مقالاتمقالات مختارة

قراءة في ضوابط التصور السياسي لـ”العدل والإحسان” بالمغرب

قراءة في ضوابط التصور السياسي لـ”العدل والإحسان” بالمغرب

بقلم عمر أمكاسو

تعتبر جماعة العدل والإحسان، واحدة من كبريات الحركات الإسلامية في المغرب، وعلى الرغم من أن لها قيادات معروفين ومواقع رسمية على الإنترنت، فإن السلطات المغربية لا تزال تعتبرها جماعة محظورة، وهو تصنيف ترفضه الجماعة، وتقول إنها حصلت على ترخيص رسمي في الثمانينيات.

بعيدا عن الإشكال القانوني والسياسي، تفتح “عربي21” ملف المقومات الفكرية والسياسية لجماعة العدل والإحسان، بقلم واحد من قياداتها، وهو الدكتور عمر أمكاسو، وهو بالإضافة لصفته باحثا في التاريخ، فهو مسؤول مكتب الإعلام وعضو مجلس الإرشاد في الجماعة.

ضوابط العمل السياسي

إذا كان للتصور السياسي لجماعة العدل والإحسان محددات ومرتكزات تحكمت في تأسيسه، فإن له ضوابط تتحكم في بنائه وتشييده وتضمن نجاحه واستمراريته، هذه الضوابط بمثابة الحصن المنيع وصمام الأمان الذي يحفظ التصورَ والبرنامجَ من الفشل أو الانحراف عن مقاصده الأساسية. فمن المهم جدا أن تمتلك تصورا جادا وفعالا للتغيير، لكن أهم منه أن تمتلك آليات وضوابط لتنزيله وإنجاحه. وأهم منه كذلك أن تتوفر على رجال ونساء أكفاء أهل لحمله ونشره ونصرته.

أ ـ التربية الإيمانية

إن أكبر تحدي يواجه الحركات الاجتماعية التغييرية وضمنها الحركات الإسلامية، هو مدى قدرة وكفاءة وأهلية أعضائها على تشييد مشروعها في الواقع البشري وإنجاحه ونصرته. فمهما كان تصورك رفيعا وشاملا ومتماسكا فإن الجانبَ الذاتيَ عاملٌ حاسم ومصيري في تنزيل هذا التصور واستمراريته. وتحدد جماعة العدل والإحسان هذا العامل في الباعث الإيماني الإحساني، وترى فيه الشرطَ الأساسي في إقامة مشروعها ونجاحه.

فالتربية الإيمانية الإحسانية هي شرطُ الشروط وضرورةُ الضرورات في التصور والبرنامج السياسي لجماعة العدل والإحسان. فبدون الباعث الإيماني وفي غياب القصد الإحساني ينتقض البناء وتتبخر الأحلام وتخيب الآمال.

التربية الإيمانية من منظور الجماعة هي اللب، هي الأصل والأساس، الذي عليه ينبغي أن يكون البناء. يقول الإمام ياسين في شأن هذا العامل الإيماني الذي يعبر عنه الآخر بمصطلحات مثل: محفز (catalyseur)   ومحرك (moteur) ودينامكية (dynamique) ودافع (motivation) وهي مصطلحات نفسية باطنية: “إن القومة الإسلامية تطلب سلطانا قويا، لا شك في ذلك والسلطان القوي غير السلطان العنيف. لكن أسبق شيء تحتاجه القومة، وأهم شيء وأجدى شيء، هم رجال قرآنيون نبويون. من الأمة وإليها ومعها. لا ليفعلوا بها، بل ليوقظوها، ويربوها حتى تصبح فاعلة”. (المنهاج النبوي، ص32).

وفي كتاب العدل، الإسلاميون والحكم، ص132 يقول: “وعلى المرتبة الإيمانية الإحسانية الأخلاقية لجند الله، وعلى نموذجية سلوكهم وتفانيهم في نصرة دين الله يتوقف نجاحُ الخطة. فإنه لا يقيم دينَ الله في الأرض إلا مؤمنون جسمهم وجهدهم هنا وطموح روحهم في الآخرة”.

وفي نفس المعنى يقول د. عبد الواحد المتوكل رئيس الدائرة السياسية للجماعة: “لا شك أن للعمل السياسي مزالقَه وأخطارَه، وأكبرُ أخطاره فسادُ النية، أي عوض أن يكون العمل في سبيل الله والمستضعفين، يكون سعيا وراء مكاسب مادية أو معنوية. ولا مصيبةَ أعظم من المصيبة في الدين التي قد يترتب عليها ضياع الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين، والعياذ بالله. لذلك أكرر مرة أخرى بأن التربيةَ عنصر مركزي في منهاجنا وتصورنا، ولا نعتبرها إطلاقا مسألة شخصية، كما يتصور البعض، أو ثانوية يسع المرء التفريط فيها. فالتربية في تقديرنا هي صمام الأمان” (أسبوعية المشعل، العدد 50، ص8).

ب ـ الرحمة والرفق

الرفق والرحمة ضابط أساسي وعامل من أهم عوامل نجاح التغيير الإسلامي. يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه”.

الرحمة إذن ضابط أساسي في صلاح العمل ونجاحه، وغيابها يعني العنف، يعني الجهل على الإنسان، يعني الاستبداد، يعني فشل التصور والبرامج.

من لا يبني على التقوى والإيمان وطاعة الله عز وجل وحبه والتقرب إليه كمن يبني على الرمال. يقول الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه: “يا ابن آدم! أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مَرَّ بنصيبك من الدنيا فانْتَظَمَها انتظاما. وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبُك من الآخرة وأنت من الدنيا في خطر”. هذا “الانتظام الإيماني” سر عظيم من أسرار سطوع شمس الحركات الإسلامية وانتشارها وفوزها.

يقول الإمام ياسين رحمه الله مشددا على هذا الأمر: “أُمِرْنا في الدين بالتيسير والتبشير، فهذا رفقٌ يقابله عنفُ فقيه يُكفِّر المسلمين، وداع لا يفتح أبوابَ التوبة، ومشتاق لحكم الإسلام يتصوره ويصوره وجها حانقا وسيفا مُصْلتا، وقلوبا لا ترحم. يكون من صلب التربية والتعليم النظرُ في أمثلة حِلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأناته، وصبره وتحمله، وشفقته على الخلق، ليكون ذلك لنا نموذجا يُحتذى. فإننا لن نسع الناسَ، ولن ينفتح لنا الناسُ، إن تقدمنا إليهم بالوجه العابس والتشديد والتعسير. وفي السيرة المطهرة أمثلة رفيعة لرفق الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم الناس دينهم، وتدرجه بهم، وحِلمه على ذوي الطباع الخشنة وقليلي الفقه. إن حلمَه صلى الله عليه وسلم ورفقَه حتى بالمنافقين يعطينا نموذجَ السلوك في فترة الانتقال، حين يتعين علينا أن نُحَبِّب الإسلامَ لأقوام أَلِفوا التحررَ من كل ضابط خلقي”. (العدل، ص313 ـ 314).

هذه الرحمة وهذا الرفق ليست ثقافة ولا كلاما يُلاك، فإذا جاء الخَطْبُ، وتضاربت المصالح، وحصل الاستفزاز تبخرت وارتحلت وحل محلها الجهل والعنف. الرحمة التي تعنيها الجماعة وتنشدها حال وخلق راسخ. إنها ثمرة صحبة ربانية مباركة أساسها ذكر الله عزت قدرته، وعمادها الصدق في طلب وجهه ونيل رضاه.

ت ـ المرونة والتدرج

المحجة اللاحبة هي صلب العمل. والمرونة والتدرج ضابطان يضمنان استمرارية العمل ونجاحه. العمل الإسلامي ممارسة طويلة المدى ومعقدة الجوانب. فلابد إذن من صبر ومرونة وتدرج وليونة، وإلا تكسر على أول صخرة تقف أمامه. “ومن أحنى رأسه أمام العاصفة بِنِيَّة تغيير أسلوب الجهاد فإنما يعمل على المستوى الجماعي بهذا الحديث النبوي في حق المؤمن الفرد، ولا بأس. روى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريحُ كفتها. فإذا سكنت اعتدلت. وكذلك المؤمن يُكفَأُ بالبلاء. ومثل الفاجر كالأَرُزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء)”. (العدل، ص 27 ـ 28).

على أن المرونة في تصريف الفعل السياسي وتحيينه لا في مبادئه وثوابته، وإلا أودت بنا هذه “المرونة” في براثين الطاعة البليدة والانبطاح الذليل. الهوة ساحقة بين واقع الأمة وشرع الله تعالى. الأمة في واد والقرآن في واد، ما كلف الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يطبق كل الشريعة دفعة واحدة وهو المُؤيَّد المعصوم، إنما نزلت الشريعة تباعا، فانتقل الناس من جاهلية لإسلام كذلك الرجعة من فتنة لإسلام. لابد فيها من تدرج. تدرج للضرورة لا إنكارا أن هذا حرام وهذا مكروه، وهذا مندوب”. (نفس المصدر، ص220).

ثم يورد الإمام رحمه الله مثالا معبرا يقتبسه من مجال الاقتصاد يُبين حساسيةَ ضابط التدرج وخطورته. يقول: “سألتُ أخا ذات يوم: ما تفعل بهذه الأبناك الربوية وهذا الفساد في الأمة لو أصبحت غدا صاحبَ الأمر؟ قال الأخ الصالح: “أوقف كلَّ شيء وأدعو الله أن يفتح!” قلت: “إذن لا تدوم دولتُك أكثر من ثلاثة أيام!، ثم إنك تكفر بالله عز وجل الذي جعل من نواميس الكون التدرجَ لا الطفرة، وأوجب عليك اتخاذَ الأسباب الأرضية في جهادك لا طلبَ الكرامة والمعجزة فيما يخرق نواميسه”. (نفس المصدر، ص220-221).

فالإسلاميون لا يستطيعون من أول يوم وسنة ومدة أن يحذفوا المنكر حذفا بجرة قلم وغضبة مُضَرية، ولا أن يُحِلوا المعروفَ محله بحماس وقرار سريع” (العدل، ص299). سيادة السلوك الإيماني على المجتمع في كل مستوياته لن يتم ضربة لازب. ليس التحول الإسلامي مسرحا يُرفع معه ديكور ليوضع ديكور، ويخرج المجرمون ليدخل الأتقياء البررة”. (العدل، ص314).

ثم يبين حقيقة هذا التدرج فيقول: “لا نقصد بالتدرج التدرجَ الذي يٌهوِّن في عينك المهمات، ويُدحرِجك شيئا فشيئا إلى النُعاس والإهمال، وقَبول الفشل، والاعتراف بالعجز. نقصد تدرجَ الجهاد اليقظ الدائم المهتم”. (العدل، ص304).

ونظرا لأهمية سنة التدرج في فكر الجماعة وتصورها، فقد خصص لـها الإمام ياسين في كتاب “العدل، الإسلاميون والحكم” فصلا سماه “قانون التدرج، بل شريعته”. يقول في هذا الباب: “من الناس من يرى واجبا على الإسلاميين أن يبدأوا بالعقوبة أول ما يصلون إلى الحكم مقدمين أن التنزيل اكتمل، وأنه لا يسعنا إلا التطبيق الكامل منذ أول يوم يحوز فيه السلطانَ أهلُ القرآن. مثل هؤلاء الصادقين الغائبين عن حقائق النفوس وعن أسرار الشريعة يستنبطون استنباطا تعسفيا يلغي سنن الله ويلغي العلة القياسية. وفي قول أمنا عائشة رضي الله عنها: “لو قال كذا لقالوا كذا” فقه للأسباب والعلل لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا. ولو بدأت أيها الحاكم الإسلامي بالعقوبة وأنت ومن معك قلة تفيض من حواليها الجماهير لقالوا لك. ولو فعلت لنفرت والإسلام يبشر ويؤلف”. (ص157 158).

وفي حوار لها مع جريدة الأسبوعية الجديدة، العدد33، يونيو 2005 “تؤكد الأستاذة نادية ياسين هذا الأمر بوضوح كبير عندما تقول: “لا بد للقومة من ليونة، وليست ثورة تقوم على العنف وسفك الدماء، نحن ضد هذه الفكرة تماما…. لقد قضينا فترة ثلاثين سنة ونحن نتعهد الناس بالتربية ليقتنعوا بمبادئنا…. إننا نتمنى أن يصل يوم تظل أماكن اللهو والفساد مفتوحة دون أن يدخلها أحد، إنه التحدي الذي نرفعه”.

أمر التغيير ضخم وخطير ومصيري وحساس. لابد من التدرج، لابد من الوقت الكافي حتى يتأهل التنظيم ومعه الشعب لذلك. فمن آفات الشرذمات الانقلابية والتنظيمات الثورية عدم مراعاة هذه السنة الكونية. يقول الإمام ياسين: “لا ننتظر من التنظيم أن يحمل عبء الدولة قبل أن تشتد أركانه، ويحصل على التجربة الكافية، ويعد الأطر اللازمة، والبرامج المدروسة. فمما يستخف التنظيماتِ الثوريةَ شعورُها بحجم عددي، يُخيل إليها معه أنها قادرة على خرق السدود وتشييد الأحلام. فتدخل في مغامرة تغرقها وتغرق الشعب معها”. (المنهاج النبوي، ص292).

ث ـ التؤدة والصبر

التدرج يحتاج من بين ما يحتاج إليه إلى الصبر والتحمل وطول النفس “ولئن كان التدرج لازما، فالصبر على تيار الردة ألزم منه”. (المنهاج النبوي، ص299) “وما ينبغي لحزب الله أن يجاري الأحزاب السياسية في عادتها التهريجية، عادة نبذ الوعود، الخلابة (…) ورفع الشعارات المدوية. إنما نُصْدِق الأمةَ ونخبرها بصدق أن ثمن إقامة الإسلام صبر وضم الصفوف، وربط البطون، والانفطام المرير عن الأنانيات والذهنيان والعادات. لن نخدر الأمة إن شاء الله بالخطب الغوغائية، بل نوجه إليها نداء الجهاد ونندبها إلى ساحة البذل والصبر”. (العدل، ص304) “ونكون نحن في أنفسنا عبر كل المراحل أهل العزائم وإن اضطررنا للترخيص للناس. أم الصبيان آخر من يأكل، ورب البيت أول من يهب ويتحدى المكاره”. (العدل، ص299 ـ 300) ف”الأمر وفاء بعهد ثقيل مع الله عز وجل أن تموت لتحيى الأمة، أن تسهر وتتعب لتستريح الأمة، أن تظمأ وتضحي وتجوع لتروي أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتسكن وتشبع”. (نفس المصدر، ص294 ـ 295).

الأمر جد ويحتاج إلى صبر كبير وتحمل وطول نفس “فمن يحاول تغيير المجتمعات المفتونة لابد له أن يتقدم إلى الميدان وله من القدرة على مواجهة الواقع المكروه، ومن قوة ضبط النفس، وقوة الصبر والتحمل، وقوة الصمود والثبات على خط الجهاد مهما كانت القوى المعادية متألبة. إنما يستطيع أن يربي جيل الإنقاذ رجال لا تستخفهم نداءات الباطل، ولا يلعب بهم الهوى، ولا يتحركون على الظن والهواجس”. (العدل، ص2885).

ج ـ التجديد والاجتهاد

قبل الحديث في التجديد والاجتهاد باعتبارهما ضابطين من ضوابط التصور السياسي للجماعة، لابد أولا من معرفة معنى هذا التجديد وحدوده. يقول الإمام ياسين: “ليس التجديد تغييرا للثابت من شرع الله، فإن أحكام الكتاب والسنة ماضية إلى يوم القيامة، دعاة العصرنة يودون لو نقصنا من الإسلام هذه الصلاة المستغرقة للوقت، وهذا الصيام المرهق للعمال، وصيرناه إيديولوجية بلباس عصري، لا نرتاب أن الاجتهاد ضروري لتكييف حياة العصر مع شرع الله، فهو تسليم العصر لا عصرنة الإسلام”. (المنهاج النبوي، ص31) فنجتهد “لإحلال شرع الله محل الشرائع الوضعية لأن الله أمر. فتلك عبادة. ونقيس فيما ليس فيه نص ولا إجماع لضرورة إدخال ما جَدَّ من تصرفات الناس ومعاملاتهم، وعلاقاتهم، تحت حكم الله فتلك عِلية المصالح المرسلة”. (العدل، ص 220).

الاجتهاد في تصور الجماعة ليس يافطة ترفع للاستهلاك السياسي ولإرضاء الآخر. وليس فقط ضرورة، إنه مسألة حياة أو موت. “نموت إن بتنا ننظر إلى الدين بأعين الموتى. ونفكر بعقولهم، وهم رحمهم الله لَفَتوا نظرَنا إلى أن الفتوى تتغير باعتبار الزمان والمكان والأحوال. وليس المسار التاريخي قطعةَ خبز نقطعها بالسكين الحادة، هذا مضى وهذا مستأنَف”. (تنوير المؤمنات، الجزء الأول، ص199).

ثم يحدد الإمام طبيعة هذا الاجتهاد ويؤكد على ضرورة اجتهاد جماعي في إطار “مجلس للاجتهاد” تحصل به وحدة التصور ويعم به النفع ويكون أقرب إلى الصواب. يقول رحمه الله: “يكون لجند الله تصور واحد للخط العام، واجتهاد واحد لما يطرأ، وشورى لها حد تنتهي إليه قبل أن تصبح جدلا، لابد أن ينبري للاجتهاد جماعة من المؤمنين. إن مشاكل العصر، وتشعب مهماتنا، ومخلفات النقل، واختلاف الإرادة والعقل، لا ينهض لها مجتهد واحد ولا أفراد مجتهدون. لابد من اجتهاد جماعي. لابد من مجلس للاجتهاد. ويبقى للأمير الكلمة الأخيرة فيما شجر من خلاف بين المجتهدين ليرجح حيث عجزوا عن توحيد النظرة”. (المنهاج النبوي، ص 219 ـ 220).

ولا يكفي في عملية الاجتهاد مساهمة الفقيه الضابط لأحكام الشريعة وحده، بل لابد من متخصصين في شتى الميادين. يقول الإمام ياسين: “ولا يكفي ولا يفيد أن يجتهد الفقيه المطلع على الأحكام، العارف بأصول الشريعة، بل لابد أن يُشِركَ في اجتهاده رجلَ الاقتصاد الذي يحدد الأهداف، ويعرف بضرورات العصر، وصرامة المنافسة الاقتصادية في العالم، والأحجام والآليات الأساسية المطلوبة للإنتاج، وحاجة الأمة للمال. ومصادر التمويل المتاحة، واضطرار الأمة للاقتراض من الخارج، وشروط توفير الأموال واستثمارها. ولابد أن يشرك معه رجلَ الدعوة. إن لم تجتمع في الدعاة أنفسهم كفاءات الفقه وشروط الاجتهاد، ليذكره بأهداف العدل وقسمة المال، ومحاربة الطبقية. ولابد أن يشرك معه رجلَ الإدارة والحكم ليطلعه على الواقع، وعلى إمكانيات التطبيق، وفراغات التشريع التي يدخل منها التزوير، والخيانة، والسرقة، وعلى دروس التجربة، وتقنيات الصياغة والتخطيط والضبط”. (نفس المصدر، ص303).

ح ـ الخيار التشاركي والحوار وحسن الجوار

تتبنى الجماعة خيار الحل الجماعي المشترك وبذلك تواصل دعوتها لحوار وطني يؤسس لميثاق جامع يحدد المعالم الكبرى للمشروع المجتمعي المنشود ، كما سنرى في الجزء الثاني من هذا الموضوع. كما تتبنى خيار الحوار مع العالم الغربي باعتباره مبدأ أصيلا في ديننا، ومعه التعايش الآمن مع كل الشعوب والدول والحضارات، باعتباره أفضل مناخ لتبليغ رسالة الإسلام، وهي رسالة السلام في العالم والتواصل والرحمة ومراعاة الرحم الإنسانية والمشترك الإنساني.

على سبيل الختم

وختاما لهذا الشق النظري، فقد أصبح “التصور السياسي” و”البرنامج السياسي” و”البرنامج الانتخابي” رهانا وتحديا في سوق السياسة، فحيثما برزت الحركة الإسلامية ولمع بريقُها والتف الشعب حولها انهالت عليها التهم من الخصوم السياسيين بالتطفل على السياسة وافتقاد رؤية سياسية وبرنامج سياسي واضح. بل إن أكثر ما يتم التركيز عليه في وسائل الإعلام المحلية والغربية المعادية هو مفهوم “التطرف الديني” باعتباره أخطر تهديد على لمستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان.

فالأفق الأرضي (العدلي) البعيد والاستراتيجي للحركات الإسلامية هو إقامة “خلافة” إسلامية ثانية على منهاج النبوة يرضى عنها أهل السماء والأرض، خلافة العدل والكرامة والحرية كما بشرنا الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم. بشرى تكشف وتزيل ثقافة اليأس والتيئيس من كل خير وتغيير، ثقافة غشت قلب الأمة لطول ما كابدته من ظلم وقهر وهوان وجهل وفقر تحت حكم العض والجبر. وأفقها الأخروي (الإحساني) دعوة سامية لمأدبة الله تعالى، مأدبة الروح، مأدبة الإيمان والإحسان. فالأول مزرعة للثاني وقنطرة. والثاني خير وأبقى.

نيل السيادة في ميادين الشهادة هو قول كلمة الحق للسلطان الجائر القابع بين أضلعنا أي النفس، وسبيله التربية ثم التربية ثم التربية، قبل، وقول كلمة الحق لكل سلطان جائر بعدُ في كافة ساحات الجهاد السياسية والعلمية والاقتصادية وغيرها.

على قدر اليقين في النصر والتمكين يكون العمل والاستعداد له. وعلى قدر قوة الاستعداد تكون قوة التنظير والتخطيط والتصور والبرمجة. وإذا أضفنا إلى هذا عنصر الإيمان ونورانية الإحسان وهو لب الإسلام وعماده، وهو عامل لا يعرفه قاموس الماديين ولا تتسع له حويصلة الغافلين، إذا أضفنا هذا العنصر انجلت الصورة أكثر وكان التصور والبرنامج أقرب إلى الجدوى والصواب.

من لا يبني على التقوى والإيمان وطاعة الله عز وجل وحبه والتقرب إليه كمن يبني على الرمال. يقول الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه: “يا ابن آدم! أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مَرَّ بنصيبك من الدنيا فانْتَظَمَها انتظاما. وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبُك من الآخرة وأنت من الدنيا في خطر”. هذا “الانتظام الإيماني” سر عظيم من أسرار سطوع شمس الحركات الإسلامية وانتشارها وفوزها.

فسياسة السياسات بل أمها هي سياسة النفس وتزكيتها. بناء الإنسان على هدى من الله تعالى هو أولى لبنات التغيير في صناعة الذات وصناعة المجتمع وصناعة التاريخ.

ونيل السيادة في ميادين الشهادة هو قول كلمة الحق للسلطان الجائر القابع بين أضلعنا أي النفس، وسبيله التربية ثم التربية ثم التربية، قبل، وقول كلمة الحق لكل سلطان جائر بعدُ في كافة ساحات الجهاد السياسية والعلمية والاقتصادية وغيرها.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى