مقالاتمقالات مختارة

في نقدِ العلمانيّة

بقلم خديجة الساعدي – مدونات الجزيرة
قبلَ الولوجِ إلى المساحةِ النقديّةِ لا بدّ أن نعرِّفَ العلمانيّة تعريفًا صائبًا يجعلُ النقدَ مبنيًّا على رؤيةٍ واضحةٍ لا غبشَ فيها، والحقيقةُ أنّ تعريفَ العلمانيّةِ نفسَهُ كانَ دومًا محطَّ جدلٍ ونقدٍ، لكنّني سأعرّفُ العلمانيّةَ بالتعريفِ الذي أرى أنّهُ الأحقُّ بالتعبيرِ عنها، لارتباطهِ بدلالاتِ المصطلحِ اللّغويّةِ وسياقاتِهِ التاريخيّة، مع التنبيهِ على أنّ التعريفَ قد يكونُ شيئًا منفكًّا عن إسقاطاتِ المشروعِ العلمانيِّ التي تتفاوتُ في قربِها وبُعدِهَا من المعنى الحقيقيِّ للمُصطَلَح.
ممّا لا شكّ فيهِ ولا خلافَ عليهِ أن مصطلحَ العلمانيّةِ ليسَ عربيًّا أصيلًا في لُغتِهِ، ولا إسلاميًّا في دلالتِهِ، وإنمَا هوَ تعريبٌ لمصطلحاتٍ لاتينيّةٍ تحملُ دلالاتٍ دخيلةً على الثقافةِ الإسلاميّة العربيّة. ويخطئُ كثيرٌ من الكتّابِ حينَ يظنّونَ أنّ الاستخدامَ الأولَ لهذا المصطلحِ ظهرَ معَ عصرِ التنويرِ أو في القرن التاسع عشر، فالمصطَلحُ أقدمُ من ذلكَ بكثيرٍ وإن تطوّرت دلالاتهُ معَ تقدّمِ الزمَن تطوّرًا كبيرًا.

فإذا بحثنا عن أقدمِ استخدامٍ للكلمةِ عربيًّا -على الأقلّ فيما توفّر لدينا من المصادرِ والمخطوطاتِ- فسنجدهُ في القرنِ العاشرِ الميلاديِّ، في كتابٍ للأسقُف القبطيّ ساويرس ابنُ المقفّع، حيثُ كانَ مصطلحُ العلمانيّةِ يشيرُ كما هو سياقُ ابن المقفعِ في كلامِهِ إلى المعنى الضدِّيِّ للكهنوتيَّة، فالعلمانيُّ هوَ كلُّ من لم يكُن أسقفًا أو رجلَ دينٍ، وهذا المعنى وردَ في معجمِ محيطِ المحيطِ لبطرس البستاني سنة 1870، حيثَ عرّف العلمانيّ نصًّا بأنّهُ: “العاميُّ الذي ليسَ بإكليريكيّ”.

وهذا متفقٌ إلى حدٍّ بعيدٍ معَ الاستعمالِ اللاتينيِّ للمصطلحِ، فالاستعمالُ اللاتينيُّ في أصلهِ قديمٌ جدًّا، استخدمهُ اليونانيّون والرومان، واستخدمتهُ المسيحيّةُ في كنائسِها وأديرتِها قبلَ أن يرتبطَ بأيّ مشروعٍ سياسيٍّ أو فكريٍّ أو فلسفيّ، وكانت دلالاتهُ تشيرُ دومًا وعلى فتراتٍ ممتدّةٍ إلى معنًى مشتركٍ يمكنُ أنّ أعبّرَ عنهُ بأنّهُ “الابتعادُ عن الدين”، أو عن “الصّبغةِ الدينيّة”، أو عن “الوظيفةِ الدينيّة”.

ثمّ تطوّرت دلالةُ المصطلحِ في عصورِ التنويرِ في أوروبّا، لتشيرَ إلى المشروعِ الفكريِّ أو السياسيِّ المُناهضِ للدينِ والكنيسَة، فلم يعد المصطلحُ يشيرُ كما هوَ في أصلهِ اللغويِّ إلى ابتعادٍ بدرجةٍ ما عن الدينِ ووظائفهِ، بل صارَ يشيرُ إلى معنًى عدائيٍّ رافضٍ للدينِ ومؤسّساتِهِ إمّا كليًّا بما يمكنُ تسميتهُ إلحادًا، أو بما يمكن توصيفهُ بأنّهُ رفضٌ للتصوّراتِ الدينيّةِ التي تتبنّاها الكنيسةُ عبر رجالاتها أو عبر الكتاب المقدّس، وإمّا جزئيًّا بما يمكنُ توصيفهُ بأنهُ رفضٌ للكنيسةِ وسلطتِها وتدخلاتِها في شؤونِ العامّة، وإن كان المعنى الكليُّ هوَ الأعمُّ انتشارًا والأعظمُ تأثيرًا في تلكَ الحقبةِ التاريخيّة.

ثمّ تطوّرت دلالاتُ المصطلحِ، لتعبّرَ عن فلسفةٍ وفكرٍ ومشروعٍ واضحِ المعالِم، يعظّمُ الإنسانَ ويجعلُهُ مدارَ الكونِ وصاحبَ الأمرِ والنهيِ فيهِ، ويقدّمُ للعالَمِ تفسيرًا ماديًّا بحتًا لا يرتبط بالوحيِ أو الدين، ولا يضعُ اعتبارًا لسلطةِ الله، بل يقدّم عليها سلطة الإنسانِ، فإذا شاءَ الإنسانُ فلتكن مشيئتهُ هي الحكمَ وإن خالفَت مشيئةَ الله، وهذه الفلسفة هي التي ضُبطَ حدُّها وعُرِّفت بأنّها الفصلُ الشاملُ للدينِ عن مناحي الحياةِ كافةً، غيرَ أنّ من العلمانيّينَ من رفضَ شموليّةَ المفهومِ، فحصرَ الفصلَ في جوانبَ دون الأخرى، وعرّف العلمانيّةَ بأنّها فصلٌ للدينِ عن الدولة، أو عن السياسَة. وبهذا كان تطبيقُ العلمانيةِ في دولِ أوربّا متفاوتًا، فعلمانيّة فرنسا ليست كعلمانيةِ بريطانيا أو إيطاليَا مثلًا.

هذا هوَ تعريفُ العلمانيةِ كما يدلُّ عليهِ الأصلُ اللغويُّ والسياقُ التاريخيّ، وبصورةٍ مختصرةٍ بعيدةٍ عن تفريعاتِ القضايا المُرتبطةِ بالمشروعِ العلمانيّ، ومهما اختلفت تعريفاتُ العلمانيّةِ فإننا نستطيعُ أن نقولُ إنّها تدورُ حولَ فكرةٍ واحدةٍ، هيَ: تحييدُ الدين، إبعادهُ، أو رفضهُ، على تفاوتٍ في درجةِ التحييدِ أو الإبعادِ أو الرّفض. وهناكَ من يعرّف العلمانية تعريفًا إضافيًّا يبدو من ظاهرهِ أنهُ يختلفُ عن التعريفِ الأصليِّ، إلّا أنّ بينهما اشتراكًا في جوهرِ المعنى، فيعرّفُ العلمانيّةَ بأنّها رفضُ تفسيراتِ العلماءِ للدينِ، وتقديمُ تفسيراتٍ جديدَةً تواكبُ متطلّباتِ العصر، يخوضُ فيها كلّ من شاء، لا العلماءُ وحدَهم. فيصبحُ تفسيرُ الدينِ بهذا الفهمِ شأنًا عبثيًّا خاضعًا للمزاجِ والهوى، بدلًا من أن يكونَ خاضعًا للأسسِ العلميةِ واللغويّة.

قدمتُ سلسلةَ النقدِ بهذا التعريفِ الموجزِ، لأنني أجدُ كثيرًا من العلمانيينَ العربِ يعرّفون العلمانيةَ بتعريفاتٍ لا تعبّرُ عنها حقيقةً، كمن يعرفُ العلمانية بأنها العِلم (بكسر العين)، أو بأنّها الحريّة، أو بأنّها احترامُ اختياراتِ الإنسان. فكلّ هذه التعريفاتِ وما شابهها ليست صحيحةً بل لا تصلحُ أن تكونَ تعريفًا أصلًا، لأنّ من شروطِ التعريفِ أن يكونَ جامعًا مانعًا، وهذه التعريفاتُ لا تميّزُ فكرةً ولا مشروعًا ولا طرحًا، بل تجعلُ الناسَ كلهم علمانيينَ حتى وإن كانوا إسلاميّين، فمن ذا الذي يرفضُ العلمَ، أو الحريّة، أو يستهينُ باختياراتِ الإنسانِ في حدودِ احترامهِ للقوانينِ الضابطَة؟

وإنّما جبُنَ بعضُ من يُسمّونَ أنفسهم بالمثقفينَ أو التنويريينَ العرب عن طرحِ مشروعهم على الشعوبِ بهذا الوضوحِ الكاشِف، لعلمهم بأن الشعوبَ ليست مهيّأةً بعدُ لتقبلِ هذهِ الأفكار. لم أتمالك نفسي من الضحكِ مرّةً عندما سمعتُ مثقفًا يردّ على سؤال: هل أنتَ علمانيّ؟ بقولهِ: لماذا تخافونَ من العلمانيّة، العلمانية ببساطة، هي تقديسُ العِلم، ألا تحبون العلم، ألا تقدسون العلم، ألا ترفعون من شأن العلم؟ فإذا كانت العلمانيةُ هكذا فنعم، أنا علمانيّ.

يشبهُ الأمرُ أن تجيبَ على من يسألك: هل أنتَ مسلم؟ بقولك: لماذا تخاف من الإسلام، الإسلام ببساطة، هو الإنسانية، هو التسامح، هو الحب، ألستم إنسانيين ومحبين ومتسامحين؟ فأنتم مسلمون إذن، وبهذا المعنى، يصبح النصرانيّ مسلمًا، واليهوديّ مسلمًا، والبوذيّ مسلمًا، وعابد البقرةِ مسلمًا، إن كانَ محققًا في نفسهِ شيئًا من الحبّ والتسامح والإنسانيّة.

فإذا اتضحَ في أذهاننا معنى العلمانية، كما يدلّ عليهِ التعريف العلميّ المرتبطُ بالأصل اللغويّ والسياق التاريخيّ، سهُلَ علينا أن ننتقدها بأسلوبٍ علميٍّ مُجرَّد -كما سأحاولُ أن أفعل في المقالاتِ القادمة-، ولن يكون النقدُ محصورًا في مفهومِ العلمانية من حيث كونها مفهومًا نظريًّا، بل سيكونُ شاملًا للعلمانيةِ كمفهوم، ومشروع.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى