عوامل سقوط الأرض المقدَّسة في أيدي الاحتلال: رؤية معاصرة 3 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
الصِّراع العربي-الإسرائيلي بعيدًا عن الادّعاءات
يشارك آفي شليم، المؤرِّخ الإسرائيلي وأحد محرّريّ الكتاب، بدراسة عنونها “Israel and the Arab coalition in 1948-إسرائيل والتَّحالف العربي في 1948″، خصَّصها من أجل التَّحرُّر من الخرافات والمزاعم الباطلة لطرفي الصّراع بشأن أسباب ذلك الصّراع ومحفّزاته. يعترف المؤرِّخ اليهودي، عراقي الأصل، بأنَّ الحركة الصُّهيونيَّة استخدمت “الأساطير عن الماضي…لتزييف التَّاريخ”، بهدف كسْب تعاطُف الجماهير وتعزيز موقعها (ص83). كما ذُكر فيما سبق، صوَّرت الرُّواية الإسرائيليَّة عن حرب 1948م الجانب اليهودي بأنَّه تعرَّض إلى اعتداء خارجي من عدوّ متربّص، وُصف بـ “جُليات العربي”، ووُظّفت لعبة الأرقام في ذلك من خلال ادّعاء أنَّ التَّفوُّق العربي العددي كان بمثابة تهديد بإبادة جماعيَّة لليهود في أرض الميعاد، في تغليب للنَّظرة المتداولة للتَّاريخ اليهودي بوصفه تاريخ من المحن والبلايا، وصولًا إلى المحرقة النَّازيَّة. ومن بين المزاعم الباطلة الَّتي روجَّتها الآلة الإعلاميَّة الصُّهيونيَّة المضلّلة أنَّ إسرائيل كانت في مواجهة عدوّ فائق العدد، يميل العنف بدافع من عقيدته الدّينيَّة؛ ولعلَّ من أكثر ما يثير الدَّهشة ممَّا أشيع عن الطَّرف العربي أنَّه شكَّل تحالفًا موحَّدا أخذ على عاتقه مهمَّة تدمير الدَّولة العبريَّة في مهدها. غير أنَّ ما يسوقه المؤرّخ اليهودي من أدلَّة يدحض أيّ مزاعم عن وحدة الصَّف العربي وتماسكه، علاوة على دراية الطَّرف الإسرائيلي بحقيقة الانقسامات العربيَّة واستغلاله إيَّاها في تحقيق النَّصر الكاسح.
بالنّسبة إلى الزَّعم بتفوُّق العرب عددًا، فقد كان عدد القوَّات العربيَّة في فلسطين في منتصف مايو 1948م لا يتجاوز في مجمله 25 ألف مقاتل، في مقابل 35 ألف مقاتل في جيش الدّفاع الإسرائيلي، الَّذي انضمَّ إليه 65 ألف فرد إضافي في يوليو 1948م، ثمَّ وصل عدد أفراده إلى ما يزيد على 96 ألفًا بحلول ديسمبر من العام ذاته. يعني ذلك أنَّ القوَّات اليهوديَّة كانت تفوق القوَّات العربيَّة عددًا في كافَّة مراحل الحرب، كما أنَّ تسليح القوَّات العربيَّة ما كان ليُقارن بما كان يمتلكه اليهود من معدَّات حربيَّة حديثة. مع ذلك، بالغت وسائل الإعلام اليهوديَّة في تصوير قدرات الخصم العربي، بالتَّركيز على مشاركة 5 جيوش عربيَّة، من مصر وسوريا والعراق ولبنان والأردن، بالإضافة إلى قوَّتين، من السَّعوديَّة واليمن، في مواجهة القوَّات اليهوديَّة، في محاولة لإظهار صعوبة موقف الطَّرف اليهودي في مواجهة الخصم. أضف إلى ذلك أنَّ الجامعة العربيَّة، حديثة التَّأسيس حينها، أثبتت عجزها التَّام عن حلّ مشكلة الهجرة اليهوديَّة إلى أرض فلسطين وتحقيق استقلالها التَّام.
مستقبل الفلسطينيين على أرضهم
يتناول المفكّر الأمريكي، فلسطيني الأصل، إدوارد سعيد في مقال الَّذي يحمل عنوان “Afterword: the consequences of 1948-كلمة أخيرة: عواقب حرب 1948″، نظرته إلى مستقبل الفلسطينيين في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي وعمليَّة التَّوسُّع الاستيطاني المتواصلة، بعد عقود من المعاناة، تتمثَّل في الفصل العنصري والتَّضييق الأمني ومحدوديَّة فرص تحقيق الذَّات. في عبارات موجزة، يصف سعيد تأثيرات النَّكبة عام 1948م على أفراد أسرته، الَّذين أصبحوا جميعًا لاجئين، وأضيف إلى التَّشرُّد الإفلاس والنَّبذ في البلدان الَّتي لجئوا إليها. تنامى لدى الفلسطينيين عبر الأجيال “شعور جماعي بالظُّلم” يأجّج الشُّعور بضرورة الثَّأر من المعتدي واستعادة الحقوق المنهوبة؛ ومن المفارقات الدَّاعية للاستهجان الشَّديد، كما يصف سعيد، أنَّ بعض قادة الفلسطينيين، من السّياسيين الَّذي أخذوا على عاتقهم مهمَّة التَّفاوض مع المحتل، دأبوا على تناسي الظُّلم المتوارث، وأبدوا الاستعداد لفتح صفحة جديدة (ص210). يشير سعيد إلى ما صرَّح به أحد السّياسيين الفلسطينيين عند وصول آرييل شارون، الجنرال الإسرائيلي المسؤول عن العديد من المذابح ضدَّ الفلسطينيين، على رأسها مذبحتي صبرا وشاتيلا (1985م) وجنين (2002م)، إلى منصب وزير الخارجيَّة، من أنَّه على استعداد لنسيان الماضي، وفي ذلك ما يكشف عن عجز السّياسيين عن اتّباع نهج سليم لمواجهة أزمة الشَّعب الفلسطيني، لن نقول عن تواطؤ بعضهم مع المحتل في مقابل منافع شخصيَّة. غير أنَّ السّياسيين ليسوا المسؤول الوحيد عن الفشل في إيجاد سبيل لمواجهة المعضلة؛ فالفلسطينيون أنفسهم انشغلوا، على حدّ وصفه، بحياتهم اليوميَّة وأمورهم الخاصَّة.
يشير سعيد إلى أنَّ الحلَّ العسكري كان دائمًا الخيار الأقرب إلى الذّهنيَّة الفلسطينيَّة، وهذا ما شجَّع على تنظيم بعض العمليَّات الفدائيَّة، وربَّما كانت منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة الأكثر نشاطًا في هذا المجال، ولكن لم يكن لتلك العمليَّات نتيجة سوى ردّ فعل قاسٍ من المحتل، مع وصم الفلسطينيين بالإرهاب والميل إلى استخدام العنف. أدَّى الإيمان بضرورة الحل العسكري إلى سيطرة الجيوش في المنطقة العربيَّة على مقاليد الأمور، وإلى تطبيق نظام حُكم صارم يطارد المعارضين ويقمع المطالبين بالحريَّات. في ظلّ هذا الحُكم، لاقى اللاجئون الفلسطينيون معاملة قاسية، جعلت منهم غرباء بين أفراد المجتمع المضيف. وهنا يتساءل سعيد “لماذا فُرض هذا الحصار، وهذه العزلة على شعب لجأ إلى البلاد المجاورة حينما أُخرج من وطنه؟” (ص213). أمَّا عن الفلسطينيين الَّذين بقوا في مدنهم بعد حرب 1948م، ولم يلجؤوا إلى البلدان العربيَّة المجاورة، فقد لاقوا شكلًا آخر من المعاناة، وهو النَّبذ والاتّهام بالخيانة وموالاة محتلّ ديارهم، هذا إلى جانب ما تعرَّضوا له من سوء معاملة نتيجة العنصريَّة اليهوديَّة، باعتبارهم من الأغيار.
استخدم اليهود الآلة الإعلاميَّة في إشاعة أنَّهم يريد السَّلام مع العرب، على غير رضا الطَّرف الآخر، الَّذي يميل إلى العنف ويريد اقتلاع اليهود من أرض فلسطين بالكليَّة. في إنكار تامّ لمخطَّط تهجير الفلسطينيين، وبخاصَّة من المناطق الزّراعيَّة، الَّذي أشار إليه هرتزل في مذكّراته، وبدأ بن غوريون العمل على تنفيذه منذ صدور تقرير لجنة بيل عام 1937م، كما أوضح بيني موريس في مقاله “إعادة تقييم الخروج الفلسطيني في 1948″، يدَّعي اليهود أنَّ الفلسطينيين هم الَّذين أضرُّوا بأنفسهم لمَّا استجابوا لأمر حُكَّامهم بالخروج من أرضهم ورفْض القرار 181 لعام 1947م بتقسيم فلسطين وتأسيس دولة فلسطينيَّة إلى جانب اليهوديَّة. وفي ذلك يقول سعيد (ص216):
والحُجَّة الَّتي تتمسَّك بها إسرائيل وأنصارها هي أنَّ الفلسطينيين هم من جلبوه لأنفسهم: فلماذا رحلوا؟ ولماذا أعلن العرب الحرب؟ ولماذا لم يقبلوا قرار التَّقسيم في 1947؟ وأشياء أخرى من هذا القبيل، ولا شيء من هذا، كما هو واضح، يبرّر سلوك إسرائيل الرَّسمي اللاحق تجاه ضحاياها الفلسطينيين حيث سادت الوحشيَّة والمعاملة اللاإنسانيَّة وحتَّى السَّاديَّة من أجل إخضاع الفلسطينيين على مدار السّنين…
يضع إدوارد سعيد يده على مكمن المشكلة وسبب الأزمة، والَّذي هو، وفق تصوُّره، التَّقيُّد بالفكر القومي، سواءً بالنّسبة إلى الإسرائيليين أو الفلسطينيين. من المعروف أنَّ أسلوب إدارة المستعمرات الزّراعيَّة على أرض فلسطين، خلال سنوات الانتداب البريطاني أوائل القرن العشرين، اعتمد على الاشتراكيَّة في تقسيم المهام وتقاسم الأرباح، وتطوَّر نظام الإدارة ذلك بعد تأسيس إسرائيل فيما بات يُعرف بنظام الاشتراكيَّة القوميَّة الإسرائيليَّة. ومن أهم سمات هذا النّظام “إخضاع الفرد للذَّات الجماعيَّة”، أي تجاهُل قيمة الفرد مقارنة بالهويَّة الجماعيَّة للكيان (ص219). وبرغم ما يُفترَض في هذا النّظام من العدالة وعدم التَّمييز بين المواطنين، فهناك فئة من الإسرائيليين، تحديدًا من أفراد الجيش وأعضاء الهستدروت، أو الاتّحاد العام لنقابات العمَّال الإسرائيليَّة، تُميَّز في العائد المادّي عن سائر المواطنين. أمَّا الفلسطينيون، فلديهم انتماؤهم إلى عدَّة قوميَّات المعادية للقوميَّة الإسرائيليَّة، وهي القوميَّات الفلسطينيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة. من هنا، يقترح سعيد “التَّعايش المشترك القائم على المساواة” حلًّا للصّراع الفلسطيني-الإسرائيلي، على اعتبار أنَّ المجتمع الإسرائيلي نفسه يعاني من الظُّلم الاجتماعي، وأنَّ الاضطهاد يُمارس ضدَّ بعض الإسرائيليين أنفسهم (ص221). يتلخَّص مقتَرح سعيد للتَّعايش السَّلمي كما يلي (ص221):
إنَّنا نحتاج إلى التَّفكير في تاريخين غير منفصلين أيديولوجيًّا، ولكنَّهما مرتبطان معًا. فلا التَّاريخ الفلسطيني ولا التَّاريخ الإسرائيلي عند هذه النُّقطة يمثّل شيئًا في حدّ ذاته، أو بدون الآخر. وبذلك فإنَّنا نسبح ضدَّ تيَّار عدم التَّصالح الجوهري بين الزَّعم الصُّهيوني والخروج الفلسطيني. إنَّ الظَّلم الَّذي حاق بالفلسطينيين ضروري لهذين التَّاريخين، وكذلك المعاداة الغربيَّة للسَّاميَّة والهولوكوست.
من المثير للدَّهشة أنَّ المؤرّخ فلسطيني الأصل ذاته هو مَن أنكر من قبل على السّياسيين الفلسطينيين تناسي انتهاكات المحتلّ ضدَّ أصحاب الأرض الأصليين؛ فكيف يمكن الثَّأر للفلسطينيين من الظُّلم الَّذي حاق بهم على يد المحتلّ، ثمَّ العيش مع المحتلّ ذاته في مجتمع سلمي آمن؟!
2.”تواطؤ عبر نهر الأردن”: دور الهاشميين في تأسيس إسرائيل
يقدّم آفي شليم، المؤرّخ الإسرائيلي عراقي الأصل وأستاذ العلاقات الدُّوليَّة في جامعة أوكسفورد البريطانيَّة، في كتابه Collusion Across the Jordan: King Abdullah, the Zionist Movement, and the Partition of Palestine– تواطؤ عبر نهر الأردن: الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين (1988م) دراسة تاريخيَّة مفصَّلة عن حقيقة الصّراع العربي-الإسرائيلي خلال السّنوات السَّابقة على تأسيس دولة إسرائيل، وحتَّى حرب 1948م، وما تلاها من أحداث جِسام شهدتها منطقة الشَّرق الأوسط، لعلَّ من أهمّها اغتيال عبد الله بن الحسين، مؤسّس المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة، في ساحة المسجد الأقصى في يوليو من عام 1951م. كما يذكر شليم في مدخل الكتاب، كانت الخطَّة الأصليَّة هي تناوُل الأحداث الَّتي شهدتها المنطقة في الفترة ما بين عام 1948م، عام حرب فلسطين، وعام 1956م، عام اندلاع حرب السُّويس، أو العدوان الثُّلاثي على مصر. غير أنَّ المؤرّخ فضَّل تسليط الضَّوء على نشأة العلاقة بين الحركة الصُّهيونيَّة وعبد الله بن الحسين، حاكم إمارة شرق الأردن حينها، وتطوُّر تلك العلاقة حتَّى تقسيم فلسطين واغتيال عبد الله بن الحسين بعد أن صار أوَّل ملك على الأردن.
يروي الكتاب قصَّة العلاقة عالية السّريَّة بين عبد الله بن الحسين، منذ تعيينه أميرًا على منطقة شرق نهر الأردن من قِبل الانتداب البريطاني عام 1920م، وحتَّى اغتياله عام 1951م، مع الوقوف مليًّا عند الاتّفاقيَّة المبرمة بين الهاشميين والصَّهاينة في نوفمبر من عام 1947م، والَّتي نصَّت على تقسيم فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني، ودفعت عبد الله الأوَّل إلى دعْم الجانب الصُّهيوني خلال أشهر حرب 1948م، ثمَّ إلى استمرار التَّعاون معه بعد إعلان دولة إسرائيل، على أمل ضمّ الجانب العربي من فلسطين إلى مملكة الأردن. يعتبر شليم أنَّ الصّراع العربي-الإسرائيلي، الَّذي يكون التَّنازع على أحقيَّة امتلاك أرض فلسطين جوهره، قد نشأ بعد المؤتمر الصُّهيوني الأوَّل عام 1897م، وتطوَّر بعد صدور وعْد بلفور عام 1917م. قوبلت محاولة الاستيطان اليهوديَّة في فلسطين بمعارضة الدَّولة العثمانيَّة، آخر دولة حملت لواء الخلافة، وبإصرار من أهل فلسطين على أحقّيَّة المسلمين في الأرض المقدَّسة، الَّتي حُرّمت على بني إسرائيل بشؤم ذنوبهم وتحدّيهم للذَّات الإلهيَّة بشركهم بربّهم وعبادة الأوثان من دونه، كما تعترف أسفار العهد القديم. وبالطَّبع، ما كان للحركة الصُّهيونيَّة أن تتراجع عن مخطَّطها أمام تلك المعارضة؛ فما كان منها إلَّا أن أطاحت بدولة الخلافة عبر مكائد ومؤامرات تواطأ معها من أجل تنفيذها ثلَّة من المسلمين، قُلّدوا المناصب القياديَّة، بالطَّبع لتسهيل تنفيذ مخطَّطات الصَّهاينة في العالم الإسلامي.
يذكّر شليم بأنَّ الهجرة اليهوديَّة إلى أرض فلسطين ازدهرت مع فرْض الانتداب البريطاني مطلع العشرينات من القرن الماضي، وبأنَّ عدد اليهود هناك تضاعف من 56 ألفًا عند صدور وعْد بلفور عام 1917م إلى 475 ألفًا نهاية عام 1939م، أي مع انتهاء الثَّورة الكبرى، وبداية العنف النَّازي ضدَّ اليهود في أوروبا؛ ما شجَّع على هجرة الآلاف منهم إلى فلسطين، بحثًا عن ملاذ آمن. في تلك المرحلة، كان اليهود قد استحوذوا على 5 بالمائة من أرض فلسطين، و9 بالمائة من الأراضي الصَّالحة للزّراعة. بزغ نجم الحاج أمين الحسيني، مفتي القُدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى ورئيس اللجنة العربيَّة العليا، بوصفه رمزًا للمقاومة الإسلاميَّة الرَّافضة لتأسيس دولة يهوديَّة، وكان زعيم الثَّورة الكبرى (1936-1939م) بلا منازع؛ ممَّا أدَّى إلى إقالته من رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى عام 1937، بعد اتّهامه بالتَّحريض على الشَّغب وإثارة الجماهير ضدَّ الانتداب البريطاني؛ ثمَّ حُلَّ المجلس، وحُظرت اللجنة العربيَّة العليا، ونُفي الحسيني إلى بغداد عام 1939م.
في عام 1937م، شُكّلت لجنة بيل (Peel Commission) من قِبل الانتداب البريطاني لدراسة الوضع داخل فلسطين؛ وأوصى تقريرها بضرورة انتهاء الانتداب، على أن يُفضّ النّزاع من خلال تقسيم البلاد بين اليشوف، أي المجتمع اليهودي في فلسطين قبل إعلان دولة إسرائيل، والسُّكَّان العرب. أبدى زعماء الحركة الصُّهيونيَّة من المستوطنين استعدادهم للتَّفاوض بشأن التَّقسيم، بعد ترحيبهم البالغ بتوصيات تقرير لجنة بيل، بينما قابل زعماء الفلسطينيين الأمر بمعارضة شديدة، وفشلت محاولة بريطانيا عقْد مؤتمر في لندن للتَّفاهم بين طرفي النّزاع في فبراير 1939م، بعد أن رفَض الفلسطينيون المشاركون الجلوس مع ممثلي اليهود على طاولة واحدة، ولم يتم التَّوصُّل إلى حلّ؛ وحُمّل الفلسطينيون ذنب فشل المفاوضات، وكأنَّما كان التَّفاوض مع الانتداب البريطاني والاحتلال اليهودي ليفضي إلى فضّ النّزاع وتأسيس دولة عربيَّة على أرض فلسطين، ولو لم يصر الفلسطينيون على الاستحواذ على كامل أراضي فلسطين. وفي 29 نوفمبر 1947م، صدر قرار الجمعيَّة العامَّة التَّابعة للأمم المتَّحدة رقم 181، مصدّقًا على توصية تقرير لجنة بيل 1937م بتقسيم فلسطين.
قوبل قرار التَّقسيم بحالة من الرَّفض العربي القوي، ولجأ الفلسطينيون إلى السّلاح لمنع التَّقسيم، كما يوضح شيلم. غير أنَّ المقاومة الفلسطينيَّة لم تمنع اليشوف من إعلان دولة إسرائيل في 15 مايو 1948م، آخر أيَّام الانتداب البريطاني. يدَّعي شليم أنَّ الزَّعامات العربيَّة الفلسطينيَّة لم تتَّسم بالمرونة، سواءً من النَّاحية الاستراتيجيَّة أو التَّكتيكيَّة؛ لإصرارها على حيازة كامل أراضي فلسطين وعدم قبول فكرة تأسيس دولة يهوديَّة على الإطلاق، وكان استخدام السّلاح سبيلها لتحقيق ذلك. أمَّا الزَّعامات الصُّهيونيَّة، فكانت أكثر مرونة من النَّاحية التَّكتيكيَّة؛ حيث قدَّمت العديد من الحلول لتسوية النّزاع مع الفلسطينيين، وتنوَّعت أساليبها في تحقيق أهدافها، ما بين الرّشوة والخداع والإكراه والقوَّة البدنيَّة. رأى تيودور هرتزل، نبي الصُّهيونيَّة، أنَّ استخدام العنف والإكراه من المسلَّمات، ولا غنى عنه، اتّباعًا لمبدأ “الغاية تبرّر الوسيلة”.
تواطؤ الهاشميين مع بريطانيا في هدم الخلافة
ظلَّت فكرة أنَّ الهاشميين هم الأولى بحُكم العالم العربي بأسره تشعل حماسة عبد الله بن الحسين، نجل شريف مكَّة وملك الحجاز لاحقًا الشَّريف الحسين بن عليّ، طوال مسيرته السّياسيَّة الطَّويلة والحافلة، ولعلَّ تلك الفكرة هي الَّتي حملته من موطنه في الحجاز إلى الشَّام، وتحديدًا إلى منطقة شرق نهر الأردن، ليصبح أميرًا ثمَّ ملكًا عليها. اعتقد الهاشميون أنَّهم أحقُّ بالخلافة من الدَّولة العثمانيَّة، باعتبارهم منحدرين من نسل النَّبي مُحمد (ﷺ)، وكان عبد الله الأكثر طموحًا وإصرارًا من بين أبناء الشَّريف حسين الأربعة. وُلد عبد الله عام 1880م، ونشأ في إسطنبول، عاصمة دولة الخلافة، الَّتي نُقل إليها مع أبيه وإخوته بأمر من السُّلطان عبد الحميد الثَّاني عام 1891م، لمَّا شعر الأخير بسعي الحسين إلى الاستيلاء على منصب شريف مكَّة؛ فأراد الخليفة تقييده وتهذيبه في نفس الوقت، كما تخبر ماري سي. ولسون King Abdullah, Britain and the Making of Jordan-الملك عبد الله وبريطانيا وتأسيس الأردن (1987م). بقي الحسين بن عليّ مع أبنائه في عاصمة الخلافة حتَّى اندلاع ثورة جمعيَّة الاتّحاد والتَّرقّي عام 1908م، أي قبيل خلع عبد الحميد الثَّاني، وعُيّن الحسين في منصب شريف مكَّة، على غير رضا من السُّلطان الَّذي أنهكته مؤامرات اليهود. ما يثبت تواطؤ الحسين بن عليّ مع الحركات المعادية لدولة الخلافة والعاملة على هدمها بزوغ نجمه في فترة الحُكم الدُّستوري البرلماني الَّذي تأسَّس في أعقاب خلع عبد الحميد الثَّاني عام 1909م، وقد كان عبد الله ممثله في البرلمان العثماني في الفترة ما بين 1912 و1914م.
ترك عبد الله بن الحسين إسطنبول عام 1914م، لتبدأ مهمَّته في إشعال الثَّورة العربيَّة الكبرى لإنهاء الوجود العثماني في جزيرة العرب والشَّام، ويشير شليم إلى عبد الله بوصفه “مفكّر الثَّورة العربيَّة ومخطّطها ومدبّرها والقوَّة الدَّافعة لها (ص20). كان فيصل بن الحسين، الابن الأصغر للشَّريف حسين، قد أسرَّ إلى توماس إدوارد لورانس، ضابط الاستخبارات البريطاني المكلَّف بتنظيم الثَّورة، بأنَّ فكرة تمزيق الدَّولة العثمانيَّة والإفلات من قبضتها ساورت عبد الله عام 1914م، وحينها اقترح الحسين إزكاء الحسّ القومي العروبي لدى الجماهير لتحريكها ضدَّ دولة الخلافة. لم يجد الهاشميون حرجًا في التَّعاون مع بريطانيا العظمى في سبيل تنفيذ مؤامرتهم ضدَّ الباب العالي، لتبدأ الثَّورة عام 1916م، دون أن يعي أحفاد خاتم النَّبيين أنَّ المستعمر الغربي كان يحيك لهم مؤامرة موازية تستهدف تقسيم المنطقة بين بريطانيا وفرنسا، بموجب اتّفاقيَّة سايكس-بيكو السّريَّة؛ وبالتَّالي، يُصبح حُلم تأسيس مملكة العرب الكبرى وتولية الهاشميين مقام الخلافة سرابًا!
نجحت الثَّورة العربيَّة الكبرى في إنهاء الوجود العثماني في شبه الجزيرة العربيَّة والشَّام، وكانت منطقة شرق الأردن، المتاخمة لأرض فلسطين والفقيرة في الموارد الطَّبيعية، من نصيب عبد الله بن الحسين، بينما كانت سوريا من نصيب أخيه الأصغر، فيصل، ليُخلع منها سريعًا ويعوَّض بعرش العراق. لم يتذمَّر عبد الله على حصَّته من الغنيمة، وإن كان الأردن أقل كثيرًا ممَّا كان يطمح إليه، لكنَّه ظلَّ خاضعًا لبريطانيا العظمى، الَّتي اعتمد عليها في تحقيق الاستقرار السّياسي وتوفير الاحتياجات الاقتصاديَّة والحفاظ على استقرار الحُكم. وكانت بريطانيا هي من أسَّس دعامة النّظام الحاكم في الأردن، ألا وهي الفيلق العربي، وظلَّت تموّله وظلَّ ضبَّاط من مواطنيها يقودونه حتَّى عام 1956م. لم يعارض عبد الله بن الحسين الوجود اليهودي في فلسطين، وإن كان يطمح وقتها إلى ضمّ أراضيها إلى إمارته، لكنَّ كلَّ ما حصل عليه هو وعْد من بريطانيا بأن تظلَّ إمارة شرق الأردن بمنأى عن الاستيطان اليهود، وذلك في صيف عام 1922م. وكان من بين حيل عبد الله لضمّ فلسطين إلى مملكة كبرى تضمُّ سوريا معها أن دأب على تعيين فلسطينيين في مناصب قياديَّة في إمارته، سمح له ذلك أن يعيّن نفسه متحدّثًا باسم الفلسطينيين.
(المصدر: رسالة بوست)