مقالاتمقالات مختارة

عندما يؤمن المؤمن بالمَلِك الحَق

عندما يؤمن المؤمن بالمَلِك الحَق

بقلم هدى عبد الرحمن النمر

تأمل في هذه العلاقات:

 علاقة الفتى المملوك بسيده المالك
 علاقة الموظف بالمدير
 علاقة الابن بوالديه

تجد في كل هذه الصلات نوع مِلكيّة مجازية؛ لأنه لا يمكن لمخلوق أن يملك مخلوقا آخراً -على الحقيقة كما ذكرنا- وتلك الملكية المجازية تفرض نوعاً من القواعد والآداب الحقيقية في التعامل، وتُلزِم الطَّرف المملوك فيها بمسؤوليات وواجبات تجاه الطرف المالك، وتعطي المالك حق الحرية والتصرف في ملكه، فإذا كان هذا الحال في صلات ملكية بشرية، فكيف بالملكية الإلهية؟ كيف بما بين البشر وخالقهم، الذي أوجدهم حقيقة، ويملكهم حقيقة لا مجازاً؟

إذا كان هذا الحال في صلات ملكية بشرية، فكيف بالملكية الإلهية؟ كيف بما بين البشر وخالقهم، الذي أوجدهم حقيقة، ويملكهم حقيقة لا مجازاً؟

كم نكثر من تشبيه صلتنا بالله بصلتنا بآبائنا، لتقريب مختلف أوجه الشبه، كالسلطة العليا ووجوب الطاعة، وتأكيد الرحمة الكامنة بالرغم من الشدّة الظاهرة… إلخ، حتى صرنا لا نفرّق المجاز عن الحقيقة! ذلك أن والدِينا لا يملكوننا حقيقة، ولم يخلقونا حقيقة، ولسنا لهم تبَعاً حقيقة، ولا مدينين لهم بحق الخلق ولزوم العبودية، ولولا ما جَبَل الله عليه الولد من تقدير والديه، ثم ما فرض لهما عليه من بِـرّ، ما كان لهم على الأبناء حق عُرفاً أو شرعاً، فتأمل!

أما ربنا المالك – تبارك وتعالى – فخَلَقنا حقيقة، ويملكنـا حقيقة، ونحن له تبَع حقيقية، فتأمل!

وعندما نشبّه صلتنا بالله بصلة مدير ومرؤوس، لا ننتبه إلى فارق أنّ تلك العلاقـة البشرية قائمة على منافع وأحقّية متبادلـة على اختلاف المراتب ، فالمدير يستحق وينتفع معاً من خدمات المرؤوسين، كما يستحقون هم منه قبض ثمن تلك المنافع، أمّا في صلتنا مع الله تعالى، فالله غنيّ عنّا غِنىً مطلقاً ونحن المحتاجون إليه حاجة كلية، والمنفعة المتحققة هي من جهتنا فحسب، ولا مجال لأحقية متبادلة؛ لأن الله تعالى لا يَلزَمه شيء تجاه أحد، وهو المهيمن على الكل بلا مُنازع، وما تفضَّل الله تعالى فوعد به عباده المؤمنين من الفوز والنعيم، فمحض تفضّل منه تعالى، وإن نسبه كرماً ومنّة منه -سبحانه- لطاعتهم واستقامتهم، وإن اللهَ تعالى لو يحاسب الناس حساباً دقيقاً مستوفياً، ما نجى أحد! مصداق قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45] ، وقوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ} [النحل: 61].

تأمل فيما ورد على لسان سيدنا عيسى -عليه السلام- كما حكى عنه القرآن: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، تلك العبارة المحكمة، التي ردّ فيها الرسول -عليه السلام- المشيئة المطلقة لله تعالى، يفعل بخلقه ما يشاء، فإنه تعالى الفعّال لما يريد، والأعدل حكماً والأحكم تقديراً، فلو يؤاخذ الله خلقه كلهم -مؤمنهم وكافرهم- ما كان لأحد أن يسائله تعالى عن تصرفه في ملكه وخلقه، بل وما كان لأحد أن يصف ذلك بالظلم -تعالى المولى وتقدّس- فأين الظلم إذا لم يكن لمخلوق من الأمر شيء أصلاً، بل لم يكن هو شيئاً قبل أن يخلقه ربه! وانظر لربط المغفرة باسمي ووصفي العزة والحكمة في هذا السياق: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، ولم يقل “العفو الغفور”، أو “الرؤوف الرحيم” مثلاً؛ لأنه مقام مَلِكٍ حقٍّ في مُلْكه الحق، فالله تعالى هو العزيز الجليل القهار المتعالي في عقابه وعفوه معاً، فلا يُعجزِه عقاب ولا يلزَمه عفو.

وفي الحديث “عن زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم – يَقُولُ: “لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ، وَأَهْلَ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْراً لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَباً، أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَباً تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ” [سنن أبي داود وابن ماجه].

– وهو غير ظالم لهم: لأن الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، فلا وجه للظلم أصلاً.

– ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم: لأنها محض فضل منه سبحانه على مملوكيه، وهي خير من أعمالهم الصالحة كلها بل إن أعمالهم الصالحة من ضمن رحمته بهم ومن ثم توفيقهم لها .

وكما أنه تعالى الملك ذو المشيئة المطلقة في ملكه، وأنه تعالى الحق لا يخرج عن حكمه شيء ولا يَفُوته أحد، فهو كذلك سبحانه الحكيم في كل فعله، يتنزه ويتعالى عن خلق أي شيء أو أحد عبثاً أو خطأ، ويتقدس عن إغفال أمر خلقه بعد خلقهم.

فهذا كله مقتضى إيمان المؤمن بمصداق قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116].

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى