مقالاتمقالات مختارة

عندما تهدد الجريمة أركان الاستبداد

عندما تهدد الجريمة أركان الاستبداد

بقلم محمد هنيد

اليوم وبعد قرابة شهر من جريمة الإغتيال اتضحت الكثير من معالم العملية ودوافعها وأبعادها وأهدافها. فالجريمة السياسية أو جريمة التصفية السياسية ليست جديدة في المنطقة العربية ولن تكون عملية تصفية الصحفي جمال خاشقجي الأخيرة في سلسلة جرائم الاستبداد العربي. لقد تم استدراج الرجل إلى تركيا وتحديدا إلى مبنى قنصلية بلاده من أجل قتله ونقله إلى السعودية كما أكد ذلك النائب العام التركي مؤخرا وهو أمر لم تنفه السلطات السعودية.

خاشقجي الإصلاحي

كان السيد خاشقجي يمثل جناحا خاصا من المثقفين السعوديين، فهو لم يكن معارضا للنظام بمعنى المعارض السياسي الذي يطالب بتغيير نظام الحكم، بل كان أقرب ما يكون إلى المصلح السياسي الذي يطالب بمزيد من الحريات ويرفض القمع واعتقال الرأي ومصادرة حقوق الصحفيين. لكن من جهة أخرى كان الرجل قريبا من دوائر الحكم عارفا بخبايا البلاط ومطلعا على الكثير من الملفات والخصوصيات التي قد تكون أحد أسباب تصفيته رغم  ما يتمتع به من شهرة عالمية ورغم ما يحظى به في الدوائر الإعلامية العربية من احترام وتقدير.

لقد حاول الرجل كثيرا تقديم النصح للنظام السياسي الحاكم في المملكة لكنه أدرك بسرعة أن النظام الحالي لن يقبل النصح من الداخل خاصة بعد حملة الاعتقالات التي طالت الشيوخ والدعاة الذين كانوا إلى وقت قريب مقربين من السلطة ومن دوائر القرار فيها. قرر مغادرة الوطن ومواصلة المطالب الإصلاحية من الخارج جريا على عادة الكثير من الصحفيين والمفكرين والكتاب العرب. لكن بعد أن رفض الاستجابة لكل مطالب السلطة السياسية بالعودة إلى البلاد قررت هذه الأخيرة التخلص منه في واحدة من أبشع الجرائم ضد الصحفيين في القرن العشرين.

قد لا يختلف اثنان في أن جريمة اغتيال خاشقجي لا تقارن بالمجازر التي ترتكبها الأنظمة العربية يوميا في حق الأبرياء والأطفال والنساء والشيوخ في اليمن والعراق وسوريا ومصر وليبيا مثلا. لكن رغم كون ضحايا هذه المجازر يفوقون في العدد ضحايا الجرائم والحوادث الفردية إلا أن تأثير الجريمة الأخيرة والتغطية الإعلامية التي صاحبتها يعتبر هائلا مقارنة بالجرائم الأخرى.

ظاهرة دولية

كيف يمكن لحدث فردي أن يتحول إلى ظاهرة دولية؟ هل هو الإعلام والتغطية الإعلامية أم هي قيمة الشخصية ووزنها أم هو السياق وخصائصه؟ ما هي العوامل التي تتحكم في عولمة الظواهر الفردية؟

بالأمس القريب عندما أحرق محمد البوعزيزي نفسه في ردة فعل عنيفة على معاملة الشرطة له لم يكن لأحد أن يتوقع النتائج الهائلة لهذا الحدث الفردي. فقد أسقط انتحار البوعزيزي أنظمة استبدادية راسخة ولا تزال تداعيات هذا الفعل الفردي لم تنته بعد سواء على المستوى المحلي أو الاقليمي أو الدولي. لا يمكن فعليا رصد كل الأسباب التي حولت هذا الفعل المنعزل إلى كرة من الثلج التي لا تزال تتدحرج خاصة إذا اخذنا في الاعتبار أن طبيعة الظواهر الإنسانية شديدة التعقيد ولا تخضع لإمكانيات القيس الكمي الذي تخضع له بقية الظواهر الطبيعية.

بين خاشقجي والبوعزيزي

اليوم كذلك ما كان لجريمة جمال خاشقجي أن تنال مثل هذا الزخم الذي نالته دون أن تتوفر لها الشروط الذاتية والموضوعية التي جعلت منها قضية رأي عام دولية. ففي الحالة الأولى الأكثر تمثيلا للظاهرة ما كان البوعزيزي غير بائع متجول في ريف مثقل بالفقر والتهميش لكن قضيته تحولت بسرعة كبيرة إلى أعظم الحركات الاحتجاجية العربية منذ عقود. فالسياق الإجتماعي والسياسي التونسي وحالة الاحتقان والفقر التي تعيشها شرائح كبيرة من المجتمع هي التي سمحت إلى جانب تطور وسائل التواصل الاجتماعي بدفع الحالة المعزولة إلى صدارة الأحداث العالمية.

أما قضية الصحفي السعودي فقد توفر لها هي الأخرى سياق ملائم تمثل أساسا في الشروط المتعلقة بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي بشكل عام. إن تفاقم أزمة الحريات في الخليج وتورط النظام السعودي في أحداث اليمن وفي حصار قطر وشهرة الرجل العالمية وطبيعة الجريمة البشعة وما حف بها من غموض في بدايتها كلها عوامل فاقمت من أهميتها وجعلتها تتصدر الأخبار العالمية في أكثر من بلد. كما أن التغطية الإعلامية التي حظيت بها خاصة من طرف قناة الجزيرة هي التي جعلت من الرأي العام العربي والعالمي مشدودا إليها بهذا الحجم.

مصير الحكم السعودي

اليوم تكاد تحدد هذه الجريمة مصير النظام السياسي في المملكة العربية السعودية وتكاد تحدد معه مصير حرب اليمن وحصار قطر وربما حتى الانقلاب العسكري في مصر. وهو ما يجعل من وزن الجرائم والحوادث الفردية في سياقات معينة أهم وأخطر وأعمق أثرا من كل الأفعال الجماعية الممكنة متى توفرت الظروف الذاتية والموضوعية لذلك.

بناء على ما تقدم فإن تقليد تصفية الخصوم السياسيين في المنطقة العربية لن يكون كما كان قبل جريمة إغتيال جمال خاشقجي بسبب طبيعة الإرتدادات العكسية لهذه الجرائم من ناحية وقدرتها على تحويل النتائج المرتقبة منها إلى الضد تماما. إن انفجار وسائل التواصل الاجتماعي بالشكل الذي هي عليه اليوم يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن قدرة النظام الرسمي العربي على طمس آثار الجرائم التي يرتكبها صارت مستحيلة تماما بل وصارت خطيرة جدا على وجوده بما تشكله تداعياتها من تهديد مباشر لأركان نظامه.

هكذا تؤكد ثورات الربيع وما لحقها أن مطلب الحرية لا ينفك عن تعزيز وجوده في الساحة العربية باعتباره مطلبا أساسيا لا يمن إلغاؤه. وهكذا أيضا يصل النظام الرسمي العربي مجددا إلى قناعة راسخة بأن الأساليب القديمة في القمع وتكميم الأفواه هي التي ستعجل بسقوطه من داخل النظام نفسه لا من خارجه.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى