مقالات مختارة

“علماء” السوشيال ميديا

بقلم محمد علي يوسف

 

دخل رجل من المغاربة على إمام المدينة وشيخها الجليل مالك بن أنس يستفتيه في مسألة، فقال: لا أدري، ما ابتلينا في هذه المسألة في بلدنا، ولا سمعنا أحدا من أشياخنا تكلم بها، ولكن تعود، فلما كان من الغد جاءه الرجل وقد حمل ثقله على بغلة يقودها، فقال: مسألتي؟ قال: ما أدري ما هي. فقال الرجل -كأنه يغريه بالجواب- يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك، قال -رضي الله عنه-: فإذا رجعت إليهم فقل لهم: إن مالكا لا يدري!
هذه القصة تدهشني كلما قرأتها كأنما أقرؤها لأول مرة في كل مرة، ليس لأنك أمام عالم غاب عنه الدليل في مسألة فسكت، أو ربما تحرج من الإجابة على فتوى يعرف مراميها لكنه تورع عن تحمل أعباء الجواب، ولكن لأنك أمام عالم كبير، استعلى على شهوة نفسه. لم تخدعه شهرته -وقد بلغت طباق الأرض- ولم يغره علمه -وقد حوى صدره حديث رسول الله وتراث السلف- أن يتحدث الركبان أن مالك يقول: لا أدري!  ولئن كانت الفتيا في زمان مالك تشد إليها الرحال من مغرب الأرض إلى مشرقها، فقد تطاول بنا العهد حتى تكشف عن زمن هانت فيه الفتيا حتى على غير أصحاب الشأن، وتصدى لها عدد كبير ممن قصر في العلم باعهم، وقلت بضاعتهم، فصاروا يفتون الناس في شؤون المعاش والمعاد، لا تغلبهم الحيل، ولا تنقطع بهم السبل، كأن صدورهم حوت علم الأولين والآخرين.

الإسلام الذي نفهمه ويجب أن ندعو الناس إليه ليس فكرا سقيما، ولا أفقا ضيقا يحصر الناس في آراء ومذاهب معزولة عن بيئتها وواقعها، وإنما دعوة حية

وقد أتاحت لهم الثورة التكنولوجية الهائلة في العقدين الأخيرين، وفضاءات “السوشيال ميديا” فرصة الذيوع والانتشار، خاصة في أوساط الشباب الذين يعوزهم الجهل، وعدم القدرة على الاستنباط، وتأسرهم قوة الحجة والقدرة على الإقناع. فترى ثلة من أنصاف المثقفين وأرباع المثقفين، يهرفون بما لا يعرفون، وينشرون “الفَتى” (بفتح الفاء وسكون التاء كلمة عامية مصرية تعني التقول بغير علم) لا الفتيا (بضم وسكون) يمنة ويسرة، فيَضلون ويُضلون!

فلا غرابة -اليوم- أن تجد فتاة تسأل عن شاب تقدم لخطبتها وما الذي يجب عليها أن تفعله؟ وعن أي شأن تحادثه؟ فيجيب “الشيخ”: ألا تتحدث! بَله أن تنظر إليه أو يرتد طرفها، لأن الحياء قيمة نفيسة، إن حرصت عليها وتمسكت بها فإن الله يختار لها أفضل من اختيارها لنفسها! وتسأل إحداهن آخر: كيف تفعل إذا مد أحدهم يده مصافحا، وإن كان أستاذا أو شيخا طاعنا في السن؟ فيجيب حازما: ألا ترد سلامه، أو تحبين أن توضع جمرة ملتهبة في يدك؟!

إن الإسلام الذي نفهمه والذي يجب أن ندعو الناس إليه ليس رؤى قاصرة، ولا فكرا سقيما ولا أفقا ضيقا يحصر الناس في آراء ومذاهب معزولة عن بيئتها وواقعها، وإنما هو دعوة حية، وروح تسري في جسد هذه الأمة فتحرك سواكنها، وترفع دعائمها، وتشيد بنيانها!

كان “ابن هرمز” -رحمه الله- يقول: ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول: “لا أدري” حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري، قال: “لا أدري”، فكيف بمن لم يبلغ من العلم مبلغ مد ابن هرمز ولا نصيفه؟ على أن الخطر أدهى من أن يكون قاصرا على دعاته، لكن جوهر المأساة يكمن في ما يخلفه هذا الهراء من أثر في نفوس الأغرار الذين قلت بضاعتهم من العلم الشرعي، وتلمسوا الزلال في عين موحلة، ثم ما يتبع ذلك من سلوك عملي يسلكونه.

فمن يعلم هؤلاء اليوم أن مالكا كان يحدث: “ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا، وإن أحدهم إذا سئل عن مسألة كأن الموت أشرف عليه، وكان عمر بن الخطاب وعلي وعلقمة وخيار الصحابة، كانت تتردد عليهم المسائل وهم خير القرون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألون عنها ثم يفتون فيها”، فعسى إن فاتهم أن يبلغوا من العلم مبلغ مالك، ألا يفوتهم أن يبلغوا من الورع مبلغ ابن هرمز!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى