدنان إبراهيم ومحمد شحرور وتركي الحمد، مع الاحترام لأشخاصهم. وتصريح ريكس تيلرسون -وزير الخارجية الأمريكي المُقال- عن نجاحه في إقناع دول عربية لتعديل المناهج الدينية وسحب القديمة وتدريب الأئمة والخطباء على مناهج “معتدلة” جديدة، كله يصب في إثبات هذا التوجه تحت مسمى مكافحة التطرف.
ما سبق ذكره حقائق بين شواهد كثيرة مرصودة، الأهم هو كيف نفهمها ونتعامل معها، وهنا سأبدي وجهة نظر.
أولاً: هذه السياسة لا تمثل كل الغرب، إنما تمثل الجناح الإمبريالي الذي لا يزال يعاني من عقليته الاستعمارية. وفي الغرب أجنحة أخرى لا تؤيد هذه التوجهات، وهم في خصومة داخلية معهم إزاء قضايا كثيرة من بينها السياسة الإمبريالية تجاه العرب والمسلمين. نأمل أن نتعاون معها وألا نخسرها.
ثانياً: إن دعم الجناح الإمبريالي الغربي لمجاميع من الصوفية أو الاشاعرة أو الحداثيين أو العلمانيين، لا يعني بالضرورة أن الأخيرين استجابوا لهم، فكثير من الأشاعرة والحداثيين والصوفية رفض هذا الدعم، رغم الفرصة المغرية، لكنهم رأوا الدعم الخارجي لنشر أفكارهم أمرا مرفوضا، وحراكاً ثقافيا غير نزيه، ورأوا أن طلب الأمريكان لضرب خصومهم الفكريين استغلالاً وخيانة. وهذا موقف يجب أن يُقدّر.
ثالثاً: لا ينبغي الدخول في صراع مع الصوفية والحداثيين وغيرهم، فهناك الكثير من القواسم المشتركة، وهم ليسوا المشكلة، المشكلة بمن يتلاعب بالساحة الفكرية وقواعد الحراك الثقافي، وفتح المجال لتيارات معينة وتغييب رموز تيارات أخرى.
رابعاً: لابد من التفريق بين هذه الحملة الممنهجة للتغريب، وبين التطور التاريخي الطبيعي الذي يفرض تغيرات اجتماعية حتمية لا يقودها الغرب ولا يسيطر عليها أحد. هذه التغيرات تحتم علينا التغير والمراجعة والمرونة والتمييز بين الثابت والمتغير، وتحتم على العلماء الاجتهاد والتجديد، والتصالح مع لغة العصر، ففي الشريعة الإسلامية من السعة والمرونة ما يمكنها من استيعاب المتغيرات.
خامساً: المستهدف هو الحرية والديمقراطية. هذه الحملات هي جزء من الثورة المضادة لتطلعات الشعوب العربية إلى الحرية والديموقراطية. الهدف الأمريكي والأنظمة العربية من دعم أطراف دون غيرها هو إقصاء التيار المعتدل الذي يفوز دائماً في الانتخابات، وإحداث شقاق داخلي بين النخب الثقافية.
سادساً: لا ينبغي مهاجمة الغرب. الغرب طيف واسع من تيارات مختلفة غير متواطئة. لابد من التركيز على مواجهة التوجه الإمبريالي في الغرب، بالتعاون مع يدعمنا هناك. ولابد من استخدام خطاب حقوقي و”ليبرالي” في الدفاع عن حرية التعبير للجميع وفضح “الإمبرياليين” باعتبارهم متطرفين رجعيين ينتهكون “حقوق الشعوب” في “التعبير” و”حرية الاعتقاد”. هذا الخطاب مؤثر جداً في الساحة العربية والغربية على السواء. لا يمكن استخدام كلمات مثل “الصليبيين” “النصارى” “مؤامرة”، وإلا ستخسر التيارات الديمقراطية المعركة فوراً، وستخسر التعاطف في الداخل والخارج.
سابعاً: ليست كل الانتقادات على الدين، المتدينين، الإسلاميين، أو العلماء جزء من الحملة التغريبية، فبعضها انتقادات موضوعية سببها جمود جانب كثير من الإسلاميين، وما لم يكن الخطاب الإسلامي مقنعا ومتجددا وموضوعياً وواعياً بمتغيرات الحياة سيكثر نقّاده.
ثامناً: لابد من التصالح مع مفاهيم “الليبرالية، الحرية، الحداثة، التصوف، النسوية، حقوق الإنسان”. وكسر احتكار فئات معينة لهذه المصطلحات التي لها مدلولات كثيرة قد نتفق مع بعض أوجهها. فلا بد أن نفرق في مفهوم الليبرالية بين معناه البسيط والدارج وهو الحرية العامة وبين أصوله الفلسفية المادية التي تنطلق من مركزية الإنسان، وبين التصوف بمعنى السلوك والأخلاق الدينية والروحانية، وبين الصوفية كطائفة، أو التصوف كموجة غير منضبطة، وبين الحداثة كمذهب أدبي عدمي ونسبي أو كأسلوب حياة مادي يدور حول مركزية الإنسان والعالم الدنيوي بدلاً من مركزية الخالق والعالم الأخروي، والحداثة بمعنى التحديث أي مواكبة العالم الحديث. إن الجهل بمضامين هذه المصطلحات واتخاذ مواقف حادة منها يدخلنا في حروب كلامية غير لازمة.
تاسعاً: أهم معركة يخوضها الشعب العربي اليوم هي معركة الحرية والديمقراطية، الإسلاميون لن ينهضوا بالديمقراطية لوحدهم، فهم يحتاجون الجميع، وقدرهم أن يتحملوا سهام الجهلة من بعض خصومهم الفكريين، وأن يتساموا ويسعوا لكسبهم وإقناعهم بأنهم في صف واحد ضد من يريد مصادرة الحرية من الجميع، وأن الدور بعد الإسلاميين سيكون على العلمانيين والحداثيين وغيرهم كما حدث في مصر. فالمعارك الأيدلوجية لا معنى لها في ظل أنظمة لا تحترم الجميع.
(المصدر: مدونات الجزيرة)