بقلم أيوب أبسومي
لقد تطاولت جذور العَلمانيّة في الخفاء، وسارت سريان الماء في الأنفاق، وهي الآن تتحسس جذور الإسلام في الأعماق، هدفها الأسمى أن تبترها أو تشد الخناق..
وكان مما كان، من محاولاتها في الطغيان، أن طَمَتْ بها الأمور وعلا بها الزمان، حتى جاوزت قدرها، وعَدَتْ طورها، وركبت داهية إِدًّا، وذلك حين سَخَّرَت بعض شبابها، بوضع لُقَيمات في أفواهها، ليخرجوا علينا بحق ألبسوه رداء الباطل، وبمناهج مسمومة الباطن معسولة الظاهر.. بدعوى: “الدعوة إلى الاجتهاد”..
لماذا خرج الناقمون على الشريعة الإسلامية وأحكامها فجأة، بعد أن كانوا يهاجمون الفقهاء، ليلبسوا أزياءهم الاجتهادية، ويمارسوا أدوارهم الاستنباطية؟!!
ولماذا بعد أن كانوا السباقين لمهاجمة الفقه الإسلامي، اجتهادا وتقليدا، وإقصائه وحصره في ظلمات المساجد، وطرده من قبب التشريع وغرف المحاكم، أصبحوا اليوم دعاة إلى الاجتهاد الفقهي وإعادة النظر في الآي والأحاديث؟!!
هل هو عرقلة لسيرورة جديدة من – الأجندات – المستوردة، أم هو الخوف من الغضب الجماهيري في حالة إسقاط علني للشريعة الإسلامية؟
قبل الرد على دعوى إطلاق صفة الاجتهاد، وتقمصها من رجال الصِّحافة وسكان القصور، حري بنا أن نسرد بعض ضوابط الاجتهاد التي اشترطها علماء الاختصاص من الأصوليين والفقهاء لإطلاق صفة الاجتهاد، حتى يتعاظم في القلب القارئ – وهو يقارن بين المجتهد الحق وبين من يدعي الحق في الاجتهاد – ما راموا إليه من زعزعة ما كان من أحكام قطعية لا تقبل من النقاش لا هادِئَهُ ولا حادَّهُ..
ضوابط الاجتهاد:
يجب على المجتهد أن تتوفر فيه العدالة والأمانة والأهلية، من مؤهلات علمية وعقلية وذهنية، ويجب أن يكون ذكيا نبيها لا غبيا سفيها، كما يجب أن يكون ضابطا لنفسه غير خاضع للهوى ولا للنرفزة العصبية ولا للتعصب المذهبي. ونجمل شروط المجتهد فيما يلي:
أولا: العلم بالوحي، قرآنه وسنته، حتى يجد ما يبني عليه استدلالاته الاجتهادية من الأدلة التي أجمعت الأمة على تقديمها على غيرها.
ثانيا: العلم بلسان العرب، وعلوم اللغة من صرف ونحو واشتقاق وبلاغة، وما تحيله المعاني، وأن يكون دارسا لعلم الدلالات الذي له أثر بالغ في التدقيق في تحديد مراد الشارع المتمثل في الحكم بأصنافه الخمسة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: ” يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه”. ( الرسالة. ص: 48).
قال العلامة الأصولي الحسين بن رشيق المالكي : ” وأن يكون مُحيطًا بشروط ذلك من تقديم ما يجب تقديمه، وتأخير ما يجب تأخيره، عارفًا بدلالة الألفاظ على المعاني، ونسبة إيقاع اللفظ للمعنى وتعيّنه له من جهة الوضع اللغوي أو الشرعي، بحيث يظهر تمكنّه من معرفة وجوه دلالات الألفاظ على المعاني من جهة منطوقها، ومنظومها، وفحواها، ومفهومها، ومعناها، ومعقولها”. ( لباب المحصول 2/711).
ثالثا: أن يكون عالما بمسائل الإجماع، حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه. ( إرشاد الفحول للشوكاني. 2/ 719)
رابعا: أن يكون ذا خبرة عالية بعلم أصول الفقه، لاشتماله على ما تمس الحاجة إليه، وعليه أن يُطَوِّلَ الباع فيه، ويطَّلِعَ على مختصراته ومطولاته، بما تبلغ إليه طاقته، فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد، وأساسه الذي تقوم عليه أركانه. ( إرشاد الفحول. 2/720).
خامسا: أن يكون عالما بعلوم الشريعة، خاصة ما يتعلق بعلوم القرآن والحديث، منها أسباب النـزول والورود، والمتقدم والمتأخر، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والظاهر والمؤوّل، والمجمل والمفسر، والمتواتر والآحاد، والصحيح والضعيف، وأحوال الرواة، والجرح والتعديل، ومواقع الإجماع والاختلاف، والبراءة الأصلية والقياس وشرائطه…
هذه الضوابط هي المعلومة من الاجتهاد بالضرورة، ومن حاز ما ذكرنا أعلاه من العلوم فحري به الاجتهاد، وحري بنا الاتباع، لكن أن يأتي من ترعرع في بيئة غير علمية، حاملا معه لسانا أَلثَغَ لا يكاد يُبِينُ، ليفسر القرآن على غير ما فسره ابن عباس، وعلى غير ما فهمه أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والنووي، والغزالي، وابن تيمية، وغيرهم من الأئمة الأعلام، ممن ولدوا في مكاتب الأصول وماتوا بين ضفاف الحديث، فهذا مما لا يقبله عقلُ عاقِلٍ ولا يرضاه قلبُ صادقٍ..
