عن غلاة طاعة «ولي الأمر»
بقلم بسام ناصر
على خلاف ما كان سائدا ومستقرا في عهد الخلفاء الراشدين من الالتزام بالشورى طريقا لإسناد السلطة والحكم، فقد جنح الأمويون إلى سلوك طريق آخر ألا وهو توريث الحكم، فانتقلت معه طريقة إسناد الحكم من الشورى إلى التوريث، لأسباب وظروف قاهرة فرضت نفسها على الأمة الإسلامية بعلمائها ورجالاتها وأهل القوة فيها، الأمر الذي تناقله المسلمون جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا.
من المؤكد أن الفقهاء الذي رضخوا لواقع الأمر في قبول (توريث الحكم وولاية المتغلب) إنما استجابوا لها بحكم الظروف القاهرة، والاضطرار الملجئ، ونظروا إليها باعتبارها حالة استثنائية، يصار إليها بحكم الضرورة تماما كما يباح للمضطر شرب الخمر وأكل الخنزير إذا خشي على نفسه الهلاك.
لكن مع تتابع الممارسة الإسلامية وركونها إلى حالة الاستثناء، باتت تلك الحالة في ثقافة الأجيال المتأخرة وعرفها وكأنها هي الأصل الذي لا محيد عنه، وتم إنتاج منظومات فقهية تنظر لتلك الحالة، وتدافع عنها وتبرر لها، وصاحبها حالة من تعظيم «ولي الأمر» إلى درجة تصون جنابه المقدس عن الانتقاد أو المساءلة حتى لو تلبس بأخطاء واضحة، ومارس أفعالا وسياسات مستنكرة.
لم يعد «ولي الأمر» هو ذاك الشخص الذي اختارته الأمة، ليتولى تدبير شؤونها، إذ هي صاحبة الحق في إعطائه الشرعية ابتداء، وهو يعمل عندها خادما لها، وقائما على أمورها وشؤونها، ملتزما بأحكام الشريعة وتعاليمها، وهي صاحبة الحق في عزله إن وقع منه ما يستوجب ذلك، فليس هو بالحاكم المطلق، وإنما مقيد بأحكام الشرع أولا، وملتزم بمصالح الأمة وحفظها والقيام عليها ثانيا.
هل كان «ولي الأمر» في الممارسة الإسلامية في مرحلة الخلافة الراشدة فوق المساءلة؟ وهل كان انتقاده يعني تأليب الناس على حكمه وسلطانه؟ وهل منع فقهاء الصحابة رضي الله عنهم عامة الصحابة من مساءلة ولي الأمر ومحاسبته؟ وهل كانت هذه سنتهم وطريقتهم في التعامل مع «أولياء أمورهم».
ثمة أدلة واضحة في دلالتها على أن طريقتهم لم تكن كذلك، بل كانوا لا يترددون في مساءلة «ولي الأمر» ومحاسبته علانية، كتلك الواقعة التي روها ابن القيم في (إعلام الموقعين) حينما أتت ثياب من اليمن إلى عمر بن الخطاب فوزعها على المسلمين ثوبا ثوبا، وأخذ هو ثوبا مثلهم، وحينما صعد المنبر ليخطب بهم الجمعة، قال: أيها الناس: اسمعوا وأطيعوا، فوقف سلمان الفارسي وقال له: والله لا نسمع ولا نطيع، فقال عمر: ولم يا سلمان؟
فقال سلمان: تلبس ثوبين وتعطينا ثوبا واحدا. فقال عمر: يا عبد الله بن عمر أجب سلمان، فقام عبد الله وقال: إن أبي رجل طويل القامة، عظيم البنية ولما لبس ثوبه كان عليه قصيرا، فأعطيته ثوبي، فوصله به، فصار كما ترى، فقال سلمان: الآن قل نسمع وامر نُطع.
وفي واقعة أخرى شهدها الصحابي أبو سعيد الخدري زمن عبد الملك بن مروان، حينما بدأ خطبة العيد قبل الصلاة على خلاف السنة، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال عبد الملك: قد تُرك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.. الحديث» وفي رواية البخاري ما يفيد أن أبا سعيد الخدري أنكر بنفسه على عبد الملك تقديم الخطبة قائلا له «غيرتم والله»، فقال له عبد الملك: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم.
فولي الأمر في فقه الصحابة ودينهم واحد منهم، يحاسبونه ويراقبون أفعاله وسياساته، وليس فوق النقد والمساءلة كما صنعته الممارسة الدينية في العصور اللاحقة، وها هي الأمم الحية في زماننا تراقب سياسات حكامها وتحاسبهم، وتملك آليات عزلهم إن اقتضى الأمر ذلك، لأنها صاحبة الحق في إسناد الحكم والسلطة لهم، فلماذا لا يكون ذلك للمسلمين كما هو لغيرهم؟
(المصدر: موقع بصائر)