مقالاتمقالات مختارة

فتاتان في “سبع سنين”.. ما وراء الحكاية

فتاتان في “سبع سنين”.. ما وراء الحكاية

بقلم حسام شاكر

إنهما فتاتان من وادي النيل، تحملان اسميْن يفيضان بالرمزية؛ هما “إسراء” و”سُنّة”. لكنّ حضورهما في وثائقي “سبع سنين” جاء شائكاً للغاية ومضطرباً، وصادماً تقريباً بالنسبة للمجتمعات العربية، بما عبّر عنه من معضلات اعتقادية ومآزق وجودية وأزمات وجدانية. يواصل هذا المقال، وهو الثاني ضمن ثلاثية موسّعة، الإنصات المستحقّ لبوْحٍ نادر على أريكة الإفصاح المرئية، أدلى به شبّان وشابّات عرب، في عمل “سبع سنين” الذي أنتجته قناة “الجزيرة”، ومعه عمل وثائقي آخر يدور حول حكاية “إسراء” تحديداً عُرِض في نيويورك بالإنجليزية.

وإن أثار وثائقي “في سبع سنين” جدلاً مديداً ومتوقّعاً في الأوساط العربية، واصطفّ على جانبيْه خصوم وأنصار وما بينهما؛ فإنّ “الثلاثية” التي يتوسّطها هذا المقال، تتجاوز مسألة “مع الفيلم أم ضده؟” لصالح معايشة الإفصاح الذي باشرته وجوه العمل الوثائقي، بما منحته من فرص تلصّص استثنائية تقريباً على خصوصياتها الوجدانية؛ تستدعي تأمّلاً وفحصاً، بحثاً عن خيوط ناظمة لشظايا المشاهد ومفرداتها المبعثرة.

يبقى موقف هذه المعالجة المكتوبة، من وجوه العمل جميعاً، أنهم من الشباب العربي الذي يستحقّ إنصاتاً رشيداً لتجاربه الشائكة وسعة أمينة في استيعاب خبراته وهزّاته، ووعياً حصيفاً بأزماته ومآزقه وسط أمواج تعلو به وقد تجنح به بعيداً عن برّ الأمان، دون اختزال الأجيال الجديدة في ملفات مأزومة تمليها الصدمات والضغوط والتحوّلات الجارفة.

شك بالدين وشك بالشك

عرض وثائقي “في سبع سنين” فريقيْن اثنين؛ يُعبِّر أحدهما عن هزّات اعتقادية، ويجسِّد الثاني انزلاقات مسلّحة، ولعلّ المشترك بينهما هو مفعول الصدمات والضغوط التي عصفت بالفريقين، من خلال الوجوه المُستلّة من الحالة المصرية التي شهدت تحوّلات جارفة بدءاً من سنة 2011.

في الفريق الأول من الوجوه يظهر شبّان وفتيات غير مؤمنين بإلحادهم أو باختياراتهم الاعتقادية، وإن استظهر بعضهم مقولات اعتقادية تشي للوهلة الأولى بقناعة راسخة لا يرقى إليها شكّ. تتجلّى حالة الحيرة، مثلاً، لدى الفتاة “سُنّة” التي وجدت ذاتها في وسط يتلقّى إرشادات دينية صارمة، واختارت في ما سبق ستر بدنها ووجهها بالكامل فتحرّكت في مجتمعها بالنقاب مثل نساء وفتيات غيرها. تظهر لدى هذه الفتاة الحائرة تحوّلات التلقين والتلقِّي عبر أجيال تفصل بينها هوّة باتت سحيقة. كانت “سُنّة” تتلقى الإرشاد المرئيّ من مشاهير المحسوبين على الحالة “السلفية” في مصر، وانتظمت في دروس تحدّثت فيها “شيخة كبيرة”، بتعبيرها. لم يمنح العمل انطباعاً بأنّ “سُنّة” احتشدت مع “ثوّار الميدان”، لكنها مرّت بمواقف صعبة ومآزق تزامنت مع موسم الانقضاض على ميادين الحرية في بلادها.

تحدّثت “سُنّة” في سياق بوْحها عن تحرّش شبّان بها في المواصلات العامّة ذات يوم وإقدامهم على نزع نقابها، تحت تأثير تعبئة طاردت بعض المنتقبات آنذاك (2013)؛ وانهالت عليها شتائم نابية انتهكت كرامتها الإنسانية، مع التشهير بها بزعم أنها من “الأخوان”؛ حسب الوصمة الدعائية الرائجة آنذاك. سردت الفتاة تفاصيل الموقف الصادم الذي اكتشفت معه أنّ التستّر الكامل لم يحقِّق لها وَعد الحماية الذي توقّعته منه، بناءً على ما فهمته من الدروس الإرشادية، فما تمّ استهدافها إلاّ لأنها منتقبة، حسب استنتاجها.

أتى الموقف الصادم على وعي هشّ وشخصية حائرة بما أفضى بها إلى التخلّي عن هيئتها السابقة وإلى تضعضُع معتقدها أيضاً؛ دون يقين بوجهة بديلة. خلال ذلك كان رموز التوجيه والإرشاد الذين استحوذوا على وَعيِها يتساقطون تباعاً من عيون جيلها، وما عادوا يمثِّلون مرجعيةً لها أو لأمثالها. يتكشّف في ثنايا حديث “سُنّة” وجه آخر تماماً للهزّة المعنوية التي عانت منها، فهي مرّت بتجربة اقتران فاشلة تركت ندوباً غائرة في وعيها.

يُفصِح بَوْح الفتاة، بوضوح، عن نزعة إسقاط أزمتها مع طليقها على حالتها الاعتقادية، فتحسُّسها من فوقيّة زوْج تسلّط عليها؛ أفضى بها إلى انجراف وجداني يعبِّر عن حالة رفض “لما يعلوها”. تلتقي هذه الحالة مع ما يتبنّاه بول فيتز Paul C. Vitz مثلاً في انشغاله بـ”سيكولوجية الإلحاد”، إذ افترض أنّ صورة الأب، أو صاحب السلطة المباشرة أو المعنوية، تُرخي ظلالها على تصوِّر شخص ما للربّ تعالى، فينعكس نفوره من هذه السلطة المباشرة على موقفه الاعتقادي. إنّ نظرية “التقصير الأبوي” هذه -بصرف النظر عن مدى الاتفاق معها- تبدو قابلة للفحص في حالة الفتاة “سُنّة” من خلال انعكاس موقفها من الزوج السابق على تصوّرها الاعتقادي.

مع هذه المتلازمات الشاقّة؛ استبدّت الحيْرة بالفتاة وتلاطمت الشكوك في وَعيِها، فتلاحقت تعبيراتٌ منها من قبيل: “مش دايماً أكون عارفة..”، كما أفصحت عن أنها تقتنع بأمر ما أحياناً فقط أو “ساعات وساعات” بتعبيرها، بما يضع المشاهدين إزاء حالة لا يتجلّى فيها الشكّ بالدِّين وحسب؛ وإنما الشكّ بالشكّ أيضاً، أو الشكّ بالذات بالأحرى.

“حكاية بنت اسمها إسراء”

تمنح حالة الشابّة “إسراء” فرصة إنصات أكثر إفاضة من باقي الحالات التي ظهرت في وثائقي “سبع سنين”، فهي تقتطع حصّة أوسع نسبياً من العمل، كما اختصّها وثائقي آخر بالتناول؛ عنوانه “حكاية بنت اسمها إسراء” وهو أسبق زمناً في البثّ من “سبع سنين”، فقد عُرض في نيويورك سنة 2018 تحت عنوان The Story of Esraa في عشرين دقيقة وبثّته “نيويورك تايمز” عبر الشبكة.

تمنح “حكاية بنت اسمها إسراء” صورة مغايرة نسبياً عن ظهورها في “سبع سنين”. يكشف وثائقي نيويورك عن أبعاد أخرى من الواقع، مع إطلالة اجتماعية أعرض مما ظهر في وثائقي “الجزيرة”. يتّضح أنّ الشابّة تحمل موقفاً صارماً للغاية من أسرتها، ومن شقّة الأسرة أيضاً، وهي شقّة ضيِّقة على مَن فيها وتسري ضمنها مدوّنة سلوك جبرية سئمتها الفتاة.

انتقلت “إسراء” بعد انكسار ميادين القاهرة المنتفضة من نضال جماهيري في المجال العام لأجل حرية الشعب وكرامته؛ إلى “نضال” فردي في نطاقات رمزية لأجل حرية فردية منفلتة من النسق المجتمعي. صارت شقّتها البديلة عن محضن أسرتها تعبيراً عن الظفر بصراعها على المساحة المشتركة والخاصّة، وهي الشقّة التي تحاكي نافذة انسلّت عبرها من الحيِّز العام (الميدان والبلد وشواغل الناس) إلى الحيِّز الخاصّ؛ حيث تنتظم مدوّنة سلوك مختلفة بين شبّان وفتيات قرروا العيْش تحت سقف واحد بلا أواصر شرعية وواجهوا صعوبات في إيجاد من يقبل إبرام عقد إيجار معهم.