إن مثل هؤلاء كمثل الذي يقول عن قوله تعالى (عَسَىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا) أن السائحات في الآية من السياحة، وأن سفر المرأة وحدها جائز، بدليل إقرار النص، فهذا إبدال معنى أصلي قديم بمعنى مُحْدَثٍ جديد، إذ حري بمن أراد الاستنباط أن يعلم لسان العرب لأن القرآن نزل به.
إن المسائل التي تصطدم بها رؤوسُ رؤوسِ العَلمانيّة للأسف جاءتهم قطعية، كمسائل الميراث ومسائل الزواج والطلاق، وقضايا المرأة، ومسائل الربا والمعاملات المالية، فأعيتهم النصوص، واستكانوا أمام الْتِفافِ المسلمين حول شريعتهم، فما كان منهم إلا استعمال الحيلة بارتداء جلباب الإفتاء الفضفاض، الذي سرعان ما ينزلق عنهم في كل منبر أَفْتَوْا فيه، لينكشف عوارهم ويظهر عيبهم وجهلهم، لأنهم لم يعملوا بقواعد الاجتهاد وأدواته، وإنما استعملوا قاعدة ” فكر وقل “، فسار تفكيرهم تابعا للهوى، مؤصلا لرؤية الغرب في مساواته الزائفة، وفي تحضره المتباين..
إن الاجتهاد لا يكون إلا تحت ظلال القرآن والسنة، إذ لا تشريع إلا لله، وما الحكم إلا لله، وليس للهوى في التشريع حظ أو نصيب، وفي هذا الصدد يقول أبو إسحق الشاطبي رحمه الله في تعليقه على قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}: فقد حصر الله الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى فلا ثالث لهما، وإذا كان كذلك فهما متضادَّان، وحين تعيّن الحق في الوحي توجّه للهوى ضدّه، فاتّباع الهوى مضاد للوحي. ( الموافقات. 2/129).
أي أن إقصاء النصوص بدعوى تحقيق المصالح في القطعيات أمر مخالف للصواب، ولعل ذريعة الراكبين على هذا المنهج المناقض هي إسقاط عمر رضي الله عنه لنصيب المؤلفة قلوبهم من الزكاة، فَيُردُّ عليهم بأمرين، أولهما متعلق بالمجتهد الذي هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والثاني متعلق بتأويل ما رآه من إسقاط لحق هذا الصنف الوارد في دليل قطعي الثبوت والدلالة.
أولا، من يريد أن يقلد ما قام به عمر عليه أن يكون بمنزلة عمر، فمن هو عمر وهو الذي لا يحتاج إلى تعريف؟ ولكن، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك.” ( رواه مسلم )
وفي صحيح البخاري : أن عليا ترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذاك أني كنت أكثر أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر..
وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره. قالوا ما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين. ( رواه البخاري )
و عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى قال: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه، حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر. قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم. ( رواه البخاري )
وأخرج الطبراني في المعجم الكبير بسنده عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إني لأحسب عمر قد رفع معه يوم مات تسعة أعشار العلم، وإني لأحسب علم عمر لو وضع في كفة الميزان وعلم من بعده لرجح عليه علم عمر.
ويمتاز عمر بعقلية تشريعية ممتازة، وما يشهد لذلك موافقة القرآن الكريم له في مواضع شهيرة، لا يسع المقام لذكرها، ويمتاز باستفاضة وقوفه على حدود الله وشدة ورعه.
ومن يريد أن يقتدي بعمر فعليه بتزكيةٍ كالَّتِي حازها عمر، ورفقةٍ للنبي كالتي ظفر بها عمر.
أما بالنسبة للتأويل الاجتهادي، فنجد سياق الحكم الذي هو جعل سَهمٍ للمؤلفة قلوبهم أتى في زمان كان الناس فيه تحت وطأة الاضطراب وضعف الدولة، وضعف وتيرة دخول الناس إلى الإسلام، فشرع الشارع الحكيم هذا السهم لتحبيب الناس في دين الإسلام، خاصة وأن معظم الناس في ذلك الزمان يعانون الفقر والتهميش، فسن هذا السهم لسد هذه الثغرة، أمَّا وقد اشتدت شوكة المسلمين وتم لهم استقرار الدولة في عصر عمر، أوقف العمل بهذا السهم قياسا على نسخ نصيب ذوي القربى من المغانم، كما نقل إجماع الصحابة في هذه المسألة الإمام النسفي في تعليقه على رسالة الإمام الكرخي ( الأصل 28 ).
وفي هذا الصدد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : “وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم شرعا مُعَلَّقًا بِسببٍ إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أغنى عن التأليف، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه، كما لو فرض أنه عُدِمَ في بعض الأوقات ابن السبيل، والغارم ونحو ذلك.” ( مجموع الفتاوى. ج33/ص94)
إن من يسعى إلى لَيِّ أعناق النصوص ليًّا، وجعل الربا فائدة، والخمر عصيرا، والمساواة في الإرث حقا، لا يسعنا إلا أن نبشرهم بما لا يسرهم، وهو أن خربشاتهم الهزيلة، لن تحرك شيئا مما ثبت من الدين، ولن تغير ما ارتضاه الله تعالى لعباده، إذ هو أعلم بما ينفعهم.. ولهم أقول أيضا، آنتم أعلم أم الله، (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
(المصدر: مركز يقين)