فجوات التيار الحركي والجهادي المعاصر
بقلم أحمد العدناني
دخلت الأمة مرحلة ما يُسمّى بالصحوة الإسلامية، في أعقاب سقوط الخلافة وتحديدًا في العام 1930، واستمرت حتى مطلع القرن الحالي، وهو الزمن الذي بدأ فيه النظام العالمي إحكام السيطرة التي أخذت تزداد يومًا بعد يومًا حتى بلغت أوجها في يومنا هذا. كان للصحوة الإسلامية الفضل في نشأة الصحوة الجهادية منذ بداية الستينات وإلى اليوم، والتي تمخضت عنها تنظيمات وجماعات، ومبادرات فردية وجماعية، كان لها فضل عظيم – على ما اعتراها من النقائص – في النهوض بالأمة في مواجهة استعمار وهيمنة النظام العالمي وصنائعه في بلاد المسلمين.
ترك الجيل الأول من المجاهدين تراثًا عظيمًا، في مجالات التأصيل والدعوة والمجال العسكري والتربوي والعديد من المجالات. واليوم ونحن نعيش نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، آلت المواجهة لتكون بين الجيل الثالث لتيار الصحوة الجهادية والنظام العالمي، الذي وحّد صفوفه ودعمها بالمنافقين من العلماء، والناكصين على أعقابهم من رموز وقيادات الصحوة الإسلامية التي تشعبت مدارسها، التي تعاني أغلبها من الاندحار العملي والتيه الفكري والتشتت.
أما على صعيد الصحوة الجهادية، وهي محل نقاش ونقد مقالتنا هذه، فقد بدأت الصحوة بمرحلتها الأولى في مطلع الستينات (1960 – 1965)، ثم المرحلة الثانية وهي مرحلة قيام التنظيمات الجهادية المسلحة في العديد من بلاد العالم العربي والإسلامي لمواجهة أشكال التواجد الصليبي في البلاد (1965 – 2000)، والتي بدأت في التسعينات بأخذ مرحلة “الجهاد العالمي” لا سيما في تجارب البوسنة والشيشان وانتهاءً بأفغانستان والكثير من الأعمال الفردية، إلى أن أنشأ النظام العالمي نظاما دوليًا لمكافحة ما أطلق عليه “الإرهاب”، وتمكّن من القضاء على معظم المحاولات التنظيمية، وحصر الباقين من هذه المحاولات في بقاع محدودة، واستئصال ما تبقى من جذورها وأعلامها وأنصارها من البلدان المختلفة، والآن نحن نعيش في المرحلة الثالثة، أو الجيل الجهادي الثالث.
مضى معظم الجيل الأول من المجاهدين، والذي كان يمثله أعلام كسيد قطب، عبد القادر عودة، المودودي، سعيد حوى، مروان حديد، وغيرهم، تاركين خلفهم تراثًا هائلًا، فكريًا وتاريخيًا وحركيًا وتربويًا، يستحق البحث والدراسة والمداولة، وهو ما مهد الطريق للجيل الثاني من المجاهدين الذين داروا في فلك هذه الأدبيات، وساعدهم في ذلك التجمع الجغرافي، حيث تكتّل هذا الجيل في أفغانستان وباكستان في فترة الثمانينات ومطلع التسعينات، فحدثت دفعة فكرية جديدة كانت نتاج التلاقي الفكري، وتبادل الخبرات والصراعات الفكرية مع مدارس الصحوة الأخرى، والمؤسسات الدينية الرسمية التي كرّست الكثير للهجوم فكريًا وعقائديًا على الصحوة الإسلامية عمومًا، وعلى التيار الجهادي خصوصًا.
انتهت التسعينات وأصبح الجمود والجفاف الفكري والمنهجي سمةً عامةً لدى التيار الجهادي وحتى اليوم، حيث افتقد الجهاديون للتصحيح والتطوير، وعانوا من العديد من الثغرات التي سنجتهد في سرد بعضها في مقالتنا هذه، بهدف البناء والتصحيح لا الهدم:
1- تسرّب الأفكار المتشددة للمجاهدين
جنحت العديد من الجماعات والتنظيمات الجهادية، إلى مستويات من التطرف والتشدد في الطرح العقدي والفقهي السياسي الشرعي، وأصبحت أدبياتهم تحتوي على تعميمات وقواعد، أنتجت مع تواجد النقص العلمي والحماسة والضغوطات النفسية، أفكارًا تكفيرية تتجاوز الضوابط التي قام عليها الفكر الجهادي من الأساس.
2- أحادية الطرح في المنهج الجهادي
عانى التيار الجهادي من ضيق الأفق في المرحلة الأخيرة، حيث اقتصر إنتاجه على مسائل قليلة كالولاء والبراء والحاكمية، وبالقياس للمدارس الإسلامية المعاصرة الأخرى، نجد أن التيار الجهادي أقل التيارات إنتاجية وشموليةً للقضايا التي يواجهها المسلم في هذا الزمن.
3- ضعف المادة التربوية في مناهج التيار الجهادي
يقول الشيخ ابو مصعب السوري في هذه النقطة “يعتبر مجال التربية لقواعد التيار الجهادي من اكبر المجالات التي اعتراها النقص وانخفاض المستوى، خصوصا بعد التسعينات، وادى تدفق الكثير من الشباب من قطاع عوام المسلمين العاديين، المعبئين بالعواطف والحماس والاخلاص مع انخفاض مستويات العلم الشرعي، والالتزام الديني، وأصول الاخلاق والمعاملات الاسلامية وحتى مستوى العبادات، وتميزت اوساط جهادية كثيرة بمستوى ضحل جدا من المواصفات في هذه المجالات، ادى هذا إلى تميز الاوساط الجهادية بالقسوة والجفوة وقلة الرحمة، وتميز العديد من الجهاديين بسلوك اقرب إلى الحالة العصابية منه إلى السلوك المفترض بالمجاهد المؤهل والمتربي علميا وخلقيا”.
4- غياب أثر فقه الواقع
أدى الضعف في العلوم الاجتماعية لدى الجهاديين وانعدامها، إلى اختلال الموازين في التفرقة بين الأعداء والمحايدين والمناصرين، وحقوق وطرق التعامل المثلى مع مختلف هذه الفئات، وهو ما ترتب عليه النفور وقلة شعبية هذه التنظيمات بين عوام المسلمين، واستغل العديد من خصوم التيار الجهادي هذه الثغرة تحديدًا مع تسليط الضوء عليها وتضخيمها، لدفع العوام عنه، وتخويفهم من مآلات تواجد هذا التيار في المجتمع.
5- فشل الجهاديين في صناعة شعارات المواجهة
أقتصر شعار المواجهة لدى الجهاديين في العصر الحديث، على تفاصيل الحاكمية وشعاراتها، بطرح يصعب فهمه لدى العوام، كما يسهل التصدي له من قبل علماء السلطان، ولم يتمكن الجهاديون من رفع شعارات شعبية سهلة الفهم تثير تأييد العامة، من قبيل مشاكل الجوع والظلم والكرامة واحتلال المقدسات والاستعمار وغيرها، وهي شعارات استخدمها القوميون واليساريون وحتى بعض مدارس الصحوة الإسلامية السياسية، للحصول على تأييد العامة، وهي مسائل شرعية في أساسها وبالإمكان طرحها بأسلوب إسلامي وجهادي، إلا أنهم آثروا أحادية الطرح والتركيز على الولاء والبراء والحاكمية وهي مواضيع يصعب على العوام فهمها، بل وينفرون منها نتيجة التوجيه الإعلامي وتأثير مؤسسات الدين الرسمية.
6- انخفاض مستوى العلم الشرعي والتربية السلوكية
يلاحظ المتتبع لحالة الجيل الأول من المجاهدين والجيل الحالي، فرقًا كبيرًا على مستوى العلم الشرعي والسلوكي، فظهرت تجمعات جهادية تتميز بمستوى شرعي ضعيف، بالإضافة إلى حالة من السطحية في فهم الواقع السياسي والأمني والعلمي، ومستجدات الواقع في أيامنا هذه، وتجاوزت هذه الحالة الشباب المنضمين حديثًا للتنظيمات لتصيب الكثيرين ممن تصدروا لإدارة وقيادة بعض التنظيمات الجهادية.
تعاني التنظيمات الجهادية حديثًا من انعدام في النقد الذاتي الهادف، وتدني القدرة على إصلاح أنواع الخلل الذي سيصيب بالتأكيد هذه التنظيمات، مما أدى بها إلى الانحدار والتفكك، وانعدام الأثر والمقاومة، هذه المقاومة التي يجب أن تنطلق على أسس من الهدى والبصيرة والأسس المتكاملة، التي تبني على ما مضى من عبر ودروس. وتنطلق وفق ما يناسب المرحلة من منهج وأساليب. في ضوء ثوابت هذا الدين والعقيدة الجهادية القتالية لهذه الأمة.
(المصدر: موقع البوصلة)