لخطاب “الإلحاد” دور وظيفي مُلِحّ في هذا المقام؛ فهو يمنح “مشروعية” مطلوبة لهذا الانسلال المُحرّم والمنبوذ بمرجعية النسق المجتمعي، فالعلاقة غير الشرعية بين فتيات وشبّان تصير بهذه الحيلة “شرعية” تقريباً؛ بعد ضرب النظام المركزي السائد ذاته الذي يمنح المشروعية؛ ونفي الشرعية عنه بدعوى الإيمان بـ”الإلحاد”. يجد هذا النزوع العدمي فرصته في الاحتماء بمحفوظات مُعولَمة تستدعيها منظّمة حقوقية تكسب منها “إسراء” خبزها اليومي؛ كما يتضح من فيلم “نيويورك تايمز” (مركز عدالة للحقوق والحريات). مع هذه الشعارات والمحفوظات لا يعود الشعب هو القضية؛ وإنما الفرد وتأكيد حريّته والاعتداد بحقوقه في مواجهة مجتمعه بمرجعيّته وأنظمته.

إنّ الإنجاز الذي تفخر به “إسراء” بعد هذا المنعطف الحادّ في تصوّراتها وسلوكها يتلخّص بقولها: “أنا بنت حرّة، بتعمل اللي هيّ عايزاه”، وتعرض فلسفة حياتها الجديدة بالقول: “الشقّة هي مساحة اللايف ستايل بتاعي، أنا هنا في أمان”. إنْ وجدت “إسراء” في الشقّة المشتركة مع شبّان وفتيات فرصة تجريب “اللايف ستايل” خاصّتها، فإنّ هذا التعبير اللفظي يبدو متّصلاً بخيط رفيع مع إفادة شابّ جامعي آخر هادئ الطباع ظهر في وثائقي “سبع سنين”. شرح الشاب رحلته مع تقلّباته الفكرية والاعتقادية بعد أن كان من مريدي عمرو خالد؛ وأعلن عن انخراطه في مجموعة جديدة بقوله: “دخلت في كومْيونيتي جديد”.

تتشبّع هذه التعبيرات الدارجة بشحنة إيحائية تقتضي الفحص. يُتيح هذا “الكومْيونيتي” عند الشاب كما “اللايف ستايْل” عند الفتاة فرصة لتعريف الذات الفردية بمواصفات مُغايِرة تكاد تبرأ من المجتمع الجامع وهويّته العامّة وثقافته ودينه بالأحرى. تشبّعت هذه المفردات بشحنة الانسلال من الثقافة المحلية أو المروق من النسق المجتمعي التقليدي وطغيان التعبيرات المسلكية واللفظية المُعولَمة ذات المرجعية الغربية في وصف الوجهة الجديدة، ولهذا معناه ومغزاه أيضاً بما يكشف عن مفعول الهالة المرسومة في وعي أجيال الحاضر عن حياة نموذجية مُتصوّرة محسوبة على خارج المكان.

من الصندوق إلى الصندوق

في حالة “إسراء” ما يستبطن نزعةَ انعتاقٍ نفسي ومروقٍ مسلكي من النسق الثقافي والمجتمعي السائد، ويبدو أنّ الفتاة أعادت توجيه خبرتها السابقة في الميادين المنتفضة واستعملتها لاحقاً في وجه المجتمع. انعطفت الشابّة من توجّه مطلبي عام خلال “سنوات الثورة” إلى إلحاح مطلبي فردي بعدها، فانقلبت من المطالبة بـ”حرية الشعب” إلى مقولات “حرية الفرد” وحده؛ بمعزل عن مجتمعه وشعبه.

أعادت “إسراء” تعريف بيت أسرتها الذي نشأت بين جدرانه على أنه مصدر إزعاج وتهديد لها. تشكو الفتاة في العمليْن الوثائقييْن، وبصفة أوضح في “حكاية بنت اسمها إسراء”، من تعنيفٍ استهدفها في شقّة أسرتها الضيِّقة. لم يمنح عمل “في سبع سنين” إطلالة على بيت “إسراء” السابق ولا على أسرتها أو حيِّها الشعبي الذي نشأت فيه، لأسباب تتعلّق بظروف التصوير والمقابلات على الأرجح.

تدور “إسراء” في العمل حول ذاتها أساساً، ولا تُفصِح عن أي مشاعر نحو الأمّ، وإنما تكتفي بالإعراب عن حبِّها لشقيقتها الصغرى. يغيب الأب عن العمليْن الوثائقيين؛ ويتّضح من وثائقي “حكاية بنت اسمها إسراء” أنّ الشقيق الأكبر هو مَن ينهض بالمسؤولية إلى جانب أمِّها، وهي سيدة تبدو طيِّبة للغاية وهادئة الطباع، ومنهمكة في التدبير المنزلي ضمن شقّة ضيِّقة، وتعبِّر في إطلالتها عن إيمان بالله مع فؤاد أقلقته الحسرة من عقوق ابنتها والخشية من عواقب مروقها الاعتقادي.

في خلاصة ما جرى؛ أنّ “إسراء” خرجت من صندوق فألفت ذاتها في صندوق آخر وإن لم تقرّ بذلك. يُظهر وثائقي نيويورك أبعاداً لم يتّسع لها عمل “في سبع سنين”، ومن ذلك أنها انعتقت من شقّة أسرتها الضيِّقة التي تنتظم فيها تراتبية سلطوية لا تشعر أنها تمنحها مساحة مستقلّة، وخاضت “نضالاً” لأجل “فضاء خاصّ” بها في المجتمع؛ تنتصب الشقّةُ المشتركة مع شبّان وفتيات عنواناً له وإن لم تكن خاصّة بها. تتجسّد الشقّة الجديدة في هذا المقام كنايةً عن الحرية المنشودة والاستقلالية المأمولة، لكنّ المشهد يبدو محاكاةً استرجاعية رتيبة للغاية لما شاهدته الفتاة بصفة نمطية متكرِّرة في الشاشات والشبكات والمقاطع الغنائية التي تقصف وعي أجيال العرب، من تمجيد مرئي للحياة الفردية المستقلّة عن المجتمع.

لا تغيب عن الضخّ المرئي الذي يغمر وعي الأجيال العربية وفي العالم الثالث عموماً شققٌ ذات مواصفات مغايرة للواقع غالباً؛ تغيب عنها الأسرة والأواصر الاجتماعية التقليدية وزحام الأطفال؛ فهي شقق مرفّهة ومخصصة للفرد النموذج؛ مطلوب منها أن تعبِّر عن فردانيّته المتضخِّمة وأن تحتوي نزواته العابرة وأن تستوعب حيْرته وتقلّباته وعلاقاته المؤقتة أيضاً؛ مع إمعان في إظهار السرير بصفة مفتعلة تعبيراً عن مفهوم استهلاكي للفردوس الأرضي، تجسِّده مغنيّات يستلقين عليه حسب مقتضيات الإخراج بعد عهد الغناء وقوفاً في زمن الأبيض والأسود. تساهم هذه المواد وما يتضافر معها في تشكيل وعي الأجيال وتطبيع حسّها العام وتوجيه اختياراتها المستقبلية بصفة غير ملحوظة؛ فتتجسّد في الواقع في لبوس “اختيارات ذاتية واعية” يرضخ لها الأفراد بعد حشو أذهانهم بها وتطويع ذائقتهم معها.

متلازمات ذهنية وارتباطات شرطية

تبنّت “إسراء” مقولة “الإلحاد” دون أن تفحص “معتقدها” الجديد؛ فقد طلبت -على الأرجح- متلازماته الذهنية وارتباطاته الشرطية المنعقدة في وعيها، ويبدو أنها أرادت به مناجزة مجتمعها والانسلال بهذا الخيار عبر بابه الخلفي أو نافذته صوب شارع يرمز عندها إلى الحرية. لكنّ الشارع يقع في مدينة تقهر قاطنيها بإلزامهم بمسارات منضبطة يغمرها الزحام، وستتراقص لهم غواية الصورة الاستهلاكية في الواجهات المتلاحقة والإعلانات المرئية لتمنحهم رشفة الوعد بفردوس أرضيّ يفارق واقعهم ويرسم في أعماقهم مواصفات الحياة النموذجية التي ينبغي تقمّصها. يحمل الفتية والفتيات هذه المشاهد الفردوسية المتوهّمة في أذهانهم، وقد تكتشف عين فاحصة كيف أُشرِبوا في قلوبهم فلسفة الزمن الجديد التي تدور حول الأنا ولا تعترف بتجاوز المنطق الأرضي إلى ما يعلوه.

في المحصِّلة تعبِّر حالة “إسراء” ومثيلاتها عن فتاة عالقة بين واقع طارد في سبع سنين من الصدمات والضغوط؛ وأفلاك تجتذب من ينسلّ من نسقه إليها لتدور حول كوكب غربي أو قريباً منه. جرّب بعض هؤلاء التمرّد على السلطة بشعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فسحقت آمالَهم بعجلات الدبابات، ثم أعاد بعضهم تأويل الشعارات المجيدة من حرية شعب وانعتاق أمّة إلى تحرّر فرد من مجتمعه وانسلاله من ثقافة أمّته. نسجت “إسراء” فلسفة التحوّل بسؤال محبوك جاء في العمليْن الوثائقييْن بقولها: كيف لي أن أُطالِب بالحرية في الميادين وأنا لا أعيشها في اختياراتي الشخصية؟

قد تعبِّر أسئلة كهذه عن تبرير ذرائعي – موجّه لإقناع الذات و/أو الآخرين – لتحوّلات جذرية، وهو ما يتجلّى لدى هذه الفتاة تحديداً بصفتها داعية إلحاد تقريباً؛ كما يتّضح ضمناً من وثائقي “حكاية بنت اسمها إسراء”، علاوة على أنها تتحرّك في المجتمع بصفة “ناشطة حقوقية” بمقولات نمطية تدور حول الفرد.

من البراءة إلى الأيديولوجيا

تنقلب “إسراء” من بوْحها “البريء” عن مخاضات تجربتها الذاتية، الذي تستقوي فيه بموقع “الضحية” لتبرير اختياراتها وكسب التعاطف ربّما؛ إلى سردها الموجّه بنزعة أيديولوجية لا يمكن طمسها. تدفع الفتاة بمقولات محبوكة بعناية مثل قولها: “هناك آيات (قرآنية) تحرِّض بشكل واضح على القتل وعلى العنف”. هكذا يتحوّل البوح التلقائي، فجأة، إلى استدعاء محفوظات أيديولوجية. تأتي “إسراء” في ثنايا إطلالاتها بمقولات نمطية نسجتها في الأساس بعض قوى “اللوبي” ومنظّمات العداء للإسلام التي تنتظم في “صناعة الإسلاموفوبيا” حول العالم ويغترف “لوبي الإلحاد” من نتاج بعضها.

 

يبدو مفهوماً أن تدفع “إسراء” باقتباسات منزوعة من سياقها ومجرّدة من أي توضيحات تعزِّز الفهم، فهي ليست مجرّد “فتاة حائرة”، أو لم تعد كذلك بعد أن تصلّبت قناعاتها وترسّخ تصوّرها لدورها الوظيفي وموقعها في الحيِّز العام. صارت الفتاة ناشطة مجتمع مدني تحترف ترويج المقولات من خلال منظمة غير حكومية حسنة التمويل على الأرجح تمنحها فرصة العيش فوق منسوب كثير من بنات جيلها في القاهرة وشباب الميادين المنتفضة سابقاً؛ كما يُستنتَج في الشواهد المعروضة ضمن وثائقي “حكاية بنت اسمها إسراء” (نيويورك).

تذهب “إسراء” في عمل “سبع سنين” إلى ما هو أبعد من ذلك؛ مع قوْل مشفوع بابتسامة عِناد: “أنا كافرة”!. لكن بماذا “كفرت” هذه الفتاة أو غيرها؟ ألم تكفر بمفهوم كريه وساذج قدّمته هي بذاتها عن “الدِّين”، أو لعلّها لاحظَت بعضاً من شواهده في واقع خطابات مسموعة في بيئتها؟ تُسبِغ الفتاة المؤدلجة مفهوماً أحادياً وقسرياً على الدين، بقولها مثلاً: إنّ “الدين يساوي دماً، عنفاً، تطرّفاً، عنصرية”، زاعمة أنّ “الأديان قائمة على هذا؛ وليس الإسلام فقط”.

على هذا المنوال تفرض “إسراء” مفهوماً تأويلياً مُلفّقاً للدِّين كتوطئة ذرائعية لإدانته في “محكمة الأمور المستعجلة” التي عقدتها في ثوانٍ معدودة تمهيداً لجرِّ الدِّين والإيمان إلى المقصلة المعنوية. لكنّ مأزق هذه الخطابات أنها كفيلة بأن ترتدّ على أصحابها في الصميم، لأنّ الأفكار والاتجاهات والقيم العليا جميعاً تمّ استغلالها في الواقع بلا هوادة لسفك الدم وممارسة العنف وشنّ الحرب وجرى توظيفها لشرعنة الغلوّ والتطرف واستغلالها لتسويغ العنصرية في ماضي البشر وحاضرهم. ألا يمكن، بالمنطق ذاته، جرّ العلمانية والحداثة و”ما بعدها”، وحتى “الإلحاد” ذاته، إلى أعواد المشانق المعنوية إن حُمِّلت المسؤولية عن ما اقتُرِف في الماضي والحاضر باسم كل منها؛ أو تحت رايتها أو انبثاقاً عن أفكار ومقولات محسوبة عليها؟

إنّ ترويج المقولات الملفّقة على النحو التعسّفي الذي استسهلته “إسراء” لا يأتي عادةً إلاّ بتسرّع غير مدروس؛ أو بدافع من موقف نفسي جارف مشبّع بهوى أيديولوجي يحشد ذرائعه ومحفوظاته المخصّصة للترويج الجماهيري؛ أو بكليْهما معاً.

في خواتيم العمل تجلس “إسراء” في منتصف الأريكة وحيدة معزولة، بعد انسلالها من بيت أسرتها ونسق مجتمعها وإفصاحها العفوي عن أنها تبكي ليلاً قبل النوم بعد أن فقدت الملاذ الإيماني أو تخلّت عنه بالأحرى، وهي نقطة امتياز لوثائقي “سبع سنين” الذي استنطقها في هذا الشأن، بما أسفر عن أنّ الفتاة لم تجد ما وعدت به ذاتها حقاً من امتيازات الفردوس الأرضي؛ وإن تحصّنت بالمكابرة.

القماش والاعتقاد

من السهل أن يتدجرج القماش إلى رقعة الاعتقاد. قد ينقدح في بعض الأذهان بعد أعمال وثائقية مثل “في سبع سنين” (الجزيرة) أو “حكاية بنت اسمها إسراء” (نيويورك) أنّ مَن تظهر بالتستّر الشرعي إنما فعلت خوْفاً من المجتمع وأنها لا تُصارِح ذاتها بهذه الحقيقة، كما تتحاشى مواجهة ذاتها في المرآة.  إنْ لوحِظ شيء من هذا في الواقع حقاً فإنه لا يقضي بإسباغه وتعميمه، كما لا يسوِّغ ذلك اختصاص اختيارات معيّنة من الملابس بهذه السمة، فالثقافة المجتمعية في أي بيئة كانت لها سلطانها على اختيارات الأفراد من ملابسهم، حتى أنها تضيق ذرعاً بفتاة اختارت التستّر مثلاً في بيئات تنادي بحرية الاختيار الفردية.

ما جرى على أي حال أنّ “إسراء” قرّرت في لحظة مراجعة مع الذات خوْض تحدِّي الوقوف إزاء المرآة، في مشهد أعادت تمثيله بطريقة رمزية بما يحاكي ما روَته في سرديّتها عن اللحظة المفصلية بين “مرحلتيْن” من حياتها؛ تدور حول الهيئة. تشي هذه الفكرة بأنّ الفتاة حوصِرت في “صندوق” مجتمع مُغلَق، ثم انقلبت رهبتها من المجتمع إلى انعتاق منه صوب الفردوس الأرضي المُتخيّل في ذهنها. قرّرت “إسراء” القفز بين وسَطيْن؛ أو التملّص بين عالمْين مفترضيْن بالأحرى؛ لكلٍّ منهما سِمات انتماء مرئيّة في مواصفات اللِّباس ومدوّنة السلوك العرفية التي تنعكس على منطوق القول وطرائق التصرّف. لكنّ الفتاة، التي ظهرت في الفيلميْن الوثائقييْن في حالة “إسراء”، لم تفطن إلى أنّ انعتاقها من الصندوق المُفترض إنّما أدخلها بلا ريْب في صندوق آخر؛ له محدِّداته ومعاييره أيضاً وإن لم تلحَظ ذلك.

يكشف الفيلمان الوثائقيّان عن معضلات قابلة للتشخيص لدى فئات مأزومة، من ذلك حضور مسألة اللباس بصفة مبالغ بها، وهو ما قد يبدو امتداداً لمبالغة أسبق في مركزية مسألة اللباس لدى أطياف مجتمعية محسوبة على التديّن وعلى نقيضه أيضاً؛ وقد تتمظهر الحالة أحياناً كخطوط تماس بين صدوع ثقافية ومجتمعية؛ واقعية أو مفتعلة. أي أنّ الإلحاح على خطاب الفِكاك من التستّر الشرعي كما عبّرت عنه فتاتان محسوبتان على حالة “إلحادية” أو “لا أدرية” أو ما يشبهها (إسراء وسُنّة)؛ قد يعبِّر من هذا الوجه عن استمرارية نمطية لا عن مفارقتها، خاصة لدى الزجّ بمسألة اللباس في سياق اختيارات اعتقادية.

فالتستّر وإن كان من تعاليم الإسلام إلاّ أنه لا يدخل في باب العقائد أساساً، فالامتثال له ليس من قضايا الإيمان والكفر بالأحرى، كما أنّ الالتزام بلباس معيّن أو تركه لم يكن مدار “الأسئلة الوجودية” في الماضي أو الحاضر، وإن عبّر اللباس أحياناً عن موقف أبعد يتّصل بالدِّين عموماً أو إن فُهِم ضمن نظام رمزي مخصوص متعلِّق بالدين والمعتقد.

إنّ الإلحاح على مسألة اللباس يعزِّز الانطباع بأنّ ما تَفاعَل في ذهنيْ الفتاتيْن “إسراء” و”سُنّة” نهض في حقيقته على خيارات هشّة غير متماسكة. يتكثّف الانطباع ذاته عندما تستعرض “إسراء” جانباً من تجربتها؛ بأنها بمثابة كفاح لأجل الخصوصية، ونضال في سبيل انتزاع المساحة الخاصة بها، التي تعبِّر عنها شقّة مستقلّة عن الأسرة، فهو كفاح فردي للانعتاق من نسق اجتماعي له محدِّداته وشروطه. إنّ الشقّة المستقلّة التي استطاعت “إسراء” مع ثلة من رفاقها ورفيقاتها استئجارها بثمن أعلى من المتوسط المجتمعي للإيجارات؛ تبدو في وثائقي “حكاية بنت اسمها إسراء” فسيحة وجيِّدة التجهيز. كان مشهد الدخول إلى الشقة في وثائقي نيويورك مجيداً للغاية مع موسيقى تصويرية محفِّزة، فهو بمثابة لحظة الفوز بالجائزة الكبرى أو “دخول الجنّة”؛ مع تقمّص مسلكي ظاهر استدعى تراكمات ذهنية عن مشاهد “الحياة العصرية” ونموذجها المثالي. وفي هذه الشقة يقع التقيُّد بمدونة سلوك عرفية محسوبة على “الحياة العصرية” ذاتها؛ المُفارِقة للبيئة المصرية أو العربية والإسلامية عموماً.

تأتي مسألة الاعتقاد في هذا السياق مختلطة، بوضوح، بنمط الحياة المنشود، فيكون الفكاك من انتماء ديني أو نسق ثقافي كنايةً عن انفلات من مجتمع بغية الالتحاق بنسَق آخر مُتصوّر. وهي تجربة جسّدتها – خارج الأعمال الوثائقية – الفتاة “رهف” التي قرّرت الفرار من بيت أهلها في جزيرة العرب بإطلاق استغاثة دولية خلال وجودها مع أسرتها في سفر إلى تايلند، فتم استقبالها في كندا بالورود على جناح السرعة. عبّرت “رهف” عن انتماء عجول إلى مجتمع الوجهة الجديدة بمسلكيات مستغربة مرئية للعالم؛ أقدمت عليها قبل أن تبلغ العشرين من العمر. ما حسبها العالم حالة انعتاق اعتقادي أفصحت عنها فتاة؛ انقلبت فجأة إلى سلوكيات استهلاكية واستعراضية باستعمال الصور الذاتية. شرَعت “رهف” في معاقرة النبيذ الأحمر خلال جلوسها على مقعد الدرجة الأولى الذي أقلّها إلى كندا، وسارعت إلى تناول لحم الخنزير المقدّد بعد وصولها، ونشرت صورها الذاتية للبرهنة على انتمائها الثقافي الجديد المتصوّر، رغم أنّ ظاهر قضيّتها كما فهمها العالم ابتداءً كان رغبتها في تغيير المعتقد بما يدرأ عقاب الأسرة؛ لا التمايُز عن مجتمعها الأصلي في السلوك الاستهلاكي للطعام والشراب؛ ثم جاء ظهورها مع قهوة “ستاربكس” في كندا تعبيراً آخر عن تقمّصها هوية معولمة بمرجعية غربية؛ رغم وفرة فروعها في “بلاد الحرمين” لمن يطلبها.

لدى “إسراء” سرديّتها الخاصة. يأتي في إفصاحها أنها لم تَختر هيئة لباسها السابق المتستِّر رغم أنه بدا في الصور التي استعرضتها في وثائقي نيويورك ملوّناً و”عصرياً”، أو بتعبيرها: “أنا ما اخترتش شكلي”. إنها ملاحظة جديرة بالنظر حقاً، لأنها تتّصل بسلوك اللِّباس في المجتمعات عموماً، وهو يقوم عادة في الوسط المجتمعي على نطاق اختيار نسبيّ مقيّد بنطاق التزام نسبيّ أيضاً. فحتى عندما “اختارت” الشابّة ذاتها ملابسها من نمط بديل جعلته محسوباً على “الحرية”؛ فإنّ اختيارها هذا جاء في واقعه مقيّداً باتجاهات التصميم المعروضة في موسم مخصوص دون سواها.

إنّ سردية الحرية في اختيار اللباس لا تتنبّه إلى أنّ المجتمعات “الحديثة” في إقبالها على ما ترتديه تبقى خاضعة بصفة طوعية لما يُقرَّر لها “من فَوْق”، حتى وإن تطلّب الأمر تمزيق الثياب أو شراءها خِرَقاً بالية. يستحوذ على هذه المرجعية الفوقية أرباب التصميم والمُمسكون بالسوق، ويجد الانصياع فرصته في الحالة الجماهيرية المتكيِّفة مع السوق؛ بما يغري بالالتحاق بها والتكالب عليها بموجب نزعة الإمّعيّة أو “سلوك القطيع” بالمفهوم الاجتماعي، فيحصل انقياد طوعي للاتِّجاه المقرّر بلا نقاش. قد يُعَدّ الخروج عن الخطوط المرسومة مخالَفةً معنوية مُستنكَرة رمزياً؛ كأن يظهر أحدهم بملابس محسوبة على اتجاهات التصميم في عقود خلت مثلاً.

وإن كان هامش اختيار الهيئة متحقِّقاً بصفة نسبية في حالة السفور؛ فإنه مُتاح بأقدار نسبية أيضاً في حالة التستّر؛ فلا يأتي التستّر على نمط واحد في الشكل أساساً؛ وهو ما يتّضح في فوارق اللباس المتستِّر -في زمن مضى- بين “إسراء” و”سُنّة” مثلاً، فالثانية كانت منتقبة والأولى حرصت على التزيّن أيام تغطية شعرها، كما قالت في وثائقي نيويورك الذي استعرضت فيه المساحيق التي كانت تملأ أدراجها آنذاك.

إعادة تعريف الملحمة

يحفل الوثائقيّان بتعبيرات رمزية ويكتنزان فرصاً للإسقاطات المحتملة والتأويلات المشروعة. نكتشف أنّ “إسراء” أعادت، مثلاً، تعريف ملحمتها خلال سنوات التحوّل؛ من الميدان إلى الشقة، ومن شعار هوى جاء فيه “الشعب يريد إسقاط النظام” إلى التباهي بنفي خالقها والانسلال من أسرتها والتمايُز عن مجتمعها، أو هكذا تقريباً؛ مع إسباغ شحنة نضالية متوهّمة على هذه الانعطافة.

لكنّ شخصية “إسراء” الوديعة في وثائقي “الجزيرة” تكشف في بعض جوانب وثائقي نيويورك عن جوانب مفاجئة وخشنة نسبياً؛ بما في ذلك تعبيرات مخلّة بالحياء؛ بما يقتضي التنبّه عند المشاهدة؛ وبما يستدعي التفكّر في الحالة وثقافة وسطها الجديد. رغم كل ما سبق؛ لم ينضب مخزون البوْح الذي أدلى به شبّان وشابات على أريكة الإفصاح، وهو ما سيفضي بنا إلى مقالة تالية وأخيرة؛ من ثلاثية مكرّسة لموضوع يستحق الإنصات بعناية والفهم بدراية؛ بما يستوعب سنين سبع أو أكثر.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى