مقالاتمقالات مختارة

فكرة المؤامرة شرط لديمومة الاستبداد والقمع

فكرة المؤامرة شرط لديمومة الاستبداد والقمع

بقلم صادق البعداني

إن مؤسسات الدعاية في الأنظمة الاستبدادية الشمولية لا تنفك عن بذر فكرة المؤامرة في عقول الشعب، ففي ألمانيا كان اليهود هم من يحيكون المؤامرة العالمية، وأن الشعب الألماني هو الذي تلقى على عاتقه المسؤولية التاريخية لنقض خيوط المؤامرة وإيقاف اليهود عن تدمير العالم، وأما في الاتحاد السوفيتي، فمنذ قيام الثورة البلشفية كانت هنالك ثورة تحيق بها، فأولًا الأنظمة الرأسمالية التي تنوي إسقاط «البوليتارية» التي وصلت إلى الحكم أخيرًا، ثم أتت مؤامرة التروتسكيين – نسبة إلى تروتسكي القائد الذي رافق لينين في الثورة، لكن بعد موت لينين وتولي ستالين منصب الحكم، نفاه كونه معارضًا لحكم ستالين- وبعد الحرب العالمية الثانية عادت إلى الاتحاد السوفيتي فكرة المؤامرة، ولكن هذه المرة بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي والدسائس العالمية، التي تقودها الولايات المتحدة لإسقاط الاتحاد السوفيتي، إن هذا العدو، حتى وإن كان حقيقيًّا، لكنه ضروري للحملة الدعائية التي تقوم بها الأنظمة الاستبدادية الشمولية، فلا يمكن قيام نظام استبدادي شمولي بدون «عدو» ولذلك ينقل عن هتلر: لو لم يكن اليهود موجودين لاضطررنا إلى خلقهم.

هذا العدو تستغله الأنظمة الاستبدادية في تصفية أعدائها، فكل من يخالفها هو عميل لهذا «العدو»، وبطبيعة الحال سيخسر المناوئ للنظام كل أمجاده وكل تاريخه النضالي، وكل التعاطف الشعبي، إذا نُسب بالعمالة إلى هذا العدو. وهذا النوع من الحملات الدعائية يركز على إحدى خصائص الجماهير المعاصرة الرئيسية، فهذه الجماهير لا تعتقد بشيء مما هو مرئي وواضح ومستمر، ولا بواقع تجاربها نفسه، وهي لا تثق بما هو منطقي ومكشوف، ولا أعينها حتى، وإنما تضع كل ثقتها في المخيلة التي تطلق العنان لافتتانها بكل ما هو «كوني– عالمي» ومتماسك في نفسه.

إن مثل هذه الأساليب الدعائية تجاوزتها معظم الدول الغربية والشرقية، منذُ خمسينيات القرن الماضي، عندما أصبحت فكرة المؤامرة وسيلة فاشلة وغير مقنعة لشعوب تلك الدول من قبل السلطة السياسية، فعندما امتلكت هذه الشعوب الإدراك والمعرفة الكافية، التي تستطيع من خلالها تصنيف عمل وسلوك حكوماتها، ما بين فاسد وجيد، وفقًا لما تتلمسه في حياتها العامة، من ارتفاع في مؤشرات الازدهار الاقتصادي، والتطور الاجتماعي، والتقدم العلمي، والمساواة على الصعيد المدني والسياسي، والعدالة، والحرية… إلخ، الأمر الذي دفع حكومات تلك الشعوب نحو الحكم الرشيد، واحترام إرادة شعوبها، والعمل على تحقيق أمنها وتقدمها في مختلف المجالات، حتى تنال الرضى من شعوبها.

وبالرغم من الاعتقاد بأنه يكاد من المستحيل وجود شعوب على كوكب الأرض ما تزال تقبل بنظام وسلطة سياسية تؤمن بالفوضى والاستبداد، ومصادرة الحقوق، ولقمة العيش، تحت مبرر محاربة العدو، ووجود مؤامرة ظالمة ضد الدولة والشعب، ولا سيما بعد التطور الكبير الذي طرأ على الأنظمة السياسية، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، فإن المأساة الحقيقية والصادمة هي أن تجد معظم شعوب الوطن العربي ما زالت تعاني من أنظمة استبدادية تسلطية شمولية عسكرية رعوية، تعتقد أن علاقتها بشعبها علاقة «أمير وعبد» «ملك وخادم» تقوم على أساس وجود الكثير ممن يعملون ويتعبون ويجتهدون ويسهرون ليعيش ملك وأمير، أو رئيس ومسئول، أي وجود أغلبية تعمل من أجل بقاء قلة! يكاد التفكير فقط بوجود هذه المعادلة الظالمة مأساة حقيقية، إلا أنها أصبحت واقعًا يُعاش، وجزءًا من حياة الشعوب العربية، وعند محاولة بعض هذه الشعوب الخروج من بوتقة الحكم الظلامي والاستبداد العسكري، واستبدال حكومات مدنية بحكوماتها القمعية، ما لبثت تلك المحاولة حتى دُفنت في نفوس معتنقيها، وما إن وصلت أنظمة الفوضى والفساد والاستبداد والقمع إلى السلطة من جديد، حتى وظفت مؤسسات الدعاية والإعلام لبذر فكرة المؤامرة والعدو في عقول شعوبها وأذهانهم حتى يتسنى لها الاستمرار في الفوضى والاستبداد، والقمع، ومصادرة الحقوق والحريات ولقمة العيش.

أما تلك الشعوب التي فضلت السكون على الحراك والاستسلام على المقاومة لم تسلم هي أيضًا من تمرير الفوضى، ومصادرة الحقوق، تحت مبرر العدو والمؤامرة الخارجية بمسميات عدة، بل امتد ذلك إلى قيام تلك الأنظمة السياسية بالمضي ببيع القضايا العربية الخالدة، ومحاولة سحب الدول الأخرى لهذا الفلك من السياسات، مستخدمة بذلك حجة العدو والمؤامرة بمختلف المسميات والأشكال، فتارة توظف هذه الأنظمة على المستوى الخارجي والداخلي مؤسساتها الدعائية لزرع بذرة وجود مؤامرة على الدين والعقيدة، وتارة أخرى أن هناك عدوًّا خارجيًّا يرتقب لحظة ضعف لينقض على الدولة، وذلك للبطش بفئة معينة أو جماعة معارضة للحكم.

أيضًا من الجدير بالذكر أن المجتمع العربي، وكنتيجة لتعرضه الشديد للدعاية الإعلامية، التي تقوم بها الأنظمة السياسية، أصبح مُصابًا بمرض التصنيف والحكم على الآخرين، ستجد نفسك فجأة عرضة للأحكام، حقل تجربة للجميع، منبع للمُتع البشرية في شهوة التصنيف، الكل توّاق لإثبات شيء ما عنك، حتى أصبح المجتمع يدور داخل دائرة مغلقة تتوافق تمامًا مع ما يريده أي نظام استبدادي.

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى