غدا تطير العصافير.. الأسباب الحقيقية وراء اعتقال سلمان العودة
بقلم محمد فتوح
“الأشواك في الطريق لا تبرر الوقوف بل تحدو العابرين لأن يسيروا بخطوات حذرة ولو على أطراف أصابعهم، حتى وإن طال المسير”
(سلمان العودة)
بعد خروجه من أراضي المملكة للمرة الأولى في العام 2016 منذ اندلاع الربيع العربي، وذلك عقب وصول الملك سلمان لسدة الحكم، والذي فك حظر السفر عليه، ما لبث سلمان العودة أن عاد لوطنه في يناير 2017، لكن هذه المرة لم تكن عَودةً اختيارية، بل لظرف استثنائي، ظرف توفي على إثره زوجته هلا السياري، وابنه هشام، في حادث مروري أودى بحياتهما، ليعود سلمان العودة، أحد رموز تيار الصحوة تاريخيا في المملكة وصاحب الشعبية العريضة[1]، عاد إلى السعودية محمّلا بأوجاع الفقدان، ومستقبلا عزاءات قطاع عريض من الشعب والعالم أجمع، كما استقباله للتعزيات من قبل العائلة الحاكمة، وأفراد السلطة، كالملك سلمان، ومحمد بن نايف، ومحمد بن سلمان[2].
تعاطف رجالات الحكم الكثيف عقب حادثة عائلة سلمان العودة، لم يلبث أن انقلب جذريا، على الأقل في صورته الظاهرية، وذلك على خلفية وصول بن سلمان إلى ولاية العهد والتحكم في زمام السلطة ومساراتها. إذ وبمجرد وصول ابن سلمان، وجد العودة نفسه ممنوعًا من مغادرة البلاد، منعٌ تصاعد بعدها لاعتقال العودة نفسه، ولتطالب النيابة العامة بإعدامه في قضايا تتصل الإرهاب!
بدأت القصة في ظاهرها، بتغريدة أطلقها العودة في الثامن من سبتمبر عام 2017 بالتزامن مع حصار قطر، حيث غرد العودة على حسابه الشخصي بتويتر، والذي يُجاوز متابعوه 14 مليون متابع، قائلًا “ربنا لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. اللهم ألف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم” في إشارة إلى ما تردد حينها من اتصالات جرت بين الجانبين القطري والسعودي عقب الحصار، والتي تصاعدت التحليلات معها مشيرة لسعي الطرفين للتفاهم تجاه النقاط الخلافية.
على إثر هذه التغريدة، طلبت السلطات السعودية من العودة الحضور لمقر الأمن، وقد اقتادوه بحسب تصريحات ابنه عبد الله العودة معصوب العينين ومقيد اليدين إلى محبسه، قبل أن يتم نقله إلى زنزانة مترين * مترين بسجن الحائر بالرياض، ومنذ ذلك الحين، ابتلعت السجون السعودية سلمان العودة حتى يومنا هذا.
37 تهمة، حصيلة ما وجهته المحكمة الجزائية للدكتور سلمان العودة، إلا أن التهم مثلت في تفاصيلها غرابة أثارت جدلا واسعا لدى المتابعين والنشطاء الحقوقيين. كان أغربها، عدم الدعاء الكافي لوليّ الأمر، وحيازة كتب ليوسف القرضاوي في بيته، بالإضافة إلى الانضمام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والذي يرأسه يوسف القرضاوي، وتأسيس عدد من المنظمات الإسلامية. تهم استحق صاحبها في نظام ابن سلمان أن تطالب النيابة العامة بإعدامه تعزيرًأ ![3]
اتهامات العودة لاقت استهجانا واسعا من أكاديميين وحقوقيين عرب، وأطلقوا هاشتاج #سلمان_العوده_ليس_ارهابياً. حيث يذهب محمد المختار الشنقيطي إلى أن ما يحدث للعودة إنما هو إمعان في المهانة والإذلال بإيعاز من أبوظبي وحاكمها محمد بن زايد. أما أبو يعرب المرزوقي فقد اعتبر ما حدث للعودة “فعلا خسيسا من حثالة الحكام، يحاكمون خيرة نخبهم ويصفق لهم أرذل النخبة من الطبالين في مصر وسوريا والسعودية والإمارات”[4]، وقد نشط حساب معتقلي الرأي في الحديث عن العودة وتفنيد التهم الموجهة إليه!
قصة الاعتقال التي تلا ذكرها في بداية التقرير تطرح سؤالا جوهريا في محاولة فهم المشهد، إذ يبدو النظر للجذور والسياق ذا أهمية لفهم معطيات ما يتشكل من صورة، فهل يتمثل الموقف في حقيقته عدم قدرة نظام مستبد على تحمل تغريدة فيها من العمومية ما فيها، مشعلة فتيل هذا التعسف تجاه العودة، أم أن هذا فقط ما يبدو على السطح، وفي الكواليس الكثير مما يُحكى؟!
لماذا العودة؟
“الثورة سفينة فيها البر والفاجر، وخرقها هلاك لهم جميعا، ومن خرقها الصراع المبكر على غنائمها ومواقع القيادة فيها!”
(سلمان العودة)
في الثامن عشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016 كان سلمان العودة خارج البلاد بعد منع للسفر استمر طوال فترة الربيع العربي، خرج العودة ذلك التاريخ في لقاء ثنائي مع الشيخ يوسف القرضاوي. أدار العودة النقاش، والذي لم يتطرقا فيه إلى سجالات فقهية أو نقاشات مفاهيمية، وإنما اقتصر حيزه على الشيخ وصحته وأهل بيته وذكرياته ورفاقه وقضائه لوقته في المكتبة، وإسدائه لبعض النصائح للمشاهدين، نقاشٌ بدا مألوفا بين رجلين يعرف كل منهما الآخر عن قُرب.
لقاء لا يحمل الكثير في ظاهره، بيد أن له من الرمزيات الشيء الكثير، فالعودة هو أحد المرشحين لخلافة القرضاوي في رمزيته “الوسطية” في العالم الإسلامي. حيث حرص العودة على الانتساب لـ “مدرسة الوسطية” التي عُرف بها القرضاوي، وهو ما يُعدّ مستغربا في الأوساط السعودية، ففي ملتقى تلاميذ القرضاوي ظهر العودة بجوار المغربي أحمد الريسوني، والسوداني عصام البشير، وغيرهم، ليلقي كلمة يثمّن فيها ويفخر بمكانة القرضاوي كأستاذ وسماها “القرضاوي الذي عرفت” ويبدأها بقصيدة القرضاوي:
“ثار القريض بخاطري فدعوني
أفضي لكم بفجائعي وشجوني
فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى
والشعر عودي يوم عزف لحوني”
إضافة إلى هذا الانتساب الشرفي، يشغل العودة منصب مساعد الأمين “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” والذي يرأسه القرضاوي، ويعتبر الاتحاد الأشهر صيتا في العالم الإسلامي، والأكثر عددا من حيث الأعضاء والبلدان، وله مواقفه التي تخص حركة الشعوب الإسلامية. وهو ما مثّل بدوره قلقا بالغا للمملكة، التي لا تتحمل حكومتها أي معارضة. منصب مثل بحسب العالم المغربي أحمد الريسوني، أنه من أسباب سجن العودة، وذلك لدوره الإقليمي والعابر للحدود، في علاقاته بالقرضاوي والاتحاد وتردده على تركيا، ودعوته للصلح مع قطر![5]
عمل العودة كذلك على تأسيس عدد من المؤسسات والمراكز البحثية في العلوم المختلفة التي لم تحمل اسمه، لتتحول من الشخص إلى الفكرة، كان على رأسها مؤسسة الإسلام اليوم والتي ترأسها لمدة عشرة أعوام ثم ترك رئاستها لصديقه عبد العزيز الطريري، وأسس كذلك منظمة النصرة العالمية في الكويت للتعريف برسول الله، والتي جاء تأسيسها عقب أزمة الرسوم المسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان تأسيسه لهذه المنظمة، إحدى التهم الـ37 التي وُجّهت إليه في المملكة!
لا يتوقف دور العودة عند هذا الحد، بل يتعدى البلاد العربية ليصل إلى المؤسسات الإسلامية في أوروبا، وعلى الرأس منها مجلس الإفتاء الأوروبي بصفته عضوا فيه.
“جوّع شعبك يأكلك! ثورة الجياع منذ عهد مصر الأولى ودول أوروبا إلى تونس، وأهم وجبة تُقدم للشعوب هي الحرية؛ فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”
(سلمان العودة)
في ثمانينيات القرن الماضي كان العودة قائدا لتيار الصحوة السعودي مع أسماء أخرى مثل سفر الحوالي وناصر العمر، بيد أن اسم العودة ما زال له الصدى الأوسع في الشارع العربي. مع صعود جيل الصحوة، كانت خُطبة واحدة من العودة حينها كفيلة بهزّ أرجاء المملكة، وما لبث أن اعتُقل العودة ورفاقه إبان حرب الخليج لسنوات خمس ليخرج بعدها العودة، قائلا عن تجربة السجن: “خمس سنوات من الاعتكاف عزلتني عن تأثير الجموع، منحتني الحرية، نقلتني من الضيق إلى السعة، ومن الانكفاء إلى الحياة، نقلتني لرؤية الوجوه الناصعة وقراءة الجانب الإيجابي لدى الآخرين”. وقد أكثر العودة من ذكر السجن وتجربته في كتبه ومحاضراته وتغريداته، إذ إن السجن -فيما يبدو- قد ترك بصماته على شخصية العودة، واعتبره العودة منحة في صورة محنة، فقد وصف تجربة السجن بقوله: “تجربة جميلة، نرجو ألا تكرر”.
في السجن، راجع العودة كثيرا من المفاهيم التي دعا إليها قبل سجنه، وحين خرج، واجه شريحة واسعة من تياره القديم بهذه المراجعات، يقول العودة: “عندما خرجت، خرجت لأجد الشريحة تغيرت نحو العنف، وكان لا بد من الوضوح معها حتى لو أدى ذلك إلى أن أخسرها”. الأمر الذي جعل البعض يرى أن مراجعات العودة جادة وحقيقية، وقد آلت في النهاية إلى تركه تيار الصحوة، واقترابه شيئا فشيئا إلى جموع المسلمين الواسعة، دون فقدان الفاعلية في الحركة الإسلامية، يقول تركي الدخيل: “لقد اختار العودة بمنهجه الجديد الانحياز إلى جمهور المسلمين على جمهور الإسلاميين، فكسب شريحة عريضة من الفريق الأول، ولم يفقد كثيرا الفريق الثاني”[7].
طوّر العودة مفاهيمه من خلال برنامجه “حجر الزاوية” والذي بثه عبر قناة “mbc”، مثل ظهور العودة عبر الشاشة، نقلة نوعية بخروج شيخ له رمزية تاريخية وحضور اجتماعي على قناة منوعات، وهو ما “وافق هوى في نفس العودة، لينفتح على جمهور جديد واسع النطاق”.
في السياق ذاته، كتب تركي الدخيل رسالته للدكتوراة بعنوان “سلمان العودة من السجن إلى التنوير”، وجعلها مُنصبّة نحو رصد نشاط العودة في المجتمع السعودي عبر الموضوعات الاجتماعية الشائكة ذات البُعد الديني التي فتحها ببرنامجه “حجر الزاوية”، واختلاف مضامين خطابه قبل السجن وبعده، كمفهوم الجهاد واتساع نطاقه ليشمل الجهاد السياسي والاجتماعي كذلك، والرؤية للإصلاح، ومفهوم الإرهاب، والموقف من التيارات والمذاهب الأخرى، والموقف من المرأة، وغيرها من الموضوعات التي حرص العودة على معالجتها. نقاشات جعلت العودة يتحول تدريجيا من شيخ معارض للسلطة على الدوام إلى شيخ ذي أبعاد اجتماعية تسير بصورة موازية مع اتجاه السلطة في عدد من القضايا وتختلف في أُخر، لتخف بذلك حدة العداء القديم بين العودة والنظام، دون الاقتراب الذي يصل لحد الذوبان، وليتنقل العودة من المشهد المحلي، مُكثِّفا حضوره على الصعيد العالمي.
“لا يوجد ما يدعو إلى تشجيع الثورة بذاتها؛ فهي محفوفة بالمخاطر، ولكنها تأتي مثل قَدرٍ لا يُرد حينما يتعذر الإصلاح الجذري الجاد”
(سلمان العودة)
في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول قامت ثورة الياسمين بتونس لتلقى توجسا ورهبة واسعة من ممالك الخليج، وقبل انطلاق الثورة المصرية كان سلمان العودة في برنامجه “حجر الزاوية” يتحدث عن أن تونس اليوم أصبحت نموذجا للتغيير الذي انطلق ولن يتوقف، وأن على المسؤولين أن يستوعبوا شعوبهم، فالناس “يحتاجون إلى الاعتراف بذواتهم واحترام شخصياتهم، وتمكينهم من التعبير عن مشاعرهم وتطلعاتهم دون تعسف أو إهدار ما لم تفض إلى تعدٍّ أو ظلم”.
هذا الانحياز الواضح للشعوب يبدو غير مألوف على المملكة، التي اعتادت دوما على ثقافة الصوت الواحد. بيد أن هذه الجرأة لم تكن غريبة على قائد تاريخي واعِ بالمفاهيم الإسلامية فيما يتصل بالشأن العام مثل سلمان العودة، وهو ما تطلب -بحسب سياسات المملكة- التدخل السريع. ففي اليوم التالي تم إيقاف برنامج العودة ومُنع بثه من قنوات “mbc”، ليقرر العودة حينها الخروج من المملكة باتجاه مصر لبث مفاهيمه من هناك، ليواصل رحلته في مناصرة الشعوب ومواكبة الربيع العربي المشتعل آنذاك في مصر، لكن العودة فُوجئ في المطار بأن اسمه قد أُدرج في قوائم الممنوعين من السفر من قبل السلطات السعودية.
بهذا المشهد، أعاد الربيع العربي بؤرة التوتر بين سلمان العودة حتى في حلّته الجديدة، حيث ساند سلمان الشعوب في انتفاضتها. لم يمنع القرار سلمان العودة من إيجاد الوسائل المتاحة لإيصال أفكاره لأوسع مدى، ليبدأ بإصدار عدد من المؤلفات عن الثورات والعنف والحريات، وليتجه نحو المنصات الشبابية، ليصبح أحد المؤثرين الأكثر شعبية على منصات التواصل الاجتماعي.
في شهر مارس 2017، خرج سلمان العودة على جمهوره بمقطع فيديو يبين فيه رؤيا وصفها ب”الجميلة”، والتي رأى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكأنه بعث من قبره مع الصحابة، منهم أبو بكر وعمر، في مكة المكرمة، ويصف العودة المشهد بجلوسه معهم في حلقة، وأنه وقف فيها مع الرسول، سائلا إياه عدة أسئلة منها ثلاثة يتذكرها، ليجيبه الرسول عنها بوضوح فهمه جيدا، ثم عاد إليه طالبا منه أن يعيد تسجيل هذه الأجوبة والفتاوى ساعيا لتأصيلها وكتابتها بهدف استفادة الناس منها وتوحيدهم على سنته وطريقته بعدما ذهبوا في طرق شتى، فوافقه الرسول وطلب منه مراجعته بعد ذلك، ليتأكد من فحواها.
في ذات الرؤيا، كان العودة يخاطب نفسه، بأن بعث الرسول والصحابة في مكة، مؤذن بزوال دولة الصهاينة ورحيلها، وانتصار المؤمنين في فلسطين وغيرها من البلدان.
بهذا انتهت الرؤيا التي قصها العودة على متابعيه، والتي حملت في مضامينها رمزيات عدة لا تحتاج لكثير تفسير أو توضيح، وهو ما أدى بحسب عدد من المتابعين لتزايد الحنق السلطوي تجاه العودة.
“”فيسبوك” و”تويتر”.. “جمهورية المهمَّشين” وقد تنبأت بدورهما الاجتماعي والسياسي الكبير”
(سلمان العودة)
يمتلك العودة حسابات على جميع وسائل التواصل الاجتماعي، وهو دائم الحضور عليها. ففي تويتر يتجاوز عدد متابعيه 14 مليون متابع، أما فيسبوك فله من الأتباع ما يربو على سبعة ملايين. ولا يتوانى العودة في مشاركة جمهوره بمقاطع شخصية، أو خاطرة خطرت له وهو مع أسرته أو في بيته أو أثناء أسفاره المتعددة، أو بمشاركته لإحدى صوره مع صغاره وأولاده وهو يلعب معهم!
ورغم مجاوزة العودة للستين من العمر، فإن حضوره في أوساط الشباب ومحافلهم الحقيقية والواقعية متصل على الدوام، لا ينقطع عنهم، وهو ما دفع البعض ليسأله: ما سر حب الشباب العميق لسلمان العودة؟! ليجيب العودة: “أحبهم ولا أستغرب أن يبادلوني الشعور، فالقلوب شواهد، وأنا وإن كنت تجاوزت هذه المرحلة عمريا إلا أنني أنتمي إليها عاطفيا ووجدانيا وعمليا، فهم يحيطون بي في حياتي وبرامجي وعلاقاتي ومشاعري، وهمومهم تفترش ذاكرتي، وأحرص على تحديث نفسي دائما بمتابعة تحولاتهم ومستجداتهم في عالم التقنية أو في عالم الفكر أو حتى اللغة. وكل قنواتي مفتوحة معهم، عندي رقم هاتف محمول واحد أتلقى عليه الرسائل والاتصالات، وكذلك الأمر عبر حسابي في تويتر”[8].
وجد العودة في مواقع التواصل الاجتماعي متنفسا جديدا له بعيدا عن الفضائيات والمجلات والكتب، فخاطب الشباب بلغتهم، واقترب من واقعهم، وناقش مشاكلهم، وهو ما جعل منه رمزا في محافلهم ونقاشاتهم. في تغريدات العودة، لا يتحدث كثيرا عن السياسة، ولا يُطنب في الفوائد الشرعية كما الحال في كتبه ومحاضراته القديمة، إنما يستخدم العودة منصات التواصل الاجتماعي بلغة بسيطة، قريبة من الشباب واهتماماتهم، حيث يتحدث عن الحب والبوح والجمال والأمل والتفاؤل والمستقبل والإبداع والفشل، ولا يفوته حظه من تعليقات لا تُخطئ العيان على الشأن العام والأمة الإسلامية وما يتصل بها.
يعتبر العودة هذا الانفتاح الذي حدث له فيما يخص وسائل التواصل والتلاقي الإلكتروني مع الناس نمطا للتغير الدعوي وتطوير الأفكار وبثها، فالعودة كثيرا ما يُشجع على تجويد الأفكار وإعادة النظر فيها، وعدم الجمود عند مرحلة واحدة، يقول العودة في نَصّ مرئي بثه: “نعم أتغير، لأنني لو قلت في الأربعين ما كنت أردده في العشرين فهذا يعني ضياع عشرين سنة من عمري سدى، والشجاعة أن يفتح الفقيه الأبواب القابلة للفتح بدلا من أن ينتظر أن يكسرها الآخرون”.
كل ذلك يجعل للعودة من المكانة والرمزية ما يفوق قوة المملكة على تحمله طليقا في ظل التغيرات التي تشهدها منذ صعود ابن سلمان ودوره الإقليمي في العداء مع الإسلام السياسي وتسوية القضية الفلسطينية!
(لماذا لا يدافع العودة عن نفسه؟)
“يارب.. وأنْتَ الكبيرُ في عليائِكَ وأنا الهَباءةُ في كونِكَ؛ فَكُنْ أنتَ الصَّاحب في سَفرِ الحياة”
(سلمان العودة)
قدّم العودة عددا من البرامج المرئية بعد الثورات، كان أشهرها “وَسم”، ذو الحلقات القصيرة، والذي حقق أكثر من 22 مليون مشاهدة على مدار 10 حلقات منه! حلقات سلمان العشر أفسحت للرجل شعبية ممتدة في الخليج تحديدا، فالعودة الذي مُنع من السفر ومُنعت برامجه في التلفزيون السعودي، طوّر تقنيته في مخاطبة الجماهير عبر هاتفه ليكون له الأثر الأكبر بين الدعاة والرموز.
تميزت حلقات “وسم” بجمعها بين الذاتي والاجتماعي والسياسي، فبداية من “نعم أتغير!” والتي يؤكد فيها العودة: “عليّ أن أواصل المسير ولو عثرت، نعم أعثر، وأعثر، ولكني أحاول النهوض سريعا”، إلى “آسف” حيث يؤكد العودة غياب ثقافة الاعتذار في الوطن العربي على الرغم من حضورها عند ساسة الغرب، ثم يطوف العودة في رحلة طويلة بين “مثلك أنا” عن العنصرية: “تؤذيني نظرة دونية وعطف مبتذل وسلامٌ”، ثم حلقة “تعرف أحد” والتي تحدث فيها عن المحسوبية والوساطة في هضم حقوق الناس، وصولا إلى “من أين لك هذا” وفتح ملفات مكاشفة المسؤولين في الدولة، ثم يأخذ المشاهد إلى عالم الثورة السورية في “لا تقصص وجعك”، ليختم برنامجه بحلقة “أكملي الحكاية.. كانت الحكاية عن الجمال” حيث يرثي زوجه “هلا السياري” ويودعها في مشهد مفعم بالإخلاص وليكتب لها: “حين رحلتِ، أدركتُ أنني لا أستحقك”.
هذا الطور الجديد الذي تركه العودة في برامجه، شهدته أيضا كُتبه، فمن “طفولة قلب” لـ “زنزانة” و”شكرا أيها الأعداء” حتى “بناتي” و”لو كنت طيرا” و”أسئلة الثورة” خاطب العودة الشباب بلغتهم، ونزل لإدراكهم، ولم يترفع عليهم كأديب ومفكر إسلامي أو شيخ وداعية وإنما كرجل من الناس يشغله ما يشغلهم ويهمه ما يهمهم، فغزا عالمهم، واستمال قلوبهم، وكسب ودهم!
“فأنتم من علمني كيف أستمع إلى النقد والنقد الجارح دون ارتباك، وكيف أمضي في طريقي دون تردد، ولو سمعت من القول ما لا يَجْمُل ولا يليق”
(سلمان العودة)
لم يستطع ابن سلمان في ظل التحديث الذي يقوم به في المملكة تحمل مخالفيه بالرأي، وإن كانوا بعيدين عن العنف والصدام المباشر مع الدولة. على الرأس من هؤلاء كان سلمان العودة، الذي يمتلك مؤهلات ليست لغيره، من رمزيته التاريخية الكبيرة، وانفتاحه على العالم الإسلامي وانتمائه إلى تيار عريض يوقره ويسمع له في الوطن العربي والإسلامي. كل ذلك جعل ابن سلمان يبدأ حملة اعتقالات سبتمبر/أيلول 2017 بسلمان العودة، مُتبعا إياه بباقي الرفاق، من يُحتمل أن يكونوا معارضين في المشهد السعودي، ففي نظام المملكة الجديد إما أن تُكثف الدعاء لوليّ الأمر، وإما أن يُطالب بإعدامك تعزيرا لتكدير السلم العام!
وفي مرثيته التي بث فيها حزنه لزوجته قائلا ” لم تنتهِ الحكاية.. غدا تطير العصافير”، يبدو حال متابعيه، تجاه من أحبوه، لاهجا بذات الحديث، لا من باب الرثاء، وإنما ترديدا لفكرة تجاوز الغياب، حيث لم تنته الحكاية، فلا بد للعصافير غدا أن تطير.
(المصدر: مدونات الجزيرة)