مقالاتمقالات مختارة

فساد الحكام والنخب.. ما وراء استبدادها وحربها على الذات؟

فساد الحكام والنخب.. ما وراء استبدادها وحربها على الذات؟

بقلم أبو يعرب المرزوقي

كثر الكلام على ما يجري في بلاد العرب دون توضيح طبيعة الجديد فيه وهو ما يخفي ما يراد إخفاؤه من علل جريانه. وسأكتفي بمثالين:

1-أحدهما يمكن أن نصطلح على اعتباره سياسيا حكما ورأي عام.

2-والثاني يمكن أن نصطلح على اعتباره خلقيا تربية ورأي عام.

فما الجديد الذي يعلل كثرة الكلام؟ ويمكن أن أطلب الجواب عن هذا السؤال من أي بلد عربي لتساويها في الأمرين. لكني سأختار المثالين الاوضحين لأنهما الأكبران أولا ولأن ما يجري فيهما يبدو وكأنه منافيا لما عرفا به قبل حدوث الجديد الذي سابدأ بتعريفه تعريفا هو فرضيتي في التحليل: فالجديد ليس الظاهرة بل خروجها إلى العلن سواء كانت هذه الظاهرة مدنية سياسية أو خلقية دينية.

ولذلك فسآخذ مصر للدلالة على جديد المدني السياسي والسعودية للدلالة على جديد الخلقي الديني رغم أن كلا البلدين يمكن أن يكون مثالا على الأمرين معا بمعنى أن السعودية أيضا يمكن أن تكون تمثيلا لجديد المدني السياسي ومصر لجديد الخلقي الديني: فرضيتي أن ما يجري ليس هو الجديد بل علنية مجراه هي الجديدة.

وأبدأ بمصر فما جد هو علنية أمرين في المدني السياسي:

1-علنية التطبيع لم تبق مقصورة على النظام بل شملت كل النخب المعادية للإسلام السياسي بمن فيهم الجماعات الدينية الأخرى مسيحية كانت أو إسلامية (الصوفية والسلفية).

2-علنية الاستبداد لم تبق في الحكم وحده بل في كل وظائف المجتمع حتى التي كانت تعتبر من الهامش-مثل الخدمات الإنسانية الاخوانية.

فهل يعني هذا أن الإسلام السياسي هو الذي مثل”الصاعق” الذي أظهر ما كافيا خفيا لما اختار الشعب ممثليه لحكمه فأخرج إلى العلن ما كان خفيا عند من كانوا ينتظرون فرصة الاعتماد على عمدتهم السرية للإبقاء على سلطانهم السياسي أي السند الإسرائيلي الأمريكي الذي يحميهم ضد إرادة شعوبهم كما تعينت في الانتخاب الحر؟

فالنظام المصري والنخب المتنفذة فيه سواء كانت علمانية ليبرالية أو يسارية أو قومية أو دينية إسلامية أو مسيحية كانت مطبعة في السر رغم متاجرتها بمقاومة التطبيع وزعم المقاطعة. ولما تبين لهم أن الشعب لم يكن غرا حتى وإن جعلهم يظنون أنه يصدقهم فأعلنوا ما صار شرط إسرائيل وأمريكا لمواصلة حمايتهم ضد إرادة شعبهم.

ما قلته عن مصر في المدني السياسي يمكن أن أقول مثله عن السعودية في الخلقي الديني. لكني قلت إن اختياري لمصر مثالا للسياسية لأن نخبها كانت تتاجر بالدفاع عن العروبة وعن فلسطين وعن المقاطعة وعن رفض التطبيع. وما سأقوله عن السعودية يمكن أن أقول مثله عن مصر. لكن من كان يتاجر بالدين والأخلاق هي السعودية خاصة. وقد كان هذا جوهر الخلاف بين الدولتين وخاصة في القرن الماضي باسم “القومية” في مصر وباسم “الإسلام” في السعودية.

ولذلك فسأتكلم عليها من هذا الوجه فقط علما أن الوجهين موجودان في مصر والسعودية بل وفي كل البلاد العربية من المغرب إلى العراق دون استثناء. لكني اخترت الرمزين الأكبرين والظاهرتين الأظهرين لأن الهدف ليس الوصف التام لما يجري في كل بلاد العرب بل العينتين الأبرزين الكافيتين لفهم الباقي.

وتبعا لفرضيتي فإن ما يصنعه الأمير الأحمق حاليا ليس جديدا. والجديد فيه هو العلنية. فعندي أن كل ملوك السعودية من البداية إلى اليوم لا علاقة لهم بالإسلام إلى من حيث هو “أصل تجاري” مثلما أن كل رؤساء مصر لا علاقة لهم بالعروبة. ولست أحاكم السرائر. فالله هو الوحيد الذي يعلمها. لكن علامات الاحتمال الغالب لنا منها ما لا يحصى. ومنها.

ومنها أن اغلب المفاسد في أغلب بلاد العرب السياحية تمويلها من أمراء السعودية وحكامها حتى إنهم كادوا يجعلوا بعض بلاد العرب مواخير من حولهم. ومنها أن الإعلام الماجن كله تمويل سعودي. ومنها أن كل القصور أشبه بالحانات والمواخير وراء أسوارها. ومنها أن تمويل كل الردات وأعداء الإسلام مآتاها من هناك.

وقد قلت ذات مرة إن السيسي كان يمكن أن يكون “شرعيا” دون حاجة للعنف لأن جل النخب المصرية معه وأحصيت المتصوفة والسلفية والمسيحيين والعلمانيين سواء كانوا من اليسار أو من الليبرالية وأن عزل الإخوان لا يحتاج إلى العنف لأنهم بهذا المعنى أقلية لا تمثل النخب المتنفذة ولا أغلبية رأي الشعب حتى لو عبر ديمقراطيا بحق.

ويمكن أن أقول نفس الشيء عما يجري في السعودية. فما صار علنيا كل النخب المتنفذة تؤيده وسكوت الشعب عليه ليس لخوف فحسب بل لأن هذه الثقافة معلومة وكان “مبدأ إذا عصيتم فاستتروا” كافيا. والذين يمثلون الصحوة مثلهم مثل الإخوان في مصر قلة والشعب لا رأي له. ومن ثم فالأمير الأحمق الذي يتساوى مع السيسي في “الذكاء” يمكن أن يعتبر نفسه شرعيا ويكفي أن تغطي عنهما إسرائيل لمنع كل فاعلية لكلمة الشعب.

لكن إذا كان مجال التجدد هو علنية السلوك المدني السياسي لدى حكام مصر ونخبها فإن مجال التجدد هو علنية السلوك الخلقي الديني لدى حكام السعودية ونخبها. ما تجدد ليس الطابع الكاذب للأصل التجاري السياسي والديني بل ظهور كذبه للعلن. ولا احد كان يجهل الكذب والنفاق السائدين. كان الجميع يعلم أن النظام المصري حتى في عهد عبد الناصر لم يكن قوميا ولا وطنيا ولا خاصة مقاوما لإسرائيل.

وكان الجميع يعلم أن النظام السعودي لم يكن إسلاميا ولا وطنيا ولا مدافعا عن قيم الإسلام وأخلاقه ولا خاصة مدافعا عن الحرم الأول ولا حتى على الحرمين الثاني والثالث بل كان ذلك أصلا تجاريا يخفي ما أصبح الآن علنيا لما ثارت الشعوب وأصبحوا مضطرين للاعتراف العلني بحاميهم ضد شعوبهم.

وأذكر أول مرة زرت المركز السعودي في المغرب فوجدت أن قياداته كلها اختيرت خصيصا من عتاة العلمانية الكافرين بكل ما هو إسلامي. ونفس الأمر في إعلامهم وفي مستشاريهم وفي قياداتهم الفنية لوظائف الدولة بما في ذلك ما يتعلق منها بأسرار أسرارها.

ومرة أخرى أذكر بأن مصر والسعودية أخذتهما للتمثيل للظاهرة وليس للتشهير بهما. فالظاهرة ليست خاصة بهما بل كل الأنظمة العربية هي من هذا النوع أو من ذاك. فالتي تدعي الحداثة والجمهورية أشبه بمصر. والتي تدعي الأصالة والملكية أشبه بالسعودية. وأي نظام عربي يمثل للظاهرتين السياسية والخلقية إذ الجميع في الهوى سواء. والناظمة العربية ما لم يكن منها محميات إسرائيلية أمريكية فهي محميات إيرانية روسية. لا وجود لدول عربية كلها محميات بلا استثناء.

وإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن أن يكون محض صدفة. فأي ظاهرة إذا عمت لم تعد شذوذا ومن ثم فصيرورتها قاعدة عامة ينبغي أن يكون لها تعليل عام لا يرد إلى خصوصية مصرية أو سعودية بل هي ظاهرة عامة أصابت كيان العرب الروحي والحضاري ويحتاج إلى تشخيص قد يكون بداية العلاج.فليس غرضي تشويه أحد.

وحتى لا يقال أنت تعمم دون دليل فليكن الدليل حول قولي إن ما مثلت به لمصر يوجد في السعودية وما مثلت به للسعودية يوجد في مصر وما مثلت به فيهما يوجد في كل بلد عربي. فلنأخذ المقارنة بين مصر والسعودية. فـما قلته عن جديد الديني والخلقي في السعودية هو السائد ما يسمونه فنونا مصرية. وما قلته عن المدني السياسي في مصر هو السائد في ما يسمونه “حكمة” ملوك السعودية : السمع والطاعة لولي الأمر في تل أبيب وواشنطن.

فما يسمى فنونا مصرية وخاصة السينما وما يسمى سياحة مصرية وخاصة شارع الهرم هما المثال الأعلى للأمير الأحمق وخاصة إذا طعمناه بفنون الماخور العالمي في دبي وفي كل بلاد العرب التي صارت جنات السياحة الخليجية عامة والسعودية خاصة قريبا منها وبعيدا عنها في بلاد العرب. وما يسمى حكمة ملوك السعودية هو قرآن السيسي حاليا: معبوده ناتن ياهو وترومب.

ولست أصف هذه الأمور بمنظور أخلاقوي أو حتى لعلة الغيرة على الإسلام-فهذان أمران يخصان عقيدتي وليست عقائدي هي موضوع كلامي الآن-بل تشخيص الأمراض التي يبالغ من يعتبرها جديدة دون تحديد لما تجدد فيها وهو ليس وجودها بل علنية وجودها. وشتان بين الأمرين: فلعل الثاني أفضل ألف مرة من الأول.

فإخفاء الظاهرات لا يساعد على علاجها فضلا عن النفاق إذا تعلق الأمر بالسياسة أو بالاخلاق. لذلك فإن الوضع الراهن في مصر وفي السعودية -وبقية بلاد العرب-يبين أن الداء أوسع انتشارا من النخبة الحاكمة وأن وجوده وصموده ليس بفعل فاعل من الخارج فحسب بل إن له قاعدة قوية في الداخل.

وما يتجاهله الكثير هو ما عبرت عن استغرابي من الغفلة عنه. فكلنا يعلم أن الدعاة السعوديين المسجونيين والساسة المصريين المسجونين لهم ملايين المتابعين إذا صدقنا ما في حسابات التواصل الاجتماعي. لكن لم نسمع لهؤلاء الملايين ركزا حتى في ساحة التواصل الاجتماعي وهو أيضا كشف عن نفاق آخر وهو أخطر من الأول لأن علاج الداء من المفروض أن يأتي من هؤلاء لو كانوا صادقين.

وقد ظن البعض أني قلت ذلك تعزية لنفسي لأنه ليس لي عددا كبيرا من المتابعين: إذ قلت الحمد لله أنهم قلة ما يدل على أنهم صادقون لأن ملايين المتابعين للدعاة في السعودية وللسياسيين في مصر لم ينفعوهم عند الحاجة. ومن ثم فلا معنى للمتابعة التي من هذا الجنس لأنها كذبة قد تدغدغ هوى النفس لكنها ليست حبا في قيم مشتركة.

ولما كان غرضي الكشف عن الداء وطلب العلاج فإني عدت بالمرض إلى علله العميقة وبعضها نسبته إلى كاريكاتور التأصيل أو النهضة الزائفة المبنية على علوم الدين المحرفة لثورة الإسلام وبعضه الثاني إلى كاريكاتور ا لتحديث أو النهضة الزائفة المبنية على علوم الفلسفة المحرفة لثورة الحداثة.

فالنخب المتنفذة هي المريضة لأن الاستبداد والفساد السياسي المغيب لإرادة الشعوب (البعد الأول من ثورة الإسلام) والاستبداد والفساد الخلقي المغيب لروح الشعوب (البعد الثاني من ثورة الإسلام) من أعراض مرضها بوصفها قاعدة الثقافة العامة للوساطة في تربية الإنسان المسلم وللوصاية في حكمه.

وما يجعلني أطمئن لهذا التشخيص ليس كونه صدر عن بحثي الشخصي فحسب بل لأنه هو عين التشخيص الخلدوني: ففي الفصل الذي خصصه للتربية العنيفة وقاس عليها الحكم العنيف حدد ابن خلدون نتائج ما سماه “فساد معاني الإنسانية” فكان وصفه مطابقا لما يجري في ثقافة النخبتين والاستبداديين والفسادين.

فماذا يعني “فساد معاني الإنسانية” من حيث هو حصيلة التربية والحكم العنفين؟ للأمر دلالتان عامة ومفصلة. فأما العامة فعرفها ابن خلدون بسر وجودي يترتب عن فقدان الإنسان لمنزلته الوجودية من حيث هو “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”أي إن ينتقل من منزلة خلافة الله إلى عبادة العباد.

وهذا السر الوجودي يفسر به ابن خلدون انحطاط الأمم وزوالها من التاريخ أو انقراضها لأنها تفقد شروط الوجود الحر والكريم. وهو الجديد: أرادت الأمة العودة إلى هذه المنزلة -وتلك هي حقيقة الثورة الحالية-ظهر السر أي منع الوجود الحر والكريم للإنسان المسلم فأصبح علنيا عند الأعداء وعملائهم.

أما التفصيل فهو التحولات الخمسة التي تدل على فساد معاني الإنسانية أو فقدان الإنسان لـ”رئاسته بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”:

1-تحول نفسي عضوي: الكسل وعدم العمل.

2-تحول نفسي خلقي الكذب والنفاق.

3-تحول سلوكي جامع بين السابقين التحيل والغدر والنذالة.

4-فقدان القدرة الدفاعية عن الذات والأهل والوطن وهو فقدان معنى الإنسانية الاجتماعي والمدني بلغة ابن خلدون.

5-ومجموع هذه الأمور المفقودة عبر عنه ابن خلدون بعبارة قرآنية “الرد في أسفل سافلين” أي فقدان التقويم الأحسن أو رئاسة الإنسان التي هي الخلافة حيث لا معبود للإنسان غير الله وتلك هي الحرية والكرامة.

وختاما فلكأن ابن خلدون لم يكتف بالتشخيص بل حدد العلاج:إذا لم تتدارك الأمة التي أصابها هذا المرض أمرها-وتلك هي دلالة الثورة العربية الحالية-فسيؤول إلى الانقراض لأنها ستضمحل لمجرد صيرورتها كما قال عالة على غيرها سواء كان إسرائيل وأمريكا أو إيران وروسيا.

وإذن فالجديد هو معركة المصير وما أظهرته مما كان خفيا من المرض الذي أصبحت أعراضه علنية. لما تجاوز الشعب الخوف تجاوز الاستبداد التخفي ليضمن حماية أعداء الشعب له من الشعب الذي علم أنه مجرد أداة بيد الأعداء. ذلك هو الأمر الذي أردت إيضاح طبيعته لنعلم شرطي علاجه : تواصل الثورة وتحقيق وحدتها لأن الثورة المضادة (الأنظمة المستبدة ونخبها الفاسدة) والأعداء الذين يحمونها (إسرائيل وأمريكا وإيران وروسيا) متحدون ضد حرية شعوب الإقليم وكرامتهم.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى