مقالاتمقالات مختارة

فتاوى الأزمات

بقلم د. محمد عياش الكبيسي

ظاهرة في عالمنا العربي تستدعي الاهتمام والدراسة، وهي أنه مع كل أزمة سياسيّة أو حدث ذي شأن تتطاير الفتاوى من هنا وهناك؛ مع أو ضد، وربما تشكّل هذه الفتاوى جزءاً من ثقافة المجتمع ونظرته للأمور، لما للدين من حضور فاعل ومؤثّر في مجتمعاتنا.

من الملاحظ هنا أن المختصين بالعلوم السياسية لا يكاد يكون لهم صوت يذكر قياساً بأهل الشريعة والسادة المفتين والوعّاظ نزولاً إلى أصغر إمام في أصغر مسجد.

ومن الملاحظ أيضاً أن هؤلاء المشايخ لا يستفتيهم أحد في القرارات السياسية، وليس لهم نصيب في صناعة الحدث السياسي، وربما لم يكونوا مهتمين به أصلاً، لكنهم يتنبّهون فجأة عند وقوع الحدث، ليتذكّروا أن عليهم واجباً لا بد أن يقوموا به.

وهم لا يتكلمون كما يتكلم غيرهم بآراء قابلة للأخذ والرد، بل يستحضرون الآيات والأحاديث وفتاوى الأسبقين، وأذكر مثالاً على هذا أن أحد علماء العراق ودعاته المعروفين أصدر فتوى أيام الانتخابات الرئاسية في مصر، مضمونها وجوب انتخاب محمد مرسي -فرّج الله عنه- وحرمة انتخاب غيره، مستدلاً بمفهوم الشوكة، وراداً بالاسم على الشيخ القرضاوي، لأنه أبدى رأياً مخالفاً، وأغرب من هذا أن شيخاً آخر، وهو أيضاً من الرموز الفقهية المعروفة في العراق، ظهر على إحدى القنوات وأفتى بحرمة «الفيدرالية»، وشتم الداعين إليها بأقذع الألفاظ، ثم بعدها بأشهر دعاني أحد المقربين منه لحضور ندوة حول الفيدرالية، برعاية الشيخ، مؤكّداً أن الشيخ قد غيّر رأيه!

أتذكّر أيضاً محنة الكويت، وما أدراك ما محنة الكويت، حيث انقسم علماء الأمة انقساماً لا مثيل له، بين من يرى أن الوقوف مع صدّام واجب شرعي، تؤكّده كل آيات الولاء والبراء وأحاديث الجهاد، وضرورة مقاتلة العدو الصليبي الكافر، وبين من يرى الوقوف مع الكويت ودول الخليج وضرورة الاستعانة بالكافر لدفع الصائل، ولا أحد من الفريقين يراها مسألة اجتهادية، بل هو الدين، والحق الأبلج الذي ما بعده إلا الضلال والعمالة والخيانة!

وأذكر بسياق آخر مؤتمراً علمياً عُقد لمناقشة الأزمة الاقتصادية التي عصفت منذ سنوات بالولايات المتحدة الأميركية، وكانت لها تداعياتها على المستوى العالمي، وكان في المؤتمر عدد لا بأس به من مشايخنا الأفاضل الذين تمكّنوا من تسيير المؤتمر وفق التحليلات الشرعية المستندة إلى الآيات والأحاديث أيضاً، ومن ذلك قوله تعالى: «يمحق الله الربا»، وراحوا يبشّرون الحضور بأن أميركا ستمحق، وأن اقتصادها سيمحق بنصّ القرآن!

لا أدري كيف تجرأت ورفعت يدي ثم قلت: لا تذهبوا بعيداً أيها الإخوة، فماذا ستقولون لو أن الأميركيين تمكنوا من معالجة الأزمة، وخرجوا منها بسلام، أين تذهب هتافاتكم وخطاباتكم واستدلالاتكم؟

في الأزمة الحالية التي يشهدها الأشقّاء في دول الخليج، والتي فاجأت الجميع، لكن يبدو كأنها لم تفاجئ المشايخ، حيث تراهم يتسابقون لإصدار الفتاوى والبيانات، وكلّ على طريقته وبأسلوبه، فرادى وجماعات، تراهم يصبّون الزيت على النار، ويجيّشون العامة، ويعطون للأزمة بعداً دينياً خطيراً، ويظهرون حماساً ربما أكثر من (أولي الأمر) وأصحاب الشأن أنفسهم! مع أنهم بكل تأكيد قبل ليلة واحدة لم يكونوا يعرفون عنها شيئاً، ولا أحد استشارهم بشيء.

كنت أتمنّى من علمائنا ومشايخنا أن يجنّبوا الدين مثل هذه المزالق، وأن يكتفوا بالدعوة إلى الإصلاح، وتذكير الناس بثوابت دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم، وتمتين أواصر المحبّة بينهم، وأن ينكروا ما يتداوله بعض الناس على صفحاتهم من سباب وشتائم وتأجيج للفتنة، خاصة أننا في رمضان، وفي أجواء القرآن.

إنه لمن المعيب أن يكون التناقض في المواقف المدوّنة والمصوّرة، والتي يتناقلها الناس عن بعض علمائهم بهذه السرعة من مديح وإطراء إلى اتهام وتخوين وتحريض، وكأنه قد نزل عليهم الوحي!

إن هذه التناقضات والاختلافات التي تتلبّس بلبوس العلم والدين لا يقرأها الناس ببراءة، ولا بسذاجة، إنهم سيسيئون الظن، وإن أحسنوه، فسيقولون: إنكم معذورون لأنكم تواجهون ضغوطاً من حكوماتكم، وقد لا يكون الأمر كذلك، فالحكومات تعرف أن هذا يأتي بنتائج عكسيّة.

المقلق هنا أن تُضرب هيبة الفتوى الدينية نفسها في قلوب الناس، وتتزعزع الثقة بكل ما يسمعونه من خطب ومواعظ، آنذاك لا نستطيع أن نمسك الشباب إذا هرولوا خلف رايات أخرى ومنابر أخرى في كهوف الظلمة والتكفير والتطرّف، فيصدق فيهم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»، وإن تجربة الشباب في العراق وسوريا نموذج صارخ لهؤلاء، حيث الفراغ الذي تركه العلماء بعجزهم عن التوافق على حل مقنع، وباضطرابهم وتناقضهم كان سبباً مباشراً في تورّط هؤلاء الشباب بمشاريع أهلكت الحرث والنسل ودمّرت البلاد والعباد.

وإذا لم يتجه الشباب ذات اليمين، فإن مزالق الشيطان تنتظرهم ذات الشمال، حيث الدعوات الإلحادية والنزعات الإباحية المدمّرة للعقول والأخلاق.

إنه ليس من الصحيح أن نضع أنفسنا في عنق الزجاجة إزاء كل أزمة تمر مهما كانت خطورتها، فإن عقيدة الأمة وأخلاقها وتماسكها أعظم عند الله، وفي ميزان الشرع والعقل من كل أزمة مهما بلغت.

ثم وفي الإطار المنهجي العلمي الدقيق أيجوز للعالم أن يفتي في مسألة لم يحصل عنده التصوّر الكامل والواضح عنها؟ أليس الحكم على الشيء فرع عن تصوّره؟ فمتى أتيحت لكم الفرصة لتجمعوا كل ما يتعلق بهذه الأزمة أو تلك؟ وما المصادر المعتمدة عندكم؟ أليس معيباً أن يكون مستند هذه الفتاوى والبيانات ما يُنشر على الشاشات، وما تلوكه الألسنة من الدعايات والإشاعات؟ ويا ليتهم يتابعون كل ما يُنشر، يجمعون ويحللون ويستنتجون، لا، إنهم حقيقة يتأثرون بآخر معلومة وآخر نشرة أخبار، وآخر حكاية، أو مقولة في مجلس. كنت أحدّث مجموعة من مشايخ أهل السنة في العراق عن قانون «تأمين عراق ما بعد الحرب» الذي أقرّه البرلمان التركي لحماية بغداد، وهو قانون معروف ومنشور، ثم أبطله بعضٌ من قادة أهل السنّة في ذلك الوقت، تفاجأ المشايخ وقال أحدهم: والله أول مرة نسمع بهذا القانون، نعم أول مرة يسمع، لكنه ربما كان جزءاً من الحملة المضادة له، وهو لا يدري!

من المؤسف أن نرى كثيراً من أهل العلم وطلابه وكثيراً من المتديّنين يتورّعون غاية الورع في المسائل الجزئية التي قد لا ينبني عليها ضرر، لكنه يجازف في المسائل التي قد تهدم دولاً، وتهجّر أمماً، وتحرق أرضاً، وتقطع رحماً، والله المستعان.

(المصدر: موقع الأمة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى