عوامل سقوط الأرض المقدَّسة في أيدي الاحتلال: رؤية معاصرة 2 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
أسباب فعليَّة أدَّت إلى “النَّكبة”
يضمُّ الكتاب دراسة للمؤرِّخ الأمريكي، فلسطيني الأصل، رشيد خالدي، أستاذ الدِّراسات العربيَّة الحديثة في جامعة كولومبيا الأمريكيَّة، تحت عنوان “The Palestinians and 1948: the underlying causes of failure-الفلسطينيون وحرب 1948: الأسباب الكامنة وراء الهزيمة”، يستعرض خلالها الأسباب الحقيقيَّة للهزيمة العربيَّة، متحديًا ما ركَّزت عليه الرُّواية العربيَّة التَّقليديَّة في تبرير الهزيمة، وهو عجْز الجيوش العربيَّة عن دحْر قوَّات الاحتلال، ومعتبرًا أنَّ الهزيمة تعود في المقام الأوَّل إلى فشل السياسة الفلسطينيَّة. في البداية، يشير خالدي إلى أنَّ العرب، مطلع عام 1948م، كانوا يستحوذن على 90 بالمائة من أراضي فلسطين، وكانوا يشكلِّون ثلثي عدد السُّكَّان، كما يمثِّلون الأغلبيَّة في 15 مقاطعة من بين المقاطعات الـ 16 لفلسطين حينها. ينتقد خالدي موقف الفلسطينيين من قرار الأمم المتَّحدة رقم 181، الخاص بتقسيم فلسطين، حينما نظَّموا أعمال مقاومة أدَّت إلى مواجهات غير متكافئة مع قوَّات الاحتلال، ممَّا أسفر عن تهجير الآلاف من سكَّان فلسطين من العرب، وأفضى ذلك بدوره إلى ضياع “أيِّ أمل باقٍ في أنَّ الدَّولة العربيَّة الَّتي طالَب بها مشروع تقسيم الأمم المتَّحدة سوى ترى النُّور” (ص20). يتأسَّف المؤرِّخ فلسطيني الأصل على ضياع فرصة تأسيس دولة فلسطينيَّة، من خلال الرَّضوخ إلى قرار التَّقسيم، وقبول المحتل اليهودي في استعماره لأراضي المسلمين، ملقيًا باللوم على المقاومة الفلسطينيَّة في ذلك، ومفترضًا أنَّ التَّفوُّق العسكري الإسرائيلي كان يحتِّم الحلّ السِّياسي للأزمة؛ ممَّا يعني أنَّ الحلَّ الأمثل كان التَّفاوض السّلمي. في رأي خالدي، فإنَّ “الدَّولة العربيَّة المزعومة وُلدت ميتة…سقطت صريعة تحت عجلات القدرات العسكريَّة المتفوقَّة لدولة إسرائيل الوليدة، وعدم مبالاة جميع القوى الكبرى ومعظم الدُّول العربيَّة، وتآمر عدد من الزُّعماء العرب مع بريطانيا وإسرائيل ضدَّ الفلسطينيين، والإخفاقات المتتالية للفلسطينيين أنفسهم“، وللعامل الأخير التَّأثير الأكبر فيما آلت إليه الأمور (ص20).
كما سبقت الإشارة، كان من بين الأكاذيب الرَّائجة عن سبب مغادرة العرب أرض فلسطين خلال أشهر حرب 1948م الزَّعم بأنَّ حُكَّام الدُّول العربيَّة الَّتي أرسلت جيوشها لتحرير فلسطين هم مَن نصح بذلك. غير أنَّ خالدي يرى أنَّ التَّفوُّق العسكري الإسرائيلي كان وراء تهجير الفلسطينيين واستحواذ اليهود على 77 بالمائة من أراضي فلسطين، 18 مليون دونم من 26 مليونًا، مع السَّيطرة على 400 قرية عربيَّة من 500 قرية فلسطينيَّة. وإلى “تفوُّق القوَّة الصُّهيونيَّة”، يُضاف “ضَعف التَّلاحم العربي الاجتماعي والسِّياسي” و “فرار الطَّبقتين العليا والمتوسِّطة العرب” بوصفها أسبابًا للهزيمة (ص22). لم ينجح الفلسطينيون في استغلال ميزات تمتَّعوا بها، ومن بينها “التَّفوُّق الكبير في العدد، ووجود العديد من القرى العربيَّة في جميع أنحاء البلاد والَّتي تقع فيها معظم الطُّرق الاستراتيجيَّة” (ص23). كان للانقسامات الدَّاخليَّة دورها في الهزيمة، خاصَّةً مع “التَّخلُّف الاجتماعي للمجتمع الفلسطيني مقارنةً بالمجتمع اليهودي”، هذا إلى جانب عدم ممارسة القوى السّياسيَّة الشَّابة حينها أيَّ دور قيادي، حيث حُرم الفلسطينيون من الوظائف المهمَّة في حكومة الانتداب البريطاني، واقتصر الدُّور السِّياسي الفلسطيني، كما يدَّعي خالدي، على منصب المفتي الأكبر، ما أفضى إلى ضآلة المشاركة الفلسطينيَّة في الحُكم (ص25).
من المثير للانتباه أنَّ المؤرِّخ الأمريكي يعتبر أنَّ من أسباب هزيمة الفلسطينيين التفافهم حول زعاماتهم الدِّينيَّة، زاعمًا أنَّ ذلك كان “باعتراف وتشجيع ومساندة البريطانيين” (ص29). استحدث الانتداب البريطاني منصب المفتي الأكبر، أو مفتي القُدس والدِّيار الفلسطينيَّة، الَّذي كان من سلطاته إدارة الأوقاف وتعيين القضاة وأعضاء محكمة الاستئناف، وأُسند المنصب إلى الحاج أمين الحسيني، “الشَّاب المتطرِّف”، الَّذي شغل المنصب نفسه من قبله 4 من أفراد عائلته، بمباركة المندوب السَّامي البريطاني، في مقابل “خدمة المصالح البريطانيَّة من خلال الحفاظ على الهدوء” (ص30-31). يعتقد خالدي أنَّ الحسيني خدم مصالح الانتداب البريطاني على أكمل وجه على مدار أكثر من 10 سنوات، إلى أن اضطرَّ عام 1936م، مع اندلاع الثَّورة الكبرى في مواجهة سياسات الانتداب في تسهيل الهجرة اليهوديَّة. تشتَّت الشَّعب الفلسطيني بين التَّيَّار الإسلامي بزعامة مفتي القُدس والتَّيَّارات السّياسيَّة الأخرى؛ وأدَّى ذلك إلى مزيد من التَّشرذم الاجتماعي المفضي إلى فشل الثَّورة الكبرى. يستخفُّ خالدي بدور الدَّاعية الإسلامي والمناضل العربي سوري المولد عزّ الدِّين القسَّام في إشعال الثَّورة الكبرى بمقتله على يد قوَّات الاحتلال البريطاني في نوفمبر 1935م؛ بل ولا يجد من نتائج لتلك الثَّورة غير مقتل وإصابة وسجن الآلاف من الفلسطينيين، دون تقييد للهجرة اليهوديَّة إلى فلسطين أو إجبار للانتداب على تغيير سياساته. غير أنَّ النَّتيجة الأسوأ للثَّورة الكبرى، في رأي خالدي، هي التَّكريس لـ “الهيمنة السِّياسيَّة للمؤسَّسات الدِّينيَّة الَّتي يسيطر عليها المفتي”؛ ممَّا أسفر عن غياب كامل لأيّ هدف قومي للنَّشاط السِّياسي الفلسطيني (ص35). ويستنتج خالدي أنَّ غياب القيادة الفلسطينيَّة الموحَّدة والمؤسَّسات النِّيابيَّة عن المشهد خلال سنوات الثَّورة الكبرى (1936-1939م) كان من أهمّ أسباب الهزيمة اللاحقة خلال أشهر حرب 1948م.
تناوُل صهيوني لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين
يدلي بيني موريس، أستاذ تاريخ الشَّرق الأوسط في جامعة بن غوريون الإسرائيليَّة، بدلوه في مسألة محنة اللاجئين الفلسطينيين، في دراسة تحت عنوان “Revisiting the Palestinian exodus of 1948-إعادة تقييم الخروج الفلسطيني في 1948″، ساعيًا إلى تقديم تبرير مقنع لخروج مئات الآلاف من أبناء الشَّعب الفلسطيني إلى العراء بعد الغزو الإسرائيلي لبلداتهم خلال الحرب، وذلك باستعراض ما جاء في الوثائق التَّاريخيَّة الَّتي أُفرج عنها نهاية الثَّمانينات ومطلع التِّسعينات من القرن الماضي. سبق لموريس أن تناوَل نشأة محنة اللاجئين في كتاب أصدره تحت عنوان The Birth of the Palestinian Refugee Problem, 1947-1949-مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949 (1987م)، وكان من أهمِّ النَّتائج الَّتي خلص إليها، وأكدَّت صحَّتها وثائق جيش الدِّفاع الإسرائيلي وأرشيف الهاغانا لاحقًا، أنَّ لجوء 700 ألف فلسطيني إلى دول مختلفة بعد الهجوم الإسرائيلي لا يرجع فقط إلى العدوان الغاشم وسياسة التَّهجير القسري الَّتي اتَّبعها الجيش الصُّهيوني، إنَّما كذلك إلى فساد قيادات الفلسطينيين “المفتقدة للكفاءة والمتسلِّطة”، بعد فشلها في إعداد المقاومة الفلسطينيَّة للمواجهة مع قوَّات الاحتلال، وفرارها من المشهد “مع أوَّل طلقة في المعركة”، ما يتَّفق مع طرحه رشيد خالدي في دراسته آنفة الذِّكر (ص42). أصبح الفلسطينيون في ظلِّ غياب القيادة “جماعات من المحيَّرين والمذهولين والمهزومين” أنهكتهم أشهر الحرب الطَّويلة، خاصَّة مع “تفشِّي البطالة وزيادة أسعار الطَّعام وانتشار الفقر” (ص42). يعتبر موريس أنَّ البلدان العربيَّة كان لها دورها في مفاقمة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، مع عجزها عن “امتصاص اللاجئين” وتنبيههم إلى أنسب أوقات الرَّحيل، وكأنَّما كان من المفترض انصهار العنصر الفلسطيني في المجتمعات العربيَّة الَّتي لجأ إليها اللاجئون؛ ومن ثمَّ تنتهي المشكلة وتُطوى مسألة حقِّ العودة (ص42). على استحياء، يشير المؤرِّخ الإسرائيلي إلى أعمال العنف الوحشيَّة الَّتي تعرَّض إليها الفلسطينيون، مشكِّكًا في وقوع مجازر لإبادتهم بوصفها بأنَّها مجرَّد “شائعات” (ص42).
من بين أهمِّ الأسباب المؤدِّية إلى مشكلة اللاجئين الفلسطينيين عمليَّة التَّهجير القسري، الَّذي يعبِّر عنه موريس بالمسمَّى التَّلطيفي “النَّقل” الجماعي، لأفراد الشَّعب الفلسطيني لإفساح الطَّريق أمام تأسيس دولة يهوديَّة (ص43). بدأ العمل على إفراغ فلسطين من سكِّانها العرب منذ بداية التَّدفق اليهودي إليها عام 1882م، وكمنت المشكلة، كما يوضح بيني، في أنَّ عدد الفلسطينيين تضاعف من 500 ألف نسمة ذلك العام إلى 1.3 مليون عام 1947م، وكانت المعضلة باختصار “كيف يمكن لأقليَّة يهوديَّة تراوح عددها بين 60 ألفًا و80 ألفًا عام 1914 و650 ألفًا عام 1947 أن تسيطر على بلد تسكنه أغلبيَّة عربيَّة معادية لها؟” (ص43). طُرحت العديد من الحلول لمواجهة تلك المشكلة، كان على رأسها مضاعفة الهجرة اليهوديَّة إلى أن يتفوَّق اليهود عددًا على الفلسطينيين، وإقامة دولة عنصريَّة من الأقليَّة اليهوديَّة تسيطر على كافَّة الأراضي، وتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهوديَّة على جزء منها. غير أنَّ إحجام يهود الشَّتات عن الهجرة إلى فلسطين والوجود العربي الكثيف في كافَّة أنحاء فلسطين حالا دون إتاحة الفرصة أمام إعادة التَّشكيل السُّكَّاني للمنطقة الَّتي أراد اليهود تأسيس دولتهم فيها؛ ممَّا جعل من التَّهجير القسري الحلَّ الأمثل. يشير موريس إلى أنَّ الزَّعامات الصُّهيونيَّة رحَّبت بفكرة “تهجير كلِّ أو جزء من عرب فلسطين إلى خارج حدود الدَّولة اليهوديَّة المقترحة”، والَّتي هي في الأصل من مقترحات تيودور هرتزل، ووردت في مذكِّراته بتاريخ 12 يونيو 1895م (ص45):
إنَّنا يجب أن ننزع الملكيَّة تدريجيًّا…فسوف نحاول دفْع السُّكَّان المعدمين خارج الحدود من خلال توفير عمْل لهم في البلاد الَّتي ينتقلون إليها/ بينما لا نمنحهم أيَّة فرصة عمْل في بلدنا…وكلٌّ من عمليَّة نزْع الملكيَّة والتَّخلُّص من الفقراء يجب أن تحدث بحرص وتكتُّم.
بدأ التَّفكير في مسألة تهجير الفلسطينيين منذ بداية الهجرة اليهوديَّة، ولكنَّ بشكل عشوائي، ما لبث أن اتَّخذ أسلوبًا أكثر تنظيمًا منذ يوليو 1937م، مع صدور تقرير لجنة بيل (Peel Commission)، وهي لجنة بريطانيَّة كُلِّفت بدراسة أوضاع فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني إبَّان الثَّورة الكبرى (1936-1939م). وكان الهمُّ الأكبر لليهود هو ترحيل الفلسطينيين عن الأودية والمناطق الخصبة؛ بهدف تأسيس مجتمع يهودي زراعي يكون نواة لدولة إسرائيل، وهذا ما عبَّر عنه دافيد بن غوريون خلال مشاركته في المؤتمر الصُّهيوني، بأن شدَّد على أهميَّة ترحيل الفلَّاحين العرب ومصادرة أراضيهم. ومع اندلاع الحرب العالميَّة الثَّانية، وما رُوي عن الاضطهاد الشَّديد الَّذي تعرَّض إليه اليهود على يد النَّازيين، ازدادت فرص الهجرة اليهوديَّة إلى فلسطين، وهنا عمل بن غوريون على خطَّة التَّرحيل والتَّهجير القسري لأبناء فلسطين، معتبرًا أنَّ القوَّة، أو “الإكراه بلا رحمة” بحسب تعبيره، السَّبيل الأمثل من أجل “التَّرحيل الشَّامل لكلِّ السُّكَّان العرب” (ص50). وممَّا يسترعي الانتباه أنَّ السِّياسي الصُّهيوني الرَّائد، وأوَّل رئيس وزراء لإسرائيل لاحقًا، استثنى الأقليَّات غير المسلمة، وعلى رأسها الدُّروز، من أولويَّات التَّهجير، مركِّزًا على فئة المزارعين من سكَّان الأودية الخصبة. اعتبر بن غوريون أنَّ ترحيل الفلسطينيين “أسهل من أيِّ نوع آخر من أنواع التَّرحيل”، مع وجود دول عربيَّة يمكنها استقبالهم وإدماجهم في نسيجها السُّكَّاني، بما يضمن عدم حدوث أزمة (ص52).
كان من أهم محفِّزات عمليَّة التَّهجير “الإرهاب العربي المستمر ضدَّ الصُّهيونيَّة” و “الاضطهاد المتزايد لليهود المشتَّتين في وسط وشرق أوروبا”، وأصبح حتميًّا منذ عام 1948م، لدرجة أنَّ استمرار التَّكوين السُّكَّاني لفلسطين على ما كانت عليه قبل قرار التَّقسيم في نوفمبر 1947م كان بمثابة تهديد مباشر لبقاء الدَّولة اليهوديَّة النَّاشئة (ص54). تعرَّض سُكَّان فلسطين من العرب إلى حملات منظَّمة للتَّهجير، اتَّسمت بالعنف الشَّديد، وتعتبر العمليَّة حيرام، الَّتي استهدف الاستحواذ على منطقة الجليل الأعلى، من أشدِّ العمليَّات عنفًا، وقد أدَّت إلى تهجير أكثر من 50 ألف فلسطيني ونزوحهم إلى لبنان. نقلًا عن موسوعة ويكيبيديا، تخلَّل العمليَّة حيرام 10 مذابح في البلدات الفلسطينيَّة واللبنانيَّة، منها مجزرة حولا، ومجزرة الصفصاف، وسعسع، والبعنة، ونحف، ودير الأسد وعيلبون، والمالكية، وصلحة. في النِّهاية، يؤكِّد موريس أنَّ عمليَّة تهجير الفلسطينيين لم تكن عفويَّة أو غير مخطَّط لها؛ بل تمَّت باتِّفاق جماعي لزعماء الصَّهاينة وبتشجيع منهم، ومورست في سبيل تنفيذها أعمال عنف وتشريد شاركت فيها قوَّات جيش الدِّفاع الإسرائيلي وعصابات الهاغانا.
دور فعَّال للباطنيين في تأسيس إسرائيل
تتناول ليلى بارسونز، أستاذ التَّاريخ والدِّراسات الإسلاميَّة في جامعة مكغيل الكنديَّة، في دراسة عنوانها ” The Druze and the birth of Israel-الدُّروز ومولد إسرائيل”، تحالُف اليهود مع الأقليَّة الدُّرزيَّة من عرب فلسطين خلال أشهر حرب 1948م، ومدى تأثير ذلك التَّحالف في نشأة الدَّولة العبريَّة وتهجير سكَّان فلسطين الأصليين من المسلمين العرب. كما أشار بيني موريس ونُبِّه إليه من قبل، لم تكن الأقليَّة الدُّرزيَّة من أولويَّات بن غوريون في خطَّته لتهجير الفلسطينيين، حيث لم يجدها تشكِّل خطورة على المجتمع الإسرائيلي الوليد. هنا يجب التَّنبيه إلى أنَّ الدُّرزيَّة هي عقيدة باطنيَّة انبثقت عن عقيدة الشِّيعة الإسماعيليَّة، وهي فرقة من غلاة الشِّيعة تخالف صحيح الإسلام. برغم اشتراك الدُّروز مع المسلمين في الشَّهادتين وإيمانهم بالقرآن الكريم والقدر واليوم الآخر، كما يذكر محمَّد علي الزُّغبي في كتابه الدُّروز ظاهرهم وباطنهم (1956م)، فعقيدتهم تستقى الكثير من أركانها من الغنوصيَّة والأفلاطونيَّة، كما جاء في كتاب The Israelis: Ordinary People in an Extraordinary Land-الإسرائيليون: أناس عاديون في أرض غير عادية (2003م)؛ ممَّا يعني أنَّهم أقرب إلى اليهود في التَّكوين العقدي.
تؤيِّد بارسونز ما سبق وأن أثاره بيني موريس، من أنَّ الحُكَّام العرب ليسوا مسؤولين عن دفْع الفلسطينيين إلى الرَّحيل عن أراضيهم، وأنَّ خروجهم كان تهجيرًا قسريًّا استُخدمت فيها القوَّة المفرطة. مع ذلك، فالباحثة تختلف مع موريس فيما طرحه في كتابه مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين 1947-1949 (1987م، ص225)، عن غياب “إشارة واضحة صادرة لقادة القوَّات الإسرائيليَّة المتقدِّمة بشأن كيفيَّة معاملة أيَّة جماعة دينيَّة أو عرقيَّة يتم الالتقاء بها”؛ حيث ترى أنَّ عمليَّة التَّهجير كانت انتقائيَّة، في تمييزها بين الفلسطينيين بحسب الانتماء الدِّيني. تثير الباحثة مسألة هامَّة، وهي عدم تنفيذ مخطَّط الاحتلال الإسرائيلي لترحيل الدُّروز من فلسطين إلى جبل الدُّروز في سوريا، وهي تُضاف إلى عدم مشاركة الأقليَّة الدُّرزيَّة في الثَّورة الكبرى (1936-1939م)، وكذلك إلى انضمام عناصر من جيش التَّحرير العربي من الدُّروز إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي؛ وفي ذلك ما يثبت أنَّ مسار الأقليَّة الدُّرزيَّة كان ضمن إطار خدمة مصالح اليهود، على حساب المسلمين. اعتمد اليهود سياسة التَّقرُّب إلى الأقليَّات غير المسلمة في أقاليم الشَّام كافَّة، ولقي الدُّروز في فلسطين حفاوة بالغة تحت الانتداب البريطاني؛ وينطبق الأمر نفسه على أتباع النصيريَّة في سوريا، والمسيحيين الموارنة في لبنان، أثناء خضوعهما للانتداب الفرنسي.
تشير بارسونز حدثين يوضحان “مدى التَّآمر بين الدُّروز والصَّهاينة”، أحدهما يرتبط بمشاركة الدُّروز في قتال المسلمين من أبناء فلسطين، والآخر يتمثَّل في التآمر على المسلمين بالتَّنسيق مع قوَّات الاحتلال قبل غزو مدنهم. في عام 1948م، انضمَّ عددٌ من أبناء الأقليَّة الدُّرزيَّة إلى قوَّات الاحتلال الإسرائيلي، ممَّا شكَّل نواة الوجود الدُّرزي في جيش الاحتلال، الَّذي قدَّم خدمة بالغة الأهميَّة للجيش بتوفيره عناصر تتحدَّث العربيَّة، كان لوجودها تأثيرٌ كبيرٌ من النَّاحية الدَّعائيَّة. بعيدًا عن التَّعاون العسكري بين اليهود والدُّروز، فهناك تعاونٌ تآمري بالغ الخسَّة بين الطَّرفين خلال عمليَّة ديكل، أو شجرة النَّخيل، في يوليو 1948م، الَّتي استهدفت منطقة شمال فلسطين، وأدَّت إلى سقوط ما يقرب من 30 قرية فلسطينيّة، من بينها النَّاصرة وكفر كنا وصفوريَّة وحطِّين. تذكر الباحثة، استنادًا إلى ما رواه قادة جيش الاحتلال المشاركين في العمليَّة، أنَّ قبل احتلال مدينة شفا عمرو، اجتمع قادة عسكريين مع مدنيين من الدُّروز من سكَّان المدينة، واتَّفقوا معهم على التَّظاهر بالدِّفاع عن المدينة وإلهاء باقي السُّكَّان عن الهجوم الإسرائيلي. تنقل بارسونز عن السِّياسي الإسرائيلي ياكوف شيموني قوله “لم نصادف أيَّة مفاجآت عسكريَّة في الجليل، والفضل لجمع المعلومات ولمعركة شفا عمرو الَّتي كانت محصِّلة للعلاقات الطَّيِّبة مع الدُّروز وتنظيم العمليَّة من الدَّاخل” (ص70). تواصل الباحثة نسْف زعْم بيني موريس بأنَّ التَّهجير من قرى فلسطين ومدنها خلال أشهر حرب 1948م لم تكن أبعاد عنصريَّة، مشيرةً إلى أنَّ الدُّروز لم يُجلوا من مدنهم وقراهم، ولا توجد مصادر توثِّق ذلك.
ومن بين الأسباب الَّتي تسوقها الباحثة للتَّقارب بين اليهود والدُّروز على حساب المسلمين، برغم اتِّخاذ الدُّروز مظهرًا دينيًّا أقرب للإسلام وزعمهم الإيمان بالعديد من العقائد الإسلاميَّة، أنَّ الدُّروز اعتمدوا على التَّقيَّة في خداع المسلمين بأنَّهم منهم، بينما أخفوا عقيدتهم وانتماءهم الحقيقيين حتَّى كشفت تصرُّفاتهم بعد اندلاع حرب 1948م عن تحالفهم السِّرِّي مع اليهود على حساب سُكَّان فلسطين الأصليين. تستشهد بارسونز بما أورده الياهو ابشتين في مقاله ” The Druse People – Druse Community in Palestine – Traditional Friendship to the Jews-الدُّروز-المجتمع الدُّرزي في فلسطين-الصَّداقة التَّقليديَّة مع اليهود”، والمنشور عام 1939م، أي قبل النَّكبة بقرابة عقد من الزَّمن (ص80-81):
لأنَّ الدُّروز على وجه الخصوص حريصون كلَّ الحرص على عدم كشْف أسرار ديانتهم للأغراب، مثلهم مثل النُّصيريَّة الَّذين يقطنون المناطق العلويَّة في سوريا، فإنَّهم يؤمنون بمبدأ التَّقيَّة، فهذا المبدأ يُلزم الدُّروز لأسباب معروفة بأن يتَّخذوا مظهر ديانة مختلفة من النَّاحية الظَّاهريَّة، عادةً الدِّيانة المهيمنة في المنطقة الَّتي يعيشون فيها…لقد كانت حياة أولئك “المارانو” مصحوبة بالمعاناة الرُّوحيَّة والجسديَّة العظيمة، ولذلك تنامى لديهم إحساس بالغيرة الشَّديدة والكره نحو أولئك الحُكَّام ودينهم وعاداتهم الَّتي اضطروا إلى اتِّباعها، وخاصَّة المسلمين.
يُفهم من رأي ابشتين عن الدُّروز أنَّه يعتبرهم أقرب إلى اليهود من النَّاحية العقديَّة، خاصَّة مع تشبيهه إيَّاهم بيهود المارانو، وهم فئة من يهود إسبانيا، ادَّعوا اعتناق المسيحيَّة بعد سقوط الأندلس واضطهاد السُّلطة الكاثوليكيَّة لغير المسيحيين، بينما مارسوا شعائرهم سرًّا. وتؤكِّد بارسونز على الموقف الغادر للدُّروز تجاه المسلمين بالإشارة إلى أنَّهم ليسوا من العرب، وأنَّهم ادَّعوا انتماءهم للعالم العربي من باب اكتساب شرعيَّة في البقاء بين أهله، استنادًا إلى ما جاء في كتاب The Origins of the Druze People and Religion-أصول الدُّروز وديانتهم (1928م) من أنَّ الدُّروز اتَّبعوا التَّقيَّة في الزَّعم بأنَّهم من العرب، الَّين يختلفون عنهم في المقاييس الحيويَّة؛ لشعورهم بأنَّهم أقليَّة يسهل القضاء عليها.
(المصدر: رسالة بوست)