مقالاتمقالات مختارة

في منهج التغيير الرباني

في منهج التغيير الرباني

بقلم شريف قاسم

المأساة أو الملهاة المؤلمة البغيضة التي تعيشها الأمةُ اليوم، تشكل الدليل القاطع والبرهان الساطع على مدى بُعدها عن ربِّها وقرآنها وسنة نبيِّها صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى تهافت الرايات التي حملتها بعد أن هجرت راية الإسلام، وعلى فساد طرق التربية والتنشئة لأجيالها في العصور المتأخرة. حيثُ أثمرت هذا الجيل الحائر القلق الضعيف، فإن لرفعة الأمة وعزتها خصائص ولا يمكن لها أن تنهض إلا بما يُغني هذه الخصائص، ولا يغنيها إلا ما جاء به وحيُ السماء، وكل محاولات نهضتها باءت بالفشل، وستبوء بالفشل الذريع كل محاولة ترقيعية قادمة، وستظل الأمة كذلك حتى تحسن العودة إلى الله، وتكرم أبناءَها بمحبته وطاعته، وبمحبة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته واتباع سنَّته، لأن الأمة بصدودها عن إسلامها، واعتناقها للمذاهب الخسيسة وللشهوات والأهواء والانحرافات، كأنها تكذِّب بما جاء به نبيُّها صلى الله عليه وآله وسلم، والنتيجة: هي هذا الحاضر الماثل أمام أعيننا، وهذه المآسي التي تشيب لها الرؤوس، وتتفطر لأهوالها القلوب، يقول عزَّ وجلَّ: ( قد خلت من قبلكم سننٌ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * هذا بيان للناس وهدى وموعظةٌ للمتقين ) 137/138/آل عمران. ولكن رغم كل هذا فالأمة لن تموت ولن تتلاشى، ولن يركب أبناؤُها الأبرارُ مراكب الأحلام لتزيين وجه استعادتها لمكانتها في عيون الآخرين، لأنها أمة مسؤولةٌ مكلفةٌ ومستخلَفة، وتلك هي الحقيقة، لأن الله الذي كلفها واستخلفها حيٌّ قادرٌ موجودٌ، بيده ملك السماوات والأرض، ولأن الله وعدها باستعادة خلافتها الراشدة على كتاب الله وسنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك بحبها لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبطاعتها لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فحبُّ الله وطاعته يبعدان عتمَ اليأس، وضباب الحيرة، لأن الوقوع في شرك اليأس وفي سرابه المنسوج من الشقاء والحرمان والضعف لايكون لِمَنْ نضجتْ مداركُه الإيمانية، وعرف قيمةَ المدة الزمنية لحياة الإنسان الفانية، وقد تمتزج الآلامُ بالأفراح، وقد يتقلب الإنسان بأحاسيسه بينهما، ولكن الحالة الثابتة في هذه المعادلة أن ماكان لله من طاعات ومن حب تجدد حلاوة اليقين في قلب المؤمن الطائع لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيعرف كيف يعيش حياته في سُمُو وهمة وإيثار، وهكذا تثمر شجرة الطاعة، وتتدلَّى ثمار النجاح اليانعة، وتلك الشجرة لاتذبل ولا تتصحَّر أفئدة مَن استظلوا بظلالها رغم قسوة الأجواء !! وتلك شهادة تؤكد أثرَ حب الله وطاعته، وأثر حبِّ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته،في تقويم النفوس والارتفاع بها عن خلل السذاجة وعثرات العمى، فالطائع لله يعرف ويفرِّقُ بين العاجلة الفنية، وبين الآخرة الباقية، ويعرف قيمة السعي لكل منهما. قال تعالى: ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيَها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) 19/الإسراء.ولكل من فريقي الدار شأنٌ يشغله ويملأ حياته، وتبقى الطاعات ومآثرها وثمارها زاد المؤمن يقول عزَّ وجلَّ: ( قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ) 84/ الإسراء.وحبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وطاعتهما هي تلبية صادقة مستنيرةٌ للاصطفاء الذي أراده الله للأوفياء من عباده المؤمنين، فيستحيل على المحب الطائع المقبول عند الله أن يخص بشيءٍ من حياته لغير ما أراد الله. فإن الله اصطفى الدين لأهل طاعته وتقواه، يقول المولى تبارك وتعالى: ( إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) 132/ البقرة. وتلك هي الهداية النفيسة التي شرح الله بها صدورَ الطائعين، وبها يتغلبون على الأهواء والتقلبات التي تعتري عامة الناس. وينأون عن مفارقة الذنوب والموبقات كبيرها وصغيرها، وظاهر الآثام وباطنها، لأنهم يحملون قلوبا يقظة وعقولا واعية ونفوسا مطمئنة بذكر الله ومعرفته. وهذا هو الرصيد الغالي المتفرد بين نفائس مافي الحياة الدنيا الفانية. وهو رفرف النور الذي الذي يمرُّ بأصحابه على الصراط يوم القيامة كالبرق، ويُدخلهم جنات الخلود من الله سبحانه وتعالى. وهذه هي القيم التي تحيي الأمة من جديد، وتجعل لها ماكان لأسلافها من فتح ومجد وسؤدد وخيرية. ونعود ونقول إنه الرصيد المكين الثابت الذي يجعل الأمة فعَّالة ذات حضور عالمي مؤثر، ولن يؤخر اليوم خطاها كونُها تعيش في الجاهلية العمياء الثانية البغيضة المنتنة،فإن الجيل الأول ولد في قلب الجاهلية الأولى، جاهلية الشرك والضياع، واستطاع ذلك الجيل بإيمانه بالله وطاعته لأوامره، وبمحبة ذلك الجيل لنبيِّه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم قلبَ أوضاع الانحدار المريع إلى الارتفاع السامي بالإنسان وبالقيم الإنسانية، وحمل دعوةَ الله، ولم تختلط عليه الأوراق، ولم يتبعثر همُّه في سفاسف العيش ومخازي النفوس أو في المقاصد الدنيئة،وكان الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقط ـ ففتحت السماءُ أبواب رحمتها، وفاضت الأرضُ بخيراتها، وجرت سحائب البركات تسقي أرض الإسلام المترامية، ليعود ريعها للأمة المسلمة، ومرَّت عليها حِقبٌ لاتجد مَنْ يريد الزكاة لاكتفاء الناس بما وهب الرحمن الرحيم. وما أجل أن تبدأ الأمة اليوم بما بدأ به أوائلها، فوالله لن يصلح أمرها إلا بالإسلام، ولن تنتصر إلا بالإسلام، ولن ترى العزة والكرامة إلا بهذا الدين القويم، فقد جرَّبت الأمة ـ وهيهات ـ كل المبادئ والنظم الأرضية من شرقية وغربية، ومن حمراء وصفراء، ونعقت بها غربان المرتدين على اختلاف ألوانِ جلودهم التي لبسوها، ولكن لم تفلح، وهاهي الأمة ـ كما يراها الجميع ـ تبكي وتندب على سوء حالها، وجريان دماء أبنائها،وهي ذات الأمة التي تنغمس اليوم ـ مع الأسف ـ إلأى أقصى ترقوتها باللهو والمجون والعربدة و… حيثُ استباحت ماحرم اللهُ، بل سمَّى المجرمون هذا الضياع تقدمية وحضارة، وليصدق فيهم الأثر: ( إذا لم تستحِ فاصنع ماشئت ). أمتنا اليوم بلا إرادة، بلا مرجعية، بلا ثقة بقدراتها وبأبنائها، تصوراتها خاطئة، آفاقها مظلمة، مسيرتها حائرة، وكأنها أصبحت المعنية بقوله تعالى: ( وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين ) 81/ الحجر. وإلا فأين الذين يعنيهم قول الله تبارك وتعالى: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للهِ وللرسولِ إذا دعاكم لِما يحييكم، واعلموا أن اللهَ يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تُحشرون ) 24/الأنفال. ويقول عزَّ وجلَّ: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ ورسولَه، ولا تولَّوا عنه وأنتم تسمعون ) 20/الأنفال. في هاتين الآيتين الكريمتين أمر من الله تبارك وتعالى لعبادِه المؤمنين يأمرُهم بطاعته سبحانه وبطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ولن يكونَ المؤمنُ مؤمنًا إلا إذا حقَّقَ هذه الطاعة كما أرادَها اللهُ. عن أبي سعيد رضي اللهُ عنه قال: كنتُ أُصلي في المسجدِ، فدعاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فلم أُجِبْهُ، فقلتُ: يارسولَ اللهِ إني كنتُ أُصلي. فقال: ( ألم يقلِ اللهُ: { استجيبوا لله وللرسولِ إذا دعاكم لِما يُحييكم }. رواه البخاري. وقولُه إذا دعاكم أراد الحقَّ الذي جاء به، والقرآنَ الذي فيه النجاةُ، وقال عُروة بن الزبير: أراد هنا الحربَ التي أعزَّ الله بها العرب بعد الذل. وطاعةُ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وآله وسلم في الأعمال والأقوال والنوايا تُثبِّتُ الإيمانَ في القلبِ بمشيئة الله، وتحفظُه من أن يزيغَ أو يتحولَ إلى طريقِ الشيطان، فعن أمِّ سلمة رضي اللهُ عنها قالت: كان أكثرُ دعائِه صلى الله عليه وآله وسلم: { يامقلبَ القلوبِ تبِّتْ قلبي على دينِك ) قالت: قلتُ: يارسولَ اللهِ ما أكثرَ دعاءك: يامقلبَ القلوبِ ثبِّتْ قلبي على دينك ؟ قال: ( يا أُمَّ سلمة إنه ليسَ آدميٌّ إلا وقلبُه بين أُصبُعيْنِ من أصابعِ اللهِ فمَن شاءَ أقامَ ( أي: ثبَّته على الدين الحق ) ومَن شاء أزاغَ، فتلا معاذُ بن جبل رضي اللهُ عنه: ( ربَّنا لاتزغ قلوبَنا بعدَ إذْ هديتَنا ) رواه الترمذي. وتأتي الآياتُ القرآنية تؤكد هذا المعنى، وتدعو المؤمنين إلى الطاعةِ المطلقة لله لكيلا تبطلَ الأعمالُ وتزيغُ القلوبُ. يقول عزَّ وجلَّ: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ، وأطيعوا الرسولَ، ولا تبطلوا أعمالَكم ) 33/محمد. فعدمُ الطاعة يُبطلُ العمل وينساقُ الإنسان وراءَ المعاصي منحرفًا عن جادةِ الحقِّ. وليس في الطاعة مشقَّةٌ ولا عسرٌ، فأوامر الله سبحانه مناسبةٌ لحاجات الإنسان الفطرية، وليس فيها مالا يُطاق، وما جعل اللهُ في الدين من حرج، قال تعالى: ( لايكلفُ اللهُ نفسا إلا وُسعَها ) 286/البقرة. وقال سبحانه: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) 78/ الحج. ويكون أداءُ الأعمال التي أمر اللهُ بها سهلةً وميسرةً حين يجدُ المسلمُ أن جميعَ ابناءِ مجتمعه يقومون بنفس الأعمال بشوق وإخلاص، وهذا يُحرضُه ويدفعُه على العمل. وطاعةُ اللهِ وطاعةُ رسولِه صلى الله عليه وآله وسلم تجعلُ حياةَ المسلمِ منتظمةً، ويشعرُ براحةِ ضميرِه واطمئنانِ نفسِه، وإقبالِه أيضا على المشاركة الجادة في تقدُّمِ مجتمعِه وأمتِه. وفي ذلك حياةٌ للأمة وسعادةٌ لأبنائها يقول اللهُ تبارك وتعالى: ( استجيبوا لله وللرسولِ إذا دعاكم لِما يحييكم ) 24/الأنفال. وإذا كانت هذه ثمراتُ الطاعةِ في الحياة الدنيا، فماهي ثمراتها في الآخرة ؟ لايستطيع أحدٌ أن يجمعَ ويحصي ما أعدَّ اللهُ لأهلِ الطاعات في الفردوس الأعلى، وحسبُنا أن نقرأَ قولَ اللهِ تعالى: ( ومن يطع اللهَ والرسولَ فأولئك مع الذين أنعم اللهُ عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا * ذلك الفضلُ من الله وكفى بالله عليما ) 69/70/ النساء.

إنَّ دليلَ صدقِ الطاعةِ هو دليلُ حبِّ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من دلائل الإيمان، وقد ظهر هذا الحبُّ وظهرت هذه الطاعةُ وتجلَّتْ في حياةِ وسيرة أصحابِ رسولِ صلى الله عليه وآله وسلم، فقد تفانوا في نُصرةِ الإسلام بالنفسِ والمال والولدِ، ولا يعرفُ تاريخُ الحبِّ والولاء والوفاء كما عرفه عن أبناء أمتنا، وموقفٌ سعدِ بنِ معاذ يومَ بدر لايجهلُه أحدٌ، فحين قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: ( أشيروا عليَّ أيها الناس ) وكان يريد رأيَ الأنصار رضي اللهُ عنهم. فقام سعدٌ وقال: قد آمنَّا بك وصدَّقناك، وشهدْنا أنَّ ما جئتَ به هو الحقُّ وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمعِ والطاعةِ، فامضِ يارسولَ اللهِ لِمَا أمرك اللهُ به، فوالذي بعثك بالحقِّ لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخضْتَه لخضناه معك ما يتخلفُ منا رجلٌ واحدٌ، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غدا، إنا لَصُبُرٌ عند الحربِ، صُدُقٌ عندَ اللقاءِ، ولعلَّ اللهَ يريكَ ماتقرُّ به عينُك، فسرْ بنا على بركة اللهِ ). فاستبشر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم خيرا، وكانت معركةُ بدر الأولى، وكان الفتحُ والنصرُ مؤيَّدا من الله بملائكتِه، وتبدَّدَ شملُ الكافرين، وانتصر المسلمون بفضل طاعتهم لله ولرسولِه صلى الله عليه وآله وسلم. وأما في معركةِ أُحُدٍ حيثُ امتحنَ اللهُ المؤمنين من المهاجرين والأنصار، فحين خالف الرماةُ فوقَ الجبلِ أمرَ رسولِ اللهِ لهم، استطاع المشركون أن يلتفُّوا على المسلمين وأحاطوا بهم، بل وصلوا إلى مكان رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأرادوا قتلَه، ولكن المؤمنين المحبين الطائعين لله وللرسول وقفوا سياجا قويا حصينا، وحموا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم بأجسادِهم الطاهرة وأرواحهم الكريمة، فهذا يقولُ وجهي لوجهِك الوِقاءُ، وذاك يقول: نفسي لنفسك الفداء، بل إنَّ الصحابيَّ الجليلَ أبا دُجانة رضي اللهُ عنه جعل ظهره ترسا يصد النبال التي انهالت على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من كل مكان، وكان النَّبلُ يقع على ظهرِه ولا يتحرك دفاعا وفداء عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجدير بنا أن نعودَ إلى تلك الصفحاتِ المشرفاتِ من سيرةِ أُولئك الأبرار، وهل أجلُّ وأعظمُ من موقف مالك بن سِنان رضي الله عنه حين رأى جرحَ رسولِ الله يسيل دما، فأقبل على الجرحِ ومصَّه حتى أنقاه وصار أبيضَ، وامتلأ فمُه من دم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل له: مُجَّـه ( أي أخرجْه من فمك )، ولكنه شربه وقال: لا والله لا أمجُّه. واندفع إلى قلبِ المعركة يقاتل حتى استُشهدَ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( مَن أراد أن ينظرَ إلى رجلٍ من أهل الجنة فلْينْظرْ إلى هذا ) طوبى لأبي دجانة وطوبى لمالك بنِ سِنان وطوبى للذين رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه، وهم الآن ترتعُ أرواحُهم في الفراديس العلى عند الله ربِّ العالمين. ومن هنا تبدأ الأمةُ اليوم طريقَ النصرِ على أعدائها من الصهاينة والغزاة، وبهذه الروح ترتدُّ قُوى البغي التي تحاولُ هدمَ المسجد الأقصى وإقامة أوهام اليهود في الهيكل المزعوم، إن أمتنا تملك الكثيرَ والكثيرَ من أسبابِ القوةِ والنصر، ولكنها بحاجة إلى هذا الحبِّ لله وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وإلى هذه الطاعة التي تقود إلى سعادة الدارين. التي بشَّر بها أولئك الأبرار، بعد بشارات الله لهم في كتابه الكريم. روى ابنُ هشام في السيرة أنَّ سعدَ بنَ الربيع رضي الله عنه كان من بين الجرحى يومَ أُحد وبه بقيةُ رمقٍ من حياة، فقال لرجلٍ من الأنصار: أنا في الأموات فأبلغْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عني السلام، وقل له: إن سعدَ بنَ الربيعِ يقول لك: جزاك اللهُ عنا خيرَ ما جزى نبيًّا عن أمتِه، وأبلغ قومَك عني السلام وقلْ لهم: إن سعدَ بنَ الربيع يقول لكم لاعذرَ لكم عند الله إن خَلُصَ الأعداءُ إلى نبيِّكم وفيكم عينٌ تطرفُ، قال الأنصاري الذي حمل هذه العبارات والوصايا فلم أبرحْ حتى فارق سعدٌ الحياة.وما نال هذا الصحابيُّ الجليلُ هذه المكانة، ولا هذا اليقين إلا بالإيمان وطاعة الرحمن،واتباعِ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا فاز وفاز إخوانُه من المهاجرين والأنصار، وبهذا تفوز الأمة اليوم،يقول الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وقولوا قولا سديدا * يُصلحْ لكم أعمالَكم ويغفرْ لكم ذنوبَكم، ومَن يطعِ اللهَ ورسولَه فقد فاز فوزا عظيما )70/71 الأحزاب. ويقول الله تبارك وتعالى: ( أفمن هذا الحديث تعجبون * وتضحكون ولا تبكون ) 59/60/ النجم. فهنيئا لمَن بكتْ عينُه من خشية الله، وهنيئا لمَن فاضت عينُه شوقا إلى الله، وطوبى لمَن انتبه من ثِفلِ الغفلة التي ألمَّت بالناس، وطوبى لمَن أدبرَ عمَّا أقبلَ عليه الكفارُ والفجار. أوحى الله إلى أحد أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فقال: شتَّان بين مَنْ عصاني وخالف أمري، وبين مَن قطعَ عمرَه في معاملتي وذكري. فالفائز يوم القيامة هو مَن أطاع الله واتَّبعَ الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلم. فأين منَّا الذين تتجافى جنوبُهم عن المضاجع ؟ وأين المستغفرون بالأسحار ؟ وأين الذين تعلقتْ قلوبُهم بالله، فيدعونه خوفا وطمعا ؟ روى الإمامُ أحمد في مسنده، أن عبدَالله بنَ الشِّخير رضي اللهُ عنه قال: ( أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلِّي ولِجوفِه أزيزٌ كأزيز المرجل ــ يعني من البكاء ــ ). وفي هذا دعوةٌ عامةٌ خاصةٌ للمسلمين نحو طاعة الله ورسوله، فهمها أصحابُه الكرام ففازوا بثمراتها في الدنيا، وأدركتهم منازلُها في جناتِ الخلود يوم القيامة. عن أنس رضي الله عنه قال: بلغَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحابِه شيءٌ. فخطبَ فقال: ( عرضتْ عليَّ الجنة والنار، فلم أرَ كاليوم في الخيرِ والشرِ ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتُم كثيرا ) قال أنس: فما أتى على أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يومٌ أشدُّ منه. قال: غطُّوا رؤوسَهم ولهم خنينٌ ) والخنين هو البكاء الشديد. والبكاء هنا دليلٌ على الخشية من الله تعالى، والخشيةُ ناتجةٌ عن معرفة ماعند الله من العذاب الأليم، وما عنده من الرحمة والبِرِّ، وما بكى البكاؤون إلا من وراء الطاعات والعبادات، ومحبةِ الله جلَّ وعلا، ومحبةِ رسولِه صلى الله عليه وآله وسلم. ففازوا كما أخبر المولى تبارك وتعالى. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لايلجُ النارَ رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبنُ إلى الضرعِ. ولا يجتمعُ غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم )رواه أحمد والترمذي. وهل يمكن أن يرجع الحليب إلى الضرع بعد خروجه ؟! مستحيل… فهذا وعد من الله ورسوله الذي لاينطق عن الهوى بدخول الذي يبكي من خشية اللهِ الجنة. وربما يتعجبُ الناسُ لو قلنا لهم: إنَّ اللهَ خصَّصَ لكم وقتا ينتظرُكم فيه ليكرمََكم ويعطيَكم !! والجواب ليس من عندنا ولكنه من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ينزلُ ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا حين يبقى ثُلُثُ الليلِ الآخرِ يقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له ؟ مَنْ يستغفرني فأغفر له ؟؟ ).رواه البخاري ومسلم. فمَنْ أحبَّ اللهَ فَلْيُطعْ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول تعالى: ( قل إن كنتم تحبون اللهَ فاتبعوني يحببْكم اللهُ ويغفرْ لكم ذنوبَكم ) 31/آل عمران. ولو قلنا للناس إنَّ أعضاءَ جسم الإنسان المسلم:جلده، عظمه، عينه،أُذنه، يده،لسانه… تتباشر ويهنئُ بعضُها بعضا إذا قام هذا المسلم في جوف الليل لعبادة الله. ونقول الجواب من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( إذا قام العبدُ بالليلِ تباشرتْ أعضاؤُه ونادى بعضُها بعضًا: قد قام صاحبُنا لخدمةِ الله تعالى ).

طوبى لِمَنْ سهرتْ في الليلِ عيناهُ=وباتَ في رغــدٍ من حبِّ مولاهُ

وقام يدعو بجنــحِ الليلِ ذا شــغفٍ=شوقاً إليه، وعينُ اللهِ ترعاهُ

إنَّ الله سبحانه يريدُ أن يهتديَ عبادُه إلى طاعته، وما بعث من نبيٍّ، ولا أنزل من كتاب إلا لأجل ذلك، عن جابر بنِ عبدِالله رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( مانزعَ اللهُ عبدًا من ذنبٍ إلا وهو يريدُ أن يغفرَ له، وما استمالَ اللهُ عبدا لعملٍ صالح إلا وهو يريدُ أن يتقبلَه منه ). ولمحبةِ اللهِ ورسولهِ صلى الله عليه وآله وسلم وطاعتهما آثارٌ ونتائجُ كريمةٌ في حياة المؤمنِ كفردٍ، وفي حياةِ الأمةِ. فإنك ترى العبدَ المحب لله، المطيعَ أوامرَ اللهِ، وترى المحبَّ لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم يعيشُ في سعادةٍ ورضا، يشرقُ وجهُه بالنورِ، ومحيَّاه بالبِشْرِ، وتراه مطمئنَ النفسِ، مرتاحَ البالِ، كما تراه بعيدا عن المشاكلِ والمشاغلِ الدنيوية الفارغة، مقبلا على ما أعدَّه اللهُ له في الآخرة، ولقد وُصِفَ أصحابُ محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بالمصاحفِ التي تمشي على الأرض، وما ذلك إلا لسلوكِهم الرباني الكريم، وطاعتهم للأوامر الشرعية التي نزلَ الوحيُ بها من السماء، كما أنك ترى آثارَ محبةِ الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في حياةِ الأمة، وهذا مايشهدُ به التاريخُ البشري منذُ بِعثةِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم. فكانت الأمةُ خيرَ أمةٍ أُخرجتْ للناس، في عدلها ورحمتِها، وفي قوتها ومَنَعَتِها، وفي تأييدِ اللهِ لها. فقد نصر اللهُ المسلمين يومَ أن كانوا محبين مطيعين للهِ ولرسولِه صلى الله عليه وآله وسلم. قال تعالى: ( وكان حقا علينا نصرُ المؤمنين ) 47/الروم. فلم يخافوا قوةَ العدوِّ مهما كانت، لأنهم علموا معنى قوله تعالى: ( إن ينصرْكم اللهُ فلا غالبَ لكم ) 160/آل عمران. ولأنهم علموا أن هلاك الظالمين آتٍ لامحالةَ. قال عزَّ وجلَّ: ( لنهلكنَّ الظالمين ) 14/ إبراهيم. فالأمةُ اليوم بحاجة إلى محبةٍ صحيحةٍ للهِ وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد اشترى منها أنفُسَ أبنائها وأموالهم، وعوَّضهاعن ذلك بالفتح والنصر في الدنيا، وبجنَّات الخلود في الآخرة، فنعم البيعُ ونعمَ الشراءُ، وطوبى لهذه الأمةِ التي اختارها الله تبارك وتعالى لحملِ رسالتِه إلى العالمين، يقول تعالى: ( إنَّ اشترى من المؤمنين أنفسَهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، ومَن أوفى بعهده من الله ؟؟ فاستبشروا ببيعِكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم ) 110/ التوبة.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى