“فنظر نظرةً”.. لماذا كان إبراهيم عليه السلام يتأمل بالنجوم؟
بقلم محمد قادري
لا أدري لماذا سماء الليل دائمًا تُصِرُّ على أَنْ أُراقبَها، الأجلِ قِطَعٍ من الضوءِ أم لأجلِ دمعةٍ أراها في أعالِيها فأُطمئنها ألَّا تخافي فكلانا غريبانِ؟ نمشي معَ الدُّنيا وكُلُّ واحدٍ مُتأفِّفٌ ممَّا يُلَاقيه، وقليلٌ من عباد الله شكورٌ راضٍ. نمشي وذلك الخوف غيرُ المبرَّرِ يكادُ يمسكنا من مجامعِ ثوبِنا، ويظلُّ شادًّا على عنق كُلٍّ منّا، ننظُرُ إلى السّماء فنكادُ نبكي. أتظنُّ أنّ هذه السّماءَ كانتْ أكسجين ونيتروجين وهيدروجين فقط؟ هذه السّماءُ مزيجٌ من الدموع والأحلامِ والأماني والمعاناةِ.
ينظرُ إليها قويُّ البأس حين يتعبُ من رحلته، ويهتدي بها الضّالُّ معَ بُعدِ شقّته، يكفي أنّها آنسَتْ خليلَ الله ونبيَّهُ إبراهيم حينَ أحسَّ بغُربته في وطَنِهِ وقومِه، حينَ أحسَّ بأنَّ همًّا أكبر بكثيرٍ سيحملُهُ، وشظفًا من العيشِ سيثقِلُهُ، “فنظرَ نظرةً في النُّجومِ” تلك اللحظةُ التي جعلَتْهُ يُفكِّرُ في آليَّةٍ لإلهاء قومِهِ عن آلهتهم ولينفردَ بها، تلك اللحظة الحاسمة لإعلانِ التوحيدِ للهِ، وليكسرَ وهم الخرافاتِ ويبدِّدَ الظُّلُماتِ. تلك اللحظةُ التي جعلَتْهُ يقولُ مباشَرةً “إِنِّي سَقِيمٌ”. وفي تفسير ابن كثير “أنا مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله تعالى” ومرضُ القلبِ تلامسه السماء لمسًا ناعمًا فتبرئه. هذا الغريبُ الصالحُ في جملة الطالحين، حانَ وقتُ التنفيذِ، ذهبَ للآلهةِ ونظرَ إلى الطعام المتروك قربانًا لهم وبدأ بضربهم وتركَ كبيرَهم ليُثبِتَ الحُجَّةَ على قومِهِ..
ثم عاد القوم، فصُعِقُوا “فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ” فقال لهم جوابَ الواثقِ المُسلِمِ أمرَه للهِ “قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ”؟ لا أظنّ أنّ مثلَ هذه الصيغةِ تُظهر أنّ صاحبها خائفٌ، ففيها وفي هذه الكلمات المعدودات يتبيّنُ مدى قوّة سيّدنا إبراهيم وتمسكه بالله وعدم خوفِه. لم يكن عاطفيًّا يستدرّ مشاعرهم، بل أقام الحجّة بالمنطقِ وأكمل “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ” وفي قوله “وَمَا تَعْمَلُونَ” هل يُظنّ به الضعفُ حينَ قالها؟ كذلك من استمسك بالله كانت الحشود زخارفَ في عينهِ، ولكنّ المشكلةَ لم تكن في الحجارة التي كسرها، بل في الحجارة التي في رؤوس قومه. فتلك كسرها صعبٌ جدًّا ومستحيلٌ من دون هداية الله، ألقوه في النارِ ثمّ خرج منها سليمًا معافى تركوه وشأنه ولم يسلموا.
أمّا هو فقال ” إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي” ونحن عندما نفعل العبادةَ نفعلُها لاضطرارنا على فعلها أو لتعوّدنا أو لنرتاح منها، أمّا إبراهيم فإنّه اختار الذهابَ إلى ربّه، اختاره بعدما حاول كلّ من في قومه إحراقه، بعدما كان سقيم القلب من كفر قومه، ذهب إلى ربّه في لجّة الحزن والغربة، لماذا؟ “سَيَهْدِينِ” ثِقَةٌ أخرى يضعُها إبراهيم بربّه “س” “يهديني” ولا يقول مثل هذا الكلام إلّا من وصلَ إلى أعالي درجات الوثوق بالله وكان مسلمًا، وفي النهاية “إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ”.
الحياة ليست روائحَ ياسمين فقط، وليست نفحات عطر من دون نفحات الكير، فإنْ كنتَ تريد أن يحفظَكَ اللهُ فاحفظْهُ، فمثلُ هذه الدنيا لا يؤمَنُ يومُها، غنيُّ اليوم فقيرُ الغدِ، وسقيمُ الأمسِ صحيحُ اليومِ، وقد أودعَ الله بقلبِ كُلٍّ منَّا الحاجةَ إليه، يقولُونَ ماذا يستفيدُ جلّ جلالُهُ؟ بل مَن الذي يستفيدُ نحن أم هو؟ إنْ كنّا نحن لا نستفيدُ من عبادتِهِ، فلمَ نرى غيرَنا يعبدُ بقرةً وفأرًا؟ أليستْ بنا حاجةٌ للتعلُّقِ والرَّجاءِ بمَنْ (نعتقدُ) أنّه سينفعنا؟ أليستْ هناكَ حاجةٌ للاتكال عليه من دون الناس؟ فمَنْ عرفَ هذا وأدَّى حقَّ اللهِ ولبّى “حيَّ على الفلاحِ” بقلبٍ صادقٍ، حفظَه الله وجنّبَه المعصيةَ وإنْ هُيِّئت لها أسبابها.
“وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ” هنا كانت المنجاة رؤياه لذاك البرهان، نفسه تلكّأت فصحّحه على الفور ربّ هذه النفس، فصرف عنه السوء والفحشاء، كان معه عندما حلم بالكواكب التي تسجد وكان معه حين أرادوا إسقاطه في البئر “وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ” تلكَ هي صحبةُ الله طمأنَةٌ من الخوفِ، استردادٌ للغربةِ والوحشةِ، ضياءٌ في ظلماتِ الدنيا، ودليلٌ للمتجوّل التائهِ.
فبعد هذا عندما تنظر إلى السّماء فيختلجكَ شعورٌ لا تدري ماهيّته تذكّر بأنّه فوقها، تذكّر أنّه من رفعَها بلا عمدٍ، تذكّر أنّ هذه السّماء يأوي إليها من لا بيتَ له، تذكّرْ أنّها رأت المجازر والحروبَ والدّماءَ، شهدت على كلّ ظلمٍ حلّ في هذه الأرضِ، وأنهي بعد قولي هذا بقصيدةٍ وجدانيّةٍ كتبتُها حين نظرتُ ذاتَ تأمُّلٍ إلى السّماءِ:
حتَّامَ تُخفِي الذي في القلبِ، حتَّاما؟ .. وما طويتَ من الأيَّامِ أيَّاما
تُقلِّبُ الدَّهرَ ولهانًا على ظمإٍ .. وتبرحُ الليلَ رحَّالًا وقوَّاما
وترسُمُ القوسَ محنيًّا بلا كَدَرٍ .. على مُحيَّا الذي في عيشِهِ هاما
ها قد وصلتَ، وليس الوَصْلُ مكتملًا .. فاركضْ إلى الجنَّةِ الخضراءِ صوَّاما
رَبٌّ ينادِي، وشوقُ الرُّوحِ مُعتَلِجٌ .. بهِ تلعثُمُ مَنْ عن حقِّهِ صاما
(إنِّي قريبٌ) فما كان البعادُ سِوى .. وهمٍ يُزيِّنُهُ الشَّيْطَانُ آثاما
اقرأ كتابَكَ؛ في وجهَيْهِ ثَمَّ هوًى .. يُغادِرُ الرَّوحَ طفلًا هدأةً ناما
انظرْ إلى النَّجْمِ، أبصِرْ فيهِ مُنتشيًا .. تلقَ الهمومَ صغيراتٍ وأحلاما
ما اللَّيلُ إلَّا انتظارُ الحُلمِ مُقتَبِلًا .. لِذا بَدا لنبيِّ اللهِ أسقاما
فكانَ حقٌّ وكانَ الحقُّ مُقتَرِنًا .. بنورِ سِرٍّ مضى في النَّاسِ أعواما
برَكعَتَينِ وقلبٍ شاقَهُ أَمَلٌ .. إلى اللِّقاءِ ترى المجهولَ إقداما
ومقلةٍ لسخيِّ الدَّمعِ هاطِلَةٍ .. أو (والضُّحَى) وفتًى للصَّفْحِ قد راما
يستعقبُ الحزنَ يعقوبًا وصبرَ أبٍ .. تراهُ يبكي سكوتًا، وابنَهُ لاما
يستنطِقُ الحُبَّ عَبْراتٍ تقولُ لَهُ .. دع عنكَ ظنَّكَ في حبِّي ودعْ: (لا، ما)
حتَّى إذا التصقَتْ في الأرضِ جبهتُهُ .. وسبَّحَ اللهَ تنزيهًا وإكرامَا
مضى بها أمويًّا عند أندلسٍ .. وقِيلَ: أبشِرْ. فدامَ السَّعْدُ ما داما
(المصدر: مدونات الجزيرة)