مقالاتمقالات مختارة

فقه العواطف لا المقاصد!

بقلم عبد الجليل مبرور – مدونات الجزيرة
ما نراه اليوم من انبطاح هو نتاج ما يمكن أن نسميه بـ”فقه العواطف”، وهو فقه يرتكز في الموازنة بين جلب المصالح ودرء المفاسد على العاطفة وليس العقل والحكمة والبصيرة. فمثلا، قد يفتي العالم بحصار دولة أو اجتياح أخرى كسوريا والعراق وليبيا مثلا… إن كان في ذلك جلب لمصلحة بقائه في منصب الإفتاء، أو درء مفسدة عزله أو التضييق عليه أو دخوله السجن، فلم يعد في السكوت مندوحة له عن هذه المفاسد، فاللهم أن تقع هذه المصائب على أمة من الناس، وليعش هو في أمن وأمان!
ونجد مثلا، أنه قد يبيح التضيق على أمة، إن كان ذلك يدفع مفسدة التضييق عن حركته وحزبه وهم أعلم الناس بقوله صلى الله عليه وسلم : لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما. ولا يعلمون أن هذا كله يندرج تحت خطة لتشويه القدوات الإسلامية، لإفقاد العامة الثقة في الرموز الدينية حتى ينعدم تأثيرها في الواقع، ليخلو لهم مجال تشويه هذا الواقع وفق خططتهم المستقبلية، لكن أمام الله جل وعلا ليس هناك عذر بجواز مثل هذا الإفتاء بذريعة تلك المفاسد. لقوله تعالى : “وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا“.

فإذا كان القتل وهو أكبر مفسدة ممكن أن تقع على الإنسان، لم يجعلها ضرورة إن أكره الإنسان على قتل أخيه، أفيكون ما دونه كالسجن ضرورة لإشاعة الحروب بين الناس واستباحة دماء آلاف المؤمنين. قال ابن العربي: ولا خلاف بين الأمة أنه إذا أكره على القتل أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره، ويلزمه الصبر على البلاء الذي نزل به.

لهذا مثل هذه الفتاوى الموجهة هي سياسية أو مسيسة، يجب عدم الأخذ بها وعدم الالتفات إليها بالمرة، لأن أصحابها أبعد الناس عن هذا الواقع المرير، وعن المؤامرات التي تحاك للأمة. ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: ولا يتمكن المفتي، ولا الحاكم، من الفتوى، والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع، بالقرائن، والأمارات، والعلامات، حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به، في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.

لذلك فحال المتصدرين من العلماء في الأزمات السياسية هو تماما كقوله تعالى: “يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ”، الإمام مالك رحمه الله رفض أن يفتي بطلاق المكره، وعذب حتى خُلعت كتفه ولم يرضخ لحجم الضغوط التي مورست عليه، أما اليوم فالمتصدرون على استعداد بأن يفتوا بطلاق دولة برمتها بل وتزويجها غصبا وبدون رضاها، ثم يقولون لك إنما نتبع السلف.

والغريب أن تجدهم يؤلفون الردود والمؤلفات في بيان ضلال مذهب العلمانيين، ثم تجد نفس العلمانيين يستعملونهم في استصدار الفتاوى التي تشتت شمل الأمة وتشيع الحروب والنعرات فيها، وتمرير أجنداتهم الخارجية، بل أصبحوا كالتيس المستعار! وما من سكين تذبح به هذه الأمة، إلا ويمسح دمه فيهم! لهذا يمكن أن نقول أن الفقهاء المتصدرون في عصرنا استفتهم في أي شيء ولا حرج عليك في ذلك، في المعاملات والعبادات فالأمر في ذلك واسع.

لكن في الواقع السياسي داخليا أو خارجيا أو في العلاقات الدولية، خذ حذرك واقرأ للمحللين السياسيين الموثوقين أو التحليلات المؤيدة بدلائل وحجج… المسألة مسألة تخصصات، فلا أعلم جامعة إسلامية على وجه الأرض حسب علمي القاصر تعتني بإزالة الأمية السياسية عن خريجيها. وبدلا من هذا، أن يخرج الفقهاء ليفتوا بوجوب وقف هذه المؤامرات التي تفكك الأمة، وبوجوب المصالحة في جميع بؤر النزاع وإنهاء حالة الحرب في العالم الإسلامي، ووضع خارطة طريق لإعادة إعمارها وصيغة سياسية للحكم فيها، تجدهم للأسف يتراشقون الفتاوى فيما بينهم. ومن هنا أتت الكارثة، صار الواقع السياسي المجال الذي يتكلم فيه الفقهاء بغير علم ولا كتاب منير، فكانت النتيجة تفكك العالم الإسلامي اليوم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى