قراءة في كتاب (في النظرية السياسية الإسلامية)
قراءة أ. رجب السيد الدسوقي
ثمة ندرة في اتجاه الدراسات التأصيلية المعنية بالتأسيس لعالم المفاهيم والأفكار في العالم الإسلامي المعاصر، لصالح حالة من الاستغراق في عالم الأشخاص والأحداث والنظم والمؤسسات، دون رابط تحليلي يجمع بين عالم الوعي وعوالم السعي، أو عالم الفكر وعوالم الواقع.
ويلاحظ المتابع للإنتاج الفكري العربي المعاصر في مجال الفكر السياسي غلبة النزعة الوصفية المكررة، وغياب النزعة النقدية التفكيكية البنائية، التي تُعنى بتحليل جذور الفكر السياسي الإسلامي (التراثي -الحديث– المعاصر)، بمستوياته المختلفة الزمانية والمكانية وتنوعاته المذهبية المتعددة؛ سواء على مستوى الفكر السياسي السني-السني، أو الشيعي–الشيعي، أو الشيعي–السني.
(1)
في هذا السياق تأتي أهمية العمل الموسوعي الجامع للدكتور علي فهد الزميع، والصادر عن مركز نهوض للدراسات والنشر (2018) تحت عنوان «في النظرية السياسية الإسلامية: دراسة تحليلية نقدية لمسارات وتطور تاريخ الفكر السياسي السني والشيعي»؛ إذ يتميز الكتاب بالغوص في مستويات تحليلية مركبة تجمع بين ثلاثية الفكر والتاريخ والحركة، بالتركيز على دراسة مسارات تطور الفكر السياسي السني والشيعي، وما يواجهما من قضايا وتحديات وإشكاليات نظرية وتطبيقية في الواقع الحديث والمعاصر.
(2)
ينقسم الكتاب المطبوع في مجلد كبير (831 صفحة) إلى بابين كبيرين، ينضوي تحت كل واحد منهما فصولٌ ومباحثُ متعددة؛ الباب الأول: ويشمل أربعة فصول تتناول رصدَ مسار تطور التجربة الإسلامية في الفكر السياسي.
يتناول الفصل الأول تعريف مفهوم النظرية السياسية وأهميتها، وأبرز إسهامات العلماء المسلمين المعاصرين في مجال بناء نظرية سياسية إسلامية جامعة، وقد اعتنى الكاتب في هذا الفصل بتحليل إسهامات عدد كبير جدًّا من المفكرين ذوي الانتماءات والخلفيات الفكرية المختلفة مثل: رشيد رضا، عبد الرزاق السنهوري، محمد ضياء الدين الريس، حامد ربيع، سيف الدين عبد الفتاح، محمد طه بدوي، طه عبد الرحمن، لؤي صافي، أحمد داود أوغلو، أمحمد جبرون، أحمد ولد مولاي، وائل حلاق وغيرهم.
أما الفصل الثاني فقد ركز على التحليل التاريخي للحقب السياسية المختلفة، حتى اللحظة الراهنة، بدءًا بالتجربة النبوية والراشدية وما بعدها، وصولًا إلى سقوط الخلافة العثمانية وما بعدها، معتمدًا على منهاجية تقييم مركبة تتأسس على مدى قرب الحقبة أو العصر أو نظام الحكم القائم أو بعده (على اختلاف التسمية) من خمس قيم أساسية هي: ( الشورى، البيعة، التداول السلمي للسلطة،المعارضة والتعددية السياسية، المواطنة).
(3)
أمَّا الفصل الثالث فإنه يرصد تطور الفكر السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر؛ بالتركيز على حقبة ما قبل سقوط الخلافة العثمانية مباشرة أو ما يسمى «عصر الانحدار»، والتي ظهر فيها أعلام مدرسة النهضة الإسلامية الحديثة مثل رفاعة الطهطاوي، خير الدين التونسي، جمال الدين الأفغاني، الإمام محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، رشيد رضا، السنهوري.
كما تناول الفصل حقبةَ ما بعد سقوط الخلافة، وما ظهر بعدها من تيارات إسلامية مختلفة، صنفها الباحث إلى ثلاثة تيارات كبرى: (سلفي تقليدي، اجتهادي تقليدي، اجتهادي مقاصدي). كما اعتنى الكاتب برسم خرائطها الفكرية والحركية، ومناقشة أفكارها النظرية والتنظيمية، ونقد مواقفها المعاصرة تجاه قضايا الحكم والدولة المعاصرة، إضافة إلى الموقف من الثورات العربية وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
أما الفصل الرابع فيركز على رصد تطورات الفكر السياسي الشيعي الحديث والمعاصر، ويقسمها إلى حقب، تبدأ بالتأسيس المبكر منذ عهد سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم حقبة ما بعد استشهاد الحسين، وحقبة غيبة الإمام محمد العسكري، وحقبة عصر الدولة الصفوية، وكذلك حقبة عصر النهضة الشيعي، وحقبة نظرية ولاية الفقيه.
كما يتناول أبرزَ رواد الفقه السياسي الشيعي، وإسهاماتهم الفكرية والسياسية، ومعالم التقارب والابتعاد عن الفكر السياسي السني، مثل محمد حسين النائيني، علي شريعتي، محمد باقر الصدر، محمد مهدي شمس الدين.
ويمتد البحث في هذا الفصل إلى إلقاء الضوء على أبرز الحركات والتنظيمات السياسية الشيعية الحديثة والمعاصرة، مثل حزب الدعوة الإسلامية، ومنظمة العمل الإسلامي، وحزب الله وتنظيماته في العالم العربي (لبنان – الحجاز -الكويت).
(4)
أمَا الباب الثاني من الكتاب فيشتمل على ستة فصول اهتمَّت برصد وتحليل أهم التحديات والإشكاليات، التي تواجه أي محاولة لبناء نظرية سياسية إسلامية معاصرة.
يحلل الفصل الأول أبرزَ إشكاليات الاجتهاد في المجال السياسي بالتركيز على قضايا النص والتاريخ والاستبداد السياسي والتعددية.
أمَّا الفصل الثاني فيحلل تحديات وإشكاليات نظام الحكم في المنظور الإسلامي، ويركز على قضايا الخلافة ومدى جواز تعددها على مستوى الأقطار، وكذلك قضايا الشورى واختيار الحاكم والتداول السلمي للسلطة وصوره القديمة والمعاصرة، وأهل الحل والعقد، والرقابة السياسية على الحاكم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وموقعه في عالم السياسة الحديث، ودولة القانون والمؤسسات.
أما الفصل الثالث فيحلِّل إشكاليات مفاهيم السيادة والشرعية من منظور نقدي مقارن بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، وما ينتج عن تلك المقارنة من تساؤلات إشكالية خاصة حول هوية القائمين على السيادة، وتطبيق الشريعة في الفكر الإسلامي السني والشيعي، والنظام أم الأمة أم كلاهما معًا، إضافة إلى أسئلة أخرى حول شرعية الحاكم ومن أين تستمد … إلخ.
(5)
يتناول الفصل الرابع تحليلَ مفهوم مدنية الدولة وإشكالياته في الفكر الإسلامي المعاصر مقارنةً بالفكر الغربي، ويركز الكاتب على تحليل الجدل الدائر بين المدارس الفكرية السنية المختلفة حول علاقة الدين بالدولة في الفكر السني، أما الفكر الشيعي فيتناوله من مدخل الدولة الثيوقراطية، ثم يتنقل إلى تحليل ونقد مواقف التيارات الإسلامية المعاصرة من قضية الديموقراطية.
أما الفصل الخامس فيتناول تحليلَ تحديات وإشكاليات تقنين الحالة الحقوقية في الإسلام، ويركز على مفاهيم حقوق الإنسان المعاصرة ومدى مركزية مفهوم الحرية في التأسيس الإسلامي، وما يشتبك معه من قضايا جدلية؛ مثل حرية الاعتقاد وحد الردة وحقوق الأقليات، وكذلك مدى تعارض تطبيق الحدود الجنائية مع مفاهيم حقوق الإنسان، وأوجه الالتباسات المنهاجية التي تحدث في تناول هذه القضايا.
أما الفصل السادس فقد ركز على تحليل قضية العنف السياسي في الفكر الإسلامي السني والشيعي، ويتناول تعريف العنف ودوافعه المختلفة وعدم اقتصاره على الإسلام وانتشاره، عبر جميع الأديان والحضارات القديمة والحديثة. كما يتناول أبرز الجماعات الإسلامية التي لجأت للعنف قديمًا وحديثًا، مثل الخوارج وجماعة التكفير والهجرة، والأسباب والدوافع التي ساهمت في ظهور هذه الحركات وأبرزها الاستبداد السياسي الذي تُعاني منه أغلب البلاد العربية والإسلامية، إضافة إلى نقد الأفهام الملتبسة حول مفهوم الجهاد، ومظاهر الخلل في التربية الإسلامية الحديثة، ونقد الأسس الصراعية والاصطفائية والهوياتية التي تقوم عليها التيارات الإسلامية الحديثة.
(6)
اختتم د. الزميع، هذا العمل التحليلي الموسوعي الضخم بعدد كبير من الملاحظات النقدية الهامة، سواء على مستوى الأفكار السياسية السائدة في المجالين السني والشيعي، أو على مستوى أفكار وأداء الحركات الإسلامية المعاصرة المعتدلة والمتشددة، كما قدم مجموعة من الأفكار على طريق بناء مشروع نظرية سياسية من منظور إسلامي معاصر.
وقد جاءت انتقادات الزميع للتيارات السياسية التقليدية- سنية كانت أو شيعية – جذرية حادة ترى ما يقدمونه أقربَ لنموذج الدولة الدينية الثيوقراطية الأحادية الإقصائية للآخر المختلف دينيًّا وفكريًّا.
ويشخص الزميع أزمة تلك التيارات في عدة أوجه أبرزها التمسك بالشكل على حساب المضمون؛ ذلك أن أغلب التيارات الإسلامية التقليدية الحديثة قد ركزت مسارها في الدعوة لإعادة إحياء الخلافة الإسلامية بشكلها الأممي التقليدي، ورفض مفهوم الدولة الوطنية، متجاهلين حقيقة أن الفقه التاريخي – ما بعد الخلافة الراشدة – قد أقر بقبول وجود دولة إسلامية أخرى بجانب الخلافة، بل ونظر إليها باعتبارها خلافة قائمة بذاتها، وهو ما حدث بالفعل ومُورس في الغالبية العظمى من فترات التاريخ الإسلامي.
إضافة إلى فقدان تلك التيارات لتصورات كاملة لشكل هذه الدولة الأممية التي يدعون إليها، وكيفية الاشتباك مع التحديات التي ستواجهها عند إنزالها على الواقع الحالي، وكذلك كيفية التعامل مع الواقع السياسي الدولي القائم في شكل دول مستقلة وذات سيادة وحدود سياسية، فضلًا عن المتغيرات الكبيرة التي طرأت على الدولة الحديثة وأساليب إدارتها.
(7)
ويميل الزميع إلى منهج المدرسة الاجتهادية المقاصدية التي تدعو إلى ضرورة تقنين الموقف الشرعي من الدولة القطرية الوطنية، وتقبل الواقع السياسي القائم في شكل بلدان متعددة، مع محاولة إقامة مظلة واحدة تجمع تلك البلدان الإسلامية على غرار التكتلات الدولية الحديثة؛ ذلك أن الاستمرار في الدعوة إلى الخلافة الأممية بشكلها القديم سيعرض الواقع السياسي الإسلامي لأخطار عديدة، أبرزها الوقوع في فخ الفوضى السياسية، بمحاولة إنهاء الواقع السياسي القائم حاليًّا في شكل دول عدة؛ مما يترك المنطقة في حالة من الفراغ السياسي.
كما لاحظ الزميع أن جُلَّ التيارات التقليدية الرافضة للتجديد تنشغل بالهدم دون البناء، ويتجلى ذلك في مبالغتها في تقييم إيمان واعتقاد وعبادات المسلمين بما يؤدى إلى ما يسميه (القتل المعنوي للمسلم)، عن طريق التشكيك في صدق إيمانه وسلامة معتقده، وهو ما يخلق مناخًا فقهيًّا وفكريًّا يقود إلى التكفير، ومن ثم إلى العنف المتمثل في (القتل المادي) في مرحلة لاحقة.
ويميل الزميع في المقابل إلى نهج تيار التجديد المقاصدي المنشغل بالبناء، وتفهم مواقف الآخر، ومد جسور التواصل والحوار معه، والانطلاق من قاعدة المشترك الإنساني بين كافة مكونات المجتمع، ومن ثمَّ إشراك الجميع في عملية البناء والتغيير الحضاري.
(8)
شملت انتقادات الزميع فقهاءَ العصر الذين تحوَّلوا إلى مجرد حراس على أبواب التراث، مانعين لأنفسهم، حاجزين لغيرهم عن ممارسة عمليات النقد والتفكير والبناء والتطوير، داعيًا إياهم لفتح باب الاجتهاد ومحاولة الإجابة على عدد من القضايا المحورية ذات الصلة بالحالة المعاصرة، مثل الدولة الوطنية والمواطنة والشورى وتداول السلطة والمعارضة، وكيفية الانخراط في النظام العالمي وغيرها.
ودعا الزميع إلى فتح مناقشة نقدية بنائية واسعة حول مفاهيم السيادة والشرعية السياسية، التي لا تزال غامضةً ومشوشةً في المجال العربي والإسلامي، تمهيدًا لترجمتها إلى مجموعة من الإجراءات والمؤشرات الدقيقة والصارمة الحاسمة للتحديات المعاصرة، وفي هذا السياق يؤكد الباحث على قاعدة ذهبية، مفادها أن بقاء الإسلام مرتبط بالأساس بالأمة وليس بالدولة، فالأمة هي من تضفي الشرعية السياسية على من تشاء وتنزعها ممن تشاء.
(9)
من خلال ما تمَّ عرضه من تحديات وإشكاليات راهنة يرى د. الزميع حتمية الإسراع في بناء وتأطير نظرية سياسية إسلامية، تساعد في فهم وتفسير التحديات الحضارية التي تمرُّ بها أمتنا العربية والإسلامية في الوقت الراهن، لاسيما ما تشهده من حالات الفوضى والصراعات السياسية والحروب الأهلية.
وقد طرح الكاتب عدةَ أفكار نظرية وعملية لتأسيس مسار بحثي علمي استشرافي يستهدف كسرَ محاولة احتكار السياسيين للحراك السياسي للأمة، سواء على مستوى الأنظمة الرسمية أو التيارات والأحزاب السياسية.
وفي هذا السياق يقترح د. الزميع خريطة بحثية متنوعة المسارات، تبدأ بالدخول إلى عالم التنظير السياسي والفلسفة السياسية؛ لوضع إطار عام للفكر السياسي الإسلامي يتميز عن الفكر السياسي الغربي في أبعاده الإنسانية والأخلاقية.
ويقترح الدخول إلى عالم التاريخ لتحليل أهمِّ القضايا والأحداث السياسية في هذا التاريخ، وإسقاطاتها وتفاعلاتها مع واقع الشعوب المسلمة والمجتمع المدني، دون التركيز على التاريخ السياسي للدولة ونظمها السياسية، كما جرت عليه الدراسات العربية التقليدية التي سبق وأن تناولت هذا التاريخ.
وينضم عالم الفقه إلى المجالات التي يقترحها الزميع، بهدف إنتاج دراسات فقهية سياسية، تركز بصفة أساسية على أهم القيم والأحكام الشرعية والاجتهادات المختلفة بشأنها، والتي يمكن أن تمثل نواة لمشروع أي نظرية سياسية.
(10)
المجال الرابع هو علم الاجتماع، ويقترح الدخول فيه بهدف إنتاج دراسات اجتماعية إسلامية، ضمن مشروع أوسع لتأسيس علم اجتماع ديني للمسلمين، يرصد تطورات العلاقة والتفاعل بين الدين والمجتمع، وأثر المفردات الشرعية على الحراك الاجتماعي وتقاطعها السياسي والأهلي، ودور المجتمع المدني في تحقيق مقاصد الشريعة، ودور المؤسسات الدينية في تطور الفكر الديني سلبًا أم إيجابًا، وبحث مدى إمكانية حيادها في المستقبل.
يقترح د. الزميع كذلك الدخولَ إلى مجال القانون، بهدف إنتاج دراسات سياسية وقانونية دستورية تتبنى عملية تقنين المفردات والاجتهادات الفقهية السياسية، في شكل برامج سياسية أو مواد قانونية ودستورية؛ لتكون تحت تصرف المجتمعات الإسلامية الراغبة في إنزال هذا الفكر على الواقع السياسي.
ويقدم د. الزميع عددًا من الأفكار العملية اللازمة لتسهيل هذا المشروع البحثي الاستشرافي الجامع، تبدأ بتأسيس قاعدة معلومات تحوي كل ما يطرح حول النظرية السياسية في الإسلام، ومسيرتها التاريخية والفقهية والسياسية وتطورها، وذلك من خلال رصد وتجميع وتقنين هذه المادة وتنظيمها إلكترونيًّا؛ سواء أكانت معلومةً أو وثيقةً أو مرجعًا أو دورية مرتبطة بشكل أو بآخر، بالمشروع والعمل على جعلها متوفرةً ومتاحة للجميع.
ويقترح التشبيك بين كافة المؤسسات والمراكز البحثية المنتشرة عبر العالم الإسلامي، وتوثيق عرى التواصل العلمي والبحثي بينهم، عبر مؤتمر سنوي يناقش الاجتهادات المقدَّمَة، ويساهم في تطويرها، إضافة إلى إنشاء مواقع إلكترونية متخصصة، وتأسيس دور نشر ومجلات معنية بهذا المسار ودراساته المستقبلية.
(المصدر: مركز نهوض للدراسات والنشر)