مقالاتمقالات مختارة

عظمة ورقي المنهج الإسلامي في صياغة القانون الدولي

عظمة ورقي المنهج الإسلامي في صياغة القانون الدولي

بقلم د. محمد الجوادي

كان الرقي الذي بلغه القانون الدولي في الإسلام من الموضوعات التي عني بها الدكتور عبد الحميد بدوي معبرا عن ذروة عالية في مقاربة القضايا الثقافية والفكرية من خلال ثقافة القانون والسياسة. وقد تناولنا ما ذهب إليه هذا الفقيه القانوني من آراء أصيلة في كتابنا المحجوب من النشر حتى الآن: “مفتي الحقبة الليبرالية الدكتور عبد الحميد بدوي”.

وقد تمكن هذا الفقيه العظيم من أن يبين مدي النجاح الذي حققه الإسلام في تنظيم العلاقات الدولية، ودعم التعاون الدولي في العصر الذي ظهر فيه، وما كان قد سيطر على هذا العصر من شعور كاذب بما يسمي السلم الروماني، فإذا بالإسلام يقدم صيغة جديدة للعلاقات الدولية تقوم على حرية الرأي، وعدم الإكراه في الدين والتسامح وهو على سبيل المثال يقول: «….. يكفيني أن أذكر بأن العالم حين ظهر الإسلام نورا هاديا، وخيرا وبركة على الناس، كانت تسوده دولتا الروم والفرس، ولا ينكر أحد ما كان ينخر عظامهما من ظلم فاحش، وفساد منتشر، وكان العالم إذ ذاك يعاني السلم الروماني، وهو سلم بني على إخضاع الأمم الضعيفة، واستغلالها لمصلحته في إقامة آمن سلام…».

«فكيف كانت سيرة الإسلام، ولو لم يكن يقوم به ويدعو له إلا فئة قليلة». «هل مشي العرب بين الناس مصعرين خدودهم ينادون بسمو عنصرهم وحقهم في سيادة العالم، والسيطرة عليه، أم كان كل أمرهم أن يدعوا الملوك والأمراء إلى الرضا بحكم الدين الذي ذكرت لكم مبادئه في سياسة الشعوب، وفي حقوق الأفراد، وقليل من المقارنة بين حال البلاد التي دخلها الإسلام قبله وبعده، جدير بأن يظهركم على بطلان ما اتهم به الإسلام».

«وهل كانت نوازع دولة الإسلام حين استتب لها الأمر تقوم حيث قامت إلا على نظام بني على حرية الرأي، وعدم الإكراه في الدين، وتسامح متساهل ضربت بهما الأمثال». «وهل كانت سيرة الإسلام تحرشا وتحكما واعتداء، أم كانت سلما ومهادنة وأمنا عادلا». وعلى نحو ما أبان الدكتور عبