مقالاتمقالات مختارة

فرضية ظاهرة الغلو – عباس شريفة

بقلم أ. عباس شريفة

 

الإرهاب والثورة

فرضيّة أنّ الغلوّ والتطرّف هو منتج التراث الإسلاميّ، وأنّ في تراثنا من الأحكام الفقهيّة ما يُفضي بالضرورة إلى إنتاج تنظيمات الغلوّ والتطرّف، وأنّ الحلّ في مكافحة الغلوّ يكمن في تنقية وغربلة هذا التراث، والانسلاخ من ثقافتنا باعتبارها ثقافة منتجة للتطرّف، فرضيّة لا تثبت بحال، لعدّة اعتبارات وهي:

أوّلاً: إنّ نسبة هؤلاء الغلاة لا تتجاوز الواحد بالألف على أكبر تقدير، من مجموع الأمّة الذي يطالع ويتديّن بهذا الموروث الفقهيّ.

ثانياً: إنّ ظاهرة التطرّف هي ظاهرة مصاحبة لكلّ النظريّات والأيديولوجيّات، ولم تخلُ منه مِلّة ولا أمّة ولا تديُّن.

لكن.. يستغلّها الحداثيّون دائماً، لأجل ممارسة نوع من الطحن للهويّة الاسلاميّة، باعتبار أنّها ثقافة مُعيقة للنهضة والتقدّم.

وليهربوا من حقيقة أنّ الإرهاب هو صناعة وإخراج الاستبداد السياسيّ، التي طالما كانت العلمانيّة تشكّل له ورقة التّوت من خلال ستر عورته، وتسويغ قهره للشعوب، حيث يحقّق صورة مساواة دينيّة، مع مصادرة كاملة للحقوق السياسيّة.

هكذا بقي الإرهاب هو الأزمة التي يستعين بها الاستبداد، باستعمالها الثلاثيّ في:

1-مساومة الشعوب على الحريّة مقابل الأمن، في كلّ مرّة تثور فيها الشعوب المقهورة لنيل حريّتها وكرامتها.

2- ومساومة الإقليم على الاستقرار مقابل البقاء في السلطة، والتوقّف عن دعم الثورة.

3-ومساومة النظام العالميّ على الملفّات الأمنيّة، مقابل الاحتفاظ بالدور الوظيفيّ.

وقد تكون ظاهرة الإرهاب إحدى منتجات فرض الحداثة والعولمة بالعنف والاجتياح، والتي تستهدف استلاب الهويّة والثقافة، منزوعة من الديمقراطيّة والحريّة، لذلك يقرّر (صموئيل هنتغتون) أنّ المجتمعات التي تتعرض لا ستلاب هوياتيّ يزداد تمسّكها بثقافتها وهوّيتها بشراسة، ولا تستسلم بسهولة للغزو الثقافيّ.

لكن تبقى فرضيّة التراث وفرضيّة الصدمة الحداثيّة كمسببات حصريّة في تشكيل الظاهرة، فرضيّة تحتاج إلى براهين قاطعة.

‏لأنّ الغلوّ والتطرّف عند تشريحه، هو حال مركّبة في تكوينها، ومتطوّرة في أطوارها، تنطلق من عوامل الانحراف النفسيّ عندما تكون في طور الحال الفرديّة،

ثمّ يضاف لها وتتطوّر إلى الانحراف الإيديولوجيّ المنهجيّ، عندما تنتقل من الحال الفرديّة إلى الحال تنظيميّة.

ثمّ يدخل العامل الاستخباراتيّ عندما يتعسكر التنظيم في طوره الثالث، ويبدأ

بالاتجاه إلى تطبيق النظريّة الجهاديّة التي يتبناها ويؤمن بها، مدفوعاً بردّة فعل على واقع مرفوض في تصوّر هذه الجماعات.

لينتهي إلى الحال الوظيفيّة في ضرب الأمّة من داخلها وإجهاض كلّ مشاريع التحرّر واسقاط الاستبداد، من خلال فلسفة بسيطة، أنّ قتال المرتدّ أولى من قتال الكافر الأصليّ، وهكذا يتمّ تجنيد سباب المسلمين ليقتل بعضهم بعضاً.

البعد النفسيّ:

لا ننكر أنّ للغلوّ أسباباً نفسيّة في صناعته، فقد كان لسجون الطغاة، وظلم العتاة، وقهر الجبابرة، ومشايخ السلطان، والانبطاح، وسياسة الغرب الازدواجيّة تجاه قضايا الامّة العادلة، ووقوف كثير من الحكومات الغربيّة في وجه التغيير السياسيّ السلميّ في البلاد الإسلاميّة، ومساندتها بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال أدواتها الوظيفيّة لأنظمة القهر والاستبداد، كان لكلّ ذلك الكيل الأوفى في ترويج وتسويغ بضاعة الغلوّ والتطرّف، فكثير من المظلومين قد يتحوّلون في لحظة من اللحظات إلى ظالمين عندما يعزّ الانصاف ويقهر الرجال.

وليس للغلوّ علاقة بوفرة المعرفة والعلم وعلو الشهادات، فكم التقيت بمن يحملون شهادات دكتوراه في الشريعة، ينافحون ويدافعون عن الغلاة، وكانت الدكتورة (إيمان البغا) بنت الشيخ الدمشقيّ (مصطفى البغا)، هي أنموذج من هذه النماذج الاكاديميّة التي دخلت في جوقة التنظير لهذه الجماعات.

فكثيراً من الأحيان يكون منشأ الغلوّ هو انحراف نفسيّ، وليس نقصاً معرفيّاً، إنّ انعدام أجواء الحريّة، والتربية القمعيّة كفيلة بخلق هذه الظاهرة، ورفدها بكلّ مسوّغات الانتشار، وتسويغ كلّ الأفكار المنحرفة، في واقع يعبّر عن حال من الانفجار النفسيّ، بعد استحكام حال من الانسداد الاجتماعيّ والسياسيّ،

فالإرهاب الفكريّ الذي تمارسه بعض التيّارات الدينيّة التي ينتعلها الطغاة، سيقسّم المجتمع إلى فئتين متمايزتين:

1- فئة مغرقة في الإلحاد والبغض للدِّين، تبعاً لموقف نفسيّ ممّن يمثّلون الدين، ومن سقوط بعض القدوات التي تنافق للظالمين، وتسوّغ للمستبدّين.

2- وفئة مغرقة باللغوّ والتكفير، كردّة فعل على محاربة الدين، وعلى من يريد أن يفرض لوناً من التديّن على الناس كافة.

إنّ الكبت الفكريّ، والتربية القمعيّة، تجعلنا نحمل كثيراً من عقد الغلوّ من طفولتنا، وقد رأينا كثيراً من ممارسي الإجرام، ومن أصحاب السوابق الجنائيّة، قد التحق بهذه التنظيمات، لتنفيس رغبة مكبوتة في ممارسة الإجرام، باسم الدين والجهاد، وبذلك يغيب تيّار الاعتدال، ويتفجّر الصراع الذاتيّ في داخل المجتمع حتّى في الأسرة الواحدة.

البعد المنهجيّ:

بمجرّد أن يتحوّل الغلوّ والتطرّف، من مجرّد الانحراف النفسيّ، إلى البناء التنظيميّ، فإنّه بحاجة إلى تشكيل أسس معرفيّة، وقواعد نظريّة لتسويغ السلوك المنبعث من هذه الحال النفسيّة المختنقة والمتوتّرة، وهنا يتمّ التنقيب في شذوذات التراث، وغرائب الأقوال واقتطاع بعض الفتاوى من سياقاتها التاريخيّة والفلسفيّة، ليتمّ تجميع منهج ملفّق يختار من الأقوال والمذاهب المنخنقة والموقوذة والمترديّة والنطيحة، فيأخذون من كلّ قول أعنته، ومن كلّ مذهب أصعبه، وهكذا يتمّ تطويع الأيدولوجيا وإعطاؤها حكم المقطوع به، لتنفيس الرغبات المكبوتة، والعقد المغلقة، وهذا من أكثر الخدع الفكريّة التي يقوم بها المتطرّفون، حيث يتمّ بناء نتائج قطعيّة على قواعد ظنيّة، لحماية الفكرة من النقد والرد والمفاصلة والتكفير، على أساس الإيمان به والتصديق.

إضافة إلى تنزيل الكثير من النصوص العموميّة على التنظيم، من مثل أحاديث الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، وأحاديث الغربة، وأحاديث عودة الخلافة، وأحاديث جماعة المسلمين، ونصوص البراء والولاء، وتفسيرها بناء على الولاء التنظيميّ والتبعيّة الحزبيّة، ونصوص الحاكميّة كمتراس لممارسة التكفير العموميّ.

إنّ الانحراف النفسيّ غالباً ما يدفع بصاحبه للبحث عن الفكر الذي يسوّغ ويشرعن هذا الانحراف، بحيث يحمي به سلوكه من الانتقاد والمواجهة.

فلا يكاد يوجد هناك من ينحرف لمجرّد أنّه انجذب إلى أفكار متطرّفة.

فبداية خطّ الانحراف الفكريّ يبدأ من زيغ القلوب، ثمّ يبحث الهوى عن تغليف ما يشتهي بالنصوص  فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ آل عمران.

فجعل الله تعالى زيغ القلب سابقاً اتباع المتشابهات.

هنا تقع الفتنة (ابتغاءَ الفتنةِ): الانحراف السلوكيّ نحو الشهوة الخفيّة، و(ابتغاء تأويله) هنا تطويع النصّ من خلال صرفه عن المعنى الحقيقيّ، إلى المعنى الذي يقابل ما يشتهي المفتون.

البعد الاستخباراتي:

في مرحلة انتقال التطرّف من الحال التنظيميّة إلى حال العسكرة، يدخل العامل الاستخباراتيّ إلى عمق التنظيم، وربّما يصل إلى القيادات العليا، لأنّ اختراق مثل هذه التنظيمات هو من السهولة بمكان، بسبب المجهوليّة في الأسماء، والضبابيّة في الأهداف، والشعاريّة في الخطاب، ثمّ إنّ فلسفة قتال المرتدّين، أَوْلى من قتال الكفّار الأصليّين، كافية لتدوير المعركة باتجاه الشعوب المسلمة، باعتبارها شعوباً مرتدّة، وهكذا يتمّ تجنيد شباب المسلمين، ليقتل بعضهم بعضاً في معركة أبديّة غير متناهية.

ويأتي دور الاستخبارات على عمليّة التوظيف، وإدارة المعركة، والعمل على استمرارها، وتقديم مقوّمات الصمود لكلّ الأطراف، والتجنيد لهذه الظواهر النفسيّة، عندما تتخطّى مرحلة التنظيم، إلى مرحلة العسكرة.

ولست مع الذين يشخّصون ويفسّرون ظاهرة الغلوّ بمؤامرة مخابراتيّة، لأنّ الفكر المتطرّف ذاتيّ التدمير، يتشكّل من تنازع الشهوات والشبهات، لكنّ قصارى ما تفعله الجهات الاستخباراتيّة هو توجيه هذه القدرة الفائقة، واستخدام التشوّهات الفكريّة واستثمارها، عندما تتحوّل إلى حال عسكريّة، من خلال تأمين المساحة الجغرافيّة للحركة، والدعم الإعلاميّ من خلال تأمين المنابر الإعلاميّة التي تجتذب الشباب المراهقين، ورفدهم بالجيوش الإلكترونيّة والبروبوغندا الإعلاميّة في إصدارات هوليوديّة، وتأمين تدفّق الموارد البشريّة، من خلال تيسير حركة تنقّلاتهم على الحدود، للمحافظة على الوقود البشريّ للصراع، وترك الموارد الماديّة كعوامل للصمود والبقاء، ورسم مسارات التحرّك، وتسويغ عمليّات التدخّل في الدول، وحشد الجيوش، بحجّة محاربة الإرهاب، وابتزاز بعض الدول المصدّرة للشباب المتطرّف، وبعض الدول تجد في الإرهاب فرصة للتخلّص من الشباب المتحمّس، لإرسالهم إلى تلك المحرقة، وتنظيف نفسها من هذه القنابل الموقوتة، ثمّ التدخّل للسيطرة على الموارد الماديّة، بحجّة مكافحة الإرهاب، وإعادة رسم الخرائط من جديد، واستعمال التطرّف لزعزعة أمن الدول المخاصمة، التي لا تعجب سياستها بعض الدول الأخرى، ومن أجل إيقاف التنمية، وضرب النهضة في الدول الأخرى، أو لإجهاض ثورات الربيع، والحرّيّة من خلال وصمها بالإرهاب، تبريراً لقمعها، ونزع شرعيتها، وبذلك يكون التطرّف أداة من أدوات الثورة المضادة، في مواجهة ثورات الحريّة.

وهكذا تتحوّل هذه التنظيمات إلى شركات أمنيّة متعدّدة الجنسيّات، كلّ دولة تستثمر فيها بمقدار ما تستطيع تحقيقه من اخترق في بنيتها الهرميّة.

لقد كان الغلوّ والتطرّف أجدى الوسائل الاستخباراتيّة لدول المركز، ممّن تقود النظام العالميّ اليوم، في ضرب مشروعنا الحضاريّ وإبقاء مسافة أمان بينها وبيننا، من خلال شغلنا بهذه الصرعات، وجعلها تتحرّك بتحكّم عجيب، من خلال إدخالها في مسارات حرب الموارد لتسمينها، ومن ثمّ لتستعملها في حرب وكالة، يحصد ثمارها الأعداء، فكان نصب الفخّ على الموارد بما يشبه طعم الصياد، ومن خلال الآلة الإعلاميّة الهائلة في استقطاب الجنود، وترويج الفكرة، وتأجيج عواطف الأغرار، وعند الحاجة لتشذيب المشهد، لا بأس بشنّ حروب استعراضيّة تزيد من التعاطف الشعبيّ معها، بدلاً من إضعافها، وتظهر المخالفين لها بمظهر الخائن المتآمر المصطفّ في حلف الصليبيّة، ضدّ أهل الإسلام، ممّا يعزّز العقيدة القتاليّة أكثر عند هؤلاء تجاه شعوبهم.

إنّ الانحراف السلوكيّ بالضرورة سيودّي إلى الصراع الاجتماعيّ، لأنّ المنهج الربانيّ حدّد السلوك الإنسانيّ بمسارات تمنع الاصطدام، كمسارات الكواكب في فلك السماء، والانحراف عنها يودّي إلى الصراع الحتميّ.

ولأنّ الأفكارَ تنتقم لنفسها من المجتمعات التي تظلمها، فالمجتمع الذي يحتضن أفكار الغلوّ، وتنهدم أسوارُ مناعتِهِ أمام جراثيمها الفكريّة، لا بدّ أن تذوق وبال أمرها، حتّى يستنفر جهازها المناعيّ لمواجهة الظاهرة، فإنّ الصدمة على ما فيها من ألم، فهي ضروريّة لإيقاظ الحواسّ، واستنفار الوعي لمواجهة الخطر المحدق.

 

(المصدر: رؤية للثقافة والإعلام)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى