قراءة في كتاب (الإمامة والسياسة)
قراءة أحمد التلاوي
منذ مرحلة ما بعد البعثة النبوية، كانت قضية الإمامة وقضايا السياسة والحكم بشكل عام، واحدةً من أهم القضايا الإشكالية في الفقه والفكر الإسلاميَّيْن على حدٍّ سواء.
وزاد الاهتمام بها منذ بداية الصحوة الإسلامية المعاصِرة، وطَرْح عدد من الحركات والأحزاب الإسلامية لنفسها كبديلٍ للحكم في كثيرٍ من الدول العربية والمسلمة، ولاسيما في مرحلة بعد ما يُعرَف بثورات الربيع العربي.
ومن بين المسائل الاهم المتعلقة بقضية الإمامة، وعلى وجه التحديد بالنسبة للآخر، سواء غير الإسلامي أو غير المسلم في العالم العربي والإسلامي، أو الآخر في العالم الواسع من حولنا، قضية تداول السلطة وكيفية ذلك بالنسبة للتشريع الإسلامي.
في هذا الإطارـ مثَّلت فترة ما بعد وفاة النبي الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، وبالتحديد ما بعد خلافة عمر بن الخطاب (رضي اللهُ عنه)، وما شهدته من صراعات سقط فيها عشرات الآلاف من القتلى، وتم قصف الكعبة وهدمها خلالها، وقتل عددٍ كبير من الصحابة وآل بيت النبوة، رضوان الله تعالى عليهم، خلال أحداث الفتنة الكبرى، وخلال حكم معاوية بن أبي سفيان وبيته؛ مثَّلت هذه الفترة مجالاً كبيرًا للنقاشات والمماحكات حول النظام السياسي في الإسلام، وقضية تداول السلطة.
وكانت المشكلة الأبرز في تناول هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ المسلمين، هي غبشة الرؤية التأريخية، وخلط العديد من المؤرخين والمستشرقين، عن عمدٍ أو بغير عمدٍ، بين الإسلام وبين ممارسات المسلمين في هذه النقطة.
وفي قضية التأريخ وما شابه من إشكالات، بين أيدينا كتاب من بين الكتب ذات الأهمية الخاصة في هذا الصدد، وهو كتاب “الإمامة والسياسة” للإمام والقاضي المسلم ابن قتيبة، الذي يتناول بالتوثيق الدقيق في حقيقة الأمر، لتطورات أحوال السياسة والحكم في الدول الإسلامية المختلفة التي تلت الرسول الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، حتى خلافة الخليفة المأمون لأبيه هارون الرشيد في عهد الدولة العباسية.
والطبعة التي بين أيدينا، هي طبعة “هيئة قصور الثقافة”، وهي هيئة تابعة لوزارة الثقافة المصرية، وصدر ضمن موسم شهر رمضان للعام 1435هـ، 2014م، وهي من جزأَيْن، ومأخوذة عن نسخة “مطبعة النيل” التي صدرت عام 1904م، وحقَّقها محمد محمود الرافعي.
أهمية الكتاب تأتي من أمرَيْن. الأمر الأول، أنَّ مؤلفه في مادته التاريخية، جَمَع الكثير من الأخبار والشهادات حول الحدث الواحد، ولم يقف عند حدِّ روايةٍ واحدة، كما أنه لم يرتكب خطيئة المؤرخين في العادة، وهي الانحياز؛ حيث كان يذكر الأخبار والأحداث من دون أي تدخُّل أو وصوفات قيمية من جانبه، كتأييد موقف هذا والهجوم على ذلك، وتزكية الخيرية لأحدٍ على الآخر من الخصوم المختلفين في لعبة السياسة والحكم في الفترة الطويلة التي تضمنها الكتاب.
الأمر الثاني، أنَّ الكتاب لم يقف عند نقطة صراعات السياسة والحكم في الدولة الإسلامية في الفترة الزمنية التي يغطِّيها، ولا على تطور الحدث السياسي بشكل عام، وكيف انتقلت السلطة من هذا الخليفة إلى ذاك، وإنما قدَّم كذلك سردية تاريخية موسَّعة حول فتوحات المسلمين، والتي شملت في الفترة الزمنية التي تناولها، فتوحات المسلمين من الأندلس غربًا، وحتى أواسط آسيا غربًا.
وفي تقديمه لهذه السردية، اهتم ابن قُتَيْبَة، بتقديم رؤية – حدثية أو تأريخية، وليست ذاتية – لكيف لعبت هذه الفتوحات دورها في تشكيل حياة المسلمين السياسية والاجتماعية، وكيف أثَّرت هذه الفتوحات، سواء في حدِّ ذاتها كانتصارات للحاكم والدولة، أو فيما يتعلق بتأثيرات النظم السياسية والإدارية التي وجدها الفاتحون العرب والمسلمون في الأمصار والدول التي فتحوها، على النظم السياسية والإدارية للدولة الإسلامية في كلِّ عصرٍ من العصور.
مع الكتاب
الجزء الأول من الكتاب، تناول فيه ابن قُتَيْبَة تطورات الحدث السياسي والاجتماعي في الدولة الإسلامية الوليدة بعد النبي “عليه الصلاة والسلام”، بدءًا من خلافة أبي بكرٍ وعمر رضي اللهُ عنهما، وصولاً إلى واقعة الحِرَّة الشهيرة في المدينة المنورة، في العام 63 للهجرة، والتي راح فيها خلقٌ عظيمٌ من الصحابة والمسلمين، على يد جيش يزيد بن معاوية، الذي قاده مسلم بن عقبة.
الجزء الثاني من الكتاب، يبدأ مما بعد هذه الفترة، وحتى ولاية المأمون بن هارون الرشيد، وفيه نلاحظ الأهمية التي أعطاها المؤلف لحدثَيْن أساسيَّيْن.
الحدث الأول، كيفية قضاء العباسيين على الدولة الأموية، وخلاف أبي مسلم الخراساني مع أبي العباس عبد الله السفاح، أول خليفة للدولة العباسية، في تشابه رآه ابن قُتَيْبَة مع أحداث الفتنة الكبرى.
الحدث الثاني، هو فتوحات المسلمين لشمال أفريقيا والمغرب على يد موسى بن نُصَير؛ حيث رآها امتداد لصراعات العباسيين وآل البيت الهاشمي مع الأمويين.
وبشكل عام، فقد اهتم ابن قُتَيْبَة بذكر أخبار الصراعات السياسية والثورات التي وقعت في ذلك الوقت على حكم العباسيين، وأثر انتقال الأمويين إلى المغرب ومنها إلى الأندلس فرارًا من بطش العباسيين في رسم وتشكيل خريطة الدولة الإسلامية وتحديد فترات القوة والضعف فيها بحسب استقرار الأحوال الداخلية لكلٍّ من الكيانات التي شملتها.
والكتاب بشكل عام، من المهم قراءته لأنه يتضمن الكثير من التدقيق في الأحداث الصغيرة التي وقعت، وكان لها أكبر الأثر في توجيه بوصلة الأحوال العامة للدولة الإسلامية، وولاياتها المختلفة، بخلاف الكثير من المؤرخين المسلمين والمستشرقين فيما بعد، ممَّن ركَّزوا على الأحداث الكبرى، والتي لا تُقدِّم قراءتها وحدها، نظرة صحيحة للأمور.
مع المؤلف:
المؤلف هو الإمام والقاضي المسلم الأشهر، ابن قُتَيْبَة، أو أبو محمد عبد الله بن عبد المجيد بن مسلم بن قُتَيْبَة الدينوري [828م – 889م]، وهو بجانب أنَّه كان فقيهًا وقاضيًا، فقد كان أديبًا ومُحدِّثًا ومؤرخًا، وهو من مواليد بغداد، ولكنه كان مِن أصولٍ فارسية، له العديد من الكتب، من بين أهمها: “تفسير القرآن الكريم”، و”غريب الحديث”، و”مشكل الحديث”، “عيون الأخبار”، و”أدب الكاتب”، بجانب هذا الكتاب.
ومن بين أساتذته، في الفقه، إسحاق بن راهويه، وهو أحد أصحاب الإمام الشافعي، وله مسند معروف، وفي اللغة والنحو والقراءات، أبي حاتم السجستاني، وأبي الفضل الرياشي.
ويعود نسبه، “الدينوري”، إلى قضاء “دينور”، من أعمال بلاد فارس، والذي تولَّى وظيفة القضاء فيه لفترةٍ من حياته، ثم عاد واستقرَّ في بغداد مرَّة أخرى، وأقام فيها حلقة للتدريس، ومن أشهر تلاميذه فيها، ابنه القاضي، أبو جعفر أحمد بن قُتَيْبَة، وأبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه.
بيانات الكتاب:
اسم المؤلف: الإمام ابن قُتَيْبَة، أبو محمد عبد الله بن عبد المجيد بن مسلم الدينوري
اسم الكتاب: الإمامة والسياسة
عدد الصفحات: 184 صفحة
(المصدر: موقع بصائر)