غلمان الاستبداد.. المعارضة أفيون الثورة
بقلم نور الدين قدور رافع
برغم القهر والحرمان، يتشكل حراك شعبي يطالب بالعصيان، بالخروج إلى الشارع وملء الميدان، بدفع الأجساد بوجه الطغيان، برغم الخوف تتبدى أساسات الفرعون كلما صدحت حناجر الشعوب تطالب بالأمان، بالحرية التي هزت مضاجع ممالك باركتها دولارات التطبيع؛ وإلى يومنا هذا يجلس على عرش الاستبداد ملوك وحكام تجري عليهم سنن الله قدرا، مظهرة لنا سبب الهوان الذي أصاب هذه الأمة.
هو الملك الذي يفعل بالإنسان ما لا تفعله الأشياء، هي الرغبة بالتملّك التي تجعل من الحلم معبودا ومن الإنسان إلها، كيف لنا أن نتحرر وما زالت أفئدتنا تستحوذ عليها الأشياء قهرا؟ أما آن لنا أن نتخلص من رغباتنا كي نمنح عالمنا السّلام الأبدي؟ كنا لنفعل ذلك لولا أنّ العقل مربط أمر الحياة، احتكم إلى هواه فاقتاده سجينا، ولربما كان الهوى ملكا فارتضى بالأشياء أحلاما؛ والغني من وسع أمره الخلق فسارع في تحكيم العقل ليحفظ للملك عاقبته، وليرفع الشبهة عن عرشه فلا يرومه الفساد كقول ملكة سبأ.
ولمّا كان أمر النّاس محشور بين يدي الحاكم وجب اتخاذ من الرعية خدما ومن العقلاء ملأ، لتنطلق أفواه برفع القول أو ستر العتاب خيفة من الضرر، كقول ملأ فرعون عن موسى، ولمّا كان خلق الإنسان في ابتداء أمره ناقصا، كانت به شهوة التملك جبلة تلوح به نحو الطغيان، وتهوي به من مراتب الهدى إلى منازل البأس ودروب الأسلحة، من أجل ذلك اتخذ من الجند حصنا يحفظ به نظام ملكه، وغلمانا يسارعون في خدمته.
وقد نشأت الخليقة على الأضداد، فالصبور لا يطعم صبره حتى يجزع، والطغيان صفة لازمة للإنسان قديمة، وهي من كشوف النّفس عند اقتضاء مرادها، فمتى استوفى الهوى رغبته برّر للنفس فعلتها، وهنا وجب الإمعان جيدا لتلك البواعث التي تظهر تباعا، فالاعتراف بالذنب لا يتجلى بصورته إلا إذا حجب العقل عن الشيء، فهو _العقل_ يملك مفاتيح فهم الأشياء في صرف معناها الحقيقي عن سبب نشأتها وأوجه التكليف بها، ليصبح الاعتراف خطيئة ينجم عنها ضرر لا يمكن جبره، وهذا أكثر الناس فاعلون له.
لذلك يبقى الملك كصورة للقهر والخوف والطغيان، صفة تلازم الإنسان إلى انتهاء الخليقة، فبه تقام الملل أو تسقط، وفيه تنحر الرقاب وتشطط؛ تأتي السياسة والاقتصاد ضمن قواعد لعبة الملك، فالسياسة فن القدر المستطاع/الممكن، وأما الاقتصاد فهو سنام الملك، وبين هاتين الضروراتين يكمن جوهر البقاء على سدة الحكم، فلولا الملأ لتنحى الفرعون عن صرحه، ولولا دولارات الغرب وآبار العرب لفرّ العديد من أشباه بن علي، ولكن؛ في حالات كثيرة وعبر أزمنة مختلفة استطاع الحاكم خلق تماثل لنظام استمرارية الاستبداد، عن طريق السيطرة على مؤسسات الملكية العامة لنهب ثروات الأمم وافقار شعوبها، من أجل ذلك تم اختراق تمثيلات اعتبرها الكثيرون اللبنة الأولى لإسقاط نظم الاستبداد، تعي جيدا تلك الأوساط أنّ مجرّد جوهر الخلاف مع المستبد هو تقاسم مشيئته، ومشيئة الطاغية مطلقة يقع منها السداد/الانحراف، لذلك كثر الحجّاب وحمّالوا الأوجه، فمن نعارض ولم وعلى ماذا!؟
في هذا السّياق وللإجابة على السؤال، لا بد من الانتقال إلى زمننا المعاصر، الذي شهد حركات تحرر مختلفة الرؤى، بل ويصعب الحكم عليها من زاوية محددة، حتى وإذا كان العرض مبهرا ومبهجا داخل مجمع كلونيالي يسيطر بدوره على المقدرات الثقافية لتلك الفئة، لم تختلف نظم الحكم كثيرا، كان ملكا ومازال، وإنّما تغيرت الأدوات في الاستماتة على الحكم، منحت الديمقراطية _وهي أداة حضارية تمنح الإنسان حيزا أكثر منه صوتا يوضع في صناديق مصفوفة_ شرعية للممارسات القانونية المنافية لمبدأ التداول على السّلطة.
قامت الحركات الشعبية بخلق نوع من المعارضة السياسية التي نشأ بعضها ضمن العمل العسكري زمن التحرر الاستعماري، كان اللانتقال من عسكرة القيم إلى خصخصة السياسيين أحد أهم النّشاطات التي قامت بها المجموعة الدولية المتمثلة بسلوك الهيمنة المتجدد، فمنذ أن خرجت الدّول العربية من رحم الاستبداد الكلونيالي بقيت تتخبط في أتون الصراعات الإثنية وعصبيات التخلف وعنف الإرهاب، ولأكثر من عشرين عاما ظلّت شعوب المنطقة تنشد أغنية الاستغلال، وهي بعد ترتشح الذل والهوان، وكان بكل فصل فصيل يتمثل معارضة الغريب للحكم، بغية سلب الشعوب حق تمثيلها السياسي، وبشكل سلمي حلّ الربيع العربي كزلزال أصاب أساسات الإنتاج المعرفي الذي ظل لعقود طويلة يبحث له عن الحلول الإنسانية، وعن واقع اجتماعي يكفل حق المواطنة والعيش الكريم، ونبذ العنف وتفعيل سياسة الحوار للانخراط في الركب الحضاري.
ظل الغرب المنتج لثقافة التنوير والمروّج للحرية من منطلق عولماتي، يغض الطرف عن التجاوزات التي ترتكبها نظم الاستبداد بالعالم، كانوا يتمتلون صورة العدو الحميم، وهو في الأصل أداة للرأسمالية التي فرقت حساباتها الجغرافيا وشوهت الإرث التاريخي؛ لقد استنسخت الدمى_قراطية بعالمنا العربي معارضة مراهقة تتخلى عن قيمها عند أول امتحان أخلاقي، يظهر ذلك جليا بمصر عقب انتخاب محمد مرسى ومن ثم العمل على الإطاحة به بسبب أزمة الإعلان الدستوري، قاد اليسار البرادعي مع حزب النّور السّلفي عملية تمرد ضد ما أسماه بالانقلاب الدستوري داعيا إلى انتخابات مبكرة واستقالة الرئيس محمد مرسي، لم يمر عام على العملية الديمقراطية التي أفرزت فارقا بسيطا بين شفيق ومرسي التي أظهرت حنين التابع للطاغية، بعد الانقلاب ولي عرش مصر حاكم ناب عنه اليسار الذي مكث أشهرا يتحيّن فرص الفرار.
اختلف الوضع كثيرا بليبيا، فالانقسام الذي أسقط جمهورية الفاتح كان يمهّد لخوض التجربة داخل الجغرافيا السّورية، عمل المجلس الوطني الليبي المعارض بشرعنة تدخل النّاتو، متذرعا بهمجية القصف العشوائي للطائرات الحربية النظامية، قتل القذافي وجيء بأشكال متعددة من وجوه المعارضة، لتصبح “الوطنية” كومة مصالح تتقاذفها الحسابات الإقليمية الوظيفية، وبين من يسعى لبلورة صورة تعادي الإسلام السياسي وأخرى تتشبث بمكتسبات ثورة فبراير الشعبية، بقيت مضخات النفط تنتج كل يوم براميل الغفران، بقيت الجزائر حذرة وبعيدة نوعا ما إزاء هذا الاستقطاب المريب لقوى التدخل الأجنبي داعية إلى جمع الفرقاء السياسيين بطاولة وطنية تتجاوز نزعة التملك، داعية الجميع إلى تحكيم الصناديق كمرحلة انتقالية لتفعيل عمل مؤسسات الدولة.
ما حدث بعالمنا العربي من أحداث ومن تجدد حراك السترات الصفراء وانتفاضات النيل هو بمثابة انعطاف ثقافي (تعويم العمل السياسي) للذوات المقهورة، التي سئمت من المرايا التي ترفض صور التعدد
لقد نجت تونس من مأزق العبث السياسي الذي أغرق المعارضة في الصراع التاريخي، أما عن سوريا واليمن وهما الأسوأ وضعا من حيث حقوق الإنسان والفشل الذريع لمنظومة القيم الإنسانية التي تتمسك بها الأمم المتحدة، فقد تحول أمراء الحرب بها وتجار السلاح إلى قادة سياسيين معارضين، كان لهم الدور البارز بصالونات المفاوضات، بدلا من خبراء السياسية والاقتصاد والعمل النقابي، لقد تم وبفضل نظرية “استهلاك الثورة” خلق نوع من الخصوم الرأسمالية، التي سمحت بفتح مجال للاستدانة الأخلاقية كتحفيز لاستمرار العمل الثوري، كما شرّع فائض حسابات المعارضة “مساجلة” المستبد بدلا من مطلب إسقاطه، وبالتزامن مع مؤتمرات التسليح والتدفق المالي كانت خطابات الاضطهاد تستنزف قيم الاستيعاب السياسي كي تحوّله إلى عمل عسكري محض.
إنّ عملية رد الفعل العنيفة بين أطراف الصراع داخل سوريا، تمثل من منظور مؤسساتي استنزافا للأداء السياسي لثقافة “بدنا شوية حرية” المعارضة الما بعد الكلونيالية؛ وإذا كانت فرنسا بحجمها الحضاري تواجه حركات تمرد شعبية تكافح للخروج من قوقعة الخطابات السياسية بين دعوة رئيس الاتحاد الشعبي الجمهوري الفرنسي لعزل الرئيس إيمانويل ماكرون أو اجراء استفتاء شعبي حول سياسات البيئة والضريبة، فإنّ غلمان الاستبداد تسعى جاهدة للمساهمة في وضع مقتراحات وتقديم خدمات ثقافية تقتفي أثر الدراسات التي تقوم بها مخابرها، وإذا كان الربيع العربي بمآلاته المخيفة لم يظهر إلا عنفا بين أطراف الصراع الداخلي كما يصورها ذوو التفعيلات الموزونة، فإنّ دور الشعوب هو ممارسة تعويم التمثيل السياسي داخل مؤسسات النظم المستبدة، لا عملا ثوريا تتهافت عليه غلمان الظهيرة كي تقدّمه قرابين للطاغية.
ما حدث بعالمنا العربي من أحداث ومن تجدد حراك السترات الصفراء وانتفاضات النيل _التي لم يتعلم ساستها بعد أنّ بالإمكان تجنيب بلدانهم الاحتقانات السياسة بالمسارعة إلى إجراء استفتاء أو عزل المستبد أو انتخابات مبكرة كما دعت إليه (اليمين/اليسار) المتطرف بفرنسا_ هو بمثابة انعطاف ثقافي (تعويم العمل السياسي) للذوات المقهورة، التي سئمت من المرايا التي ترفض صور التعدد، المعارضة التي تقف بالجهة المقابلة من النظام، وإذا كان الملك أولى بذور الصراع الطبقي للمجموعة البشرية، فإنّ العمل على الاستلاب/التغلب للأصوات المنسية، والدفع قدما على تمييع المعارضة وجعلها أفيون الثورات والانتفاضات الشعبية المناهضة للاستبداد، يحيلني إلى مشاهد خاشقجية أكثر عنفا وخطورة بعالمنا العربي، بالمقابل يخرج وزير خارجية بريطانيا السيد جيريمي هانت مصرّحا للعالم (الحرّ): أنّ الأسد باق في السّلطة.. للأسف.
(المصدر: مدونات الجزيرة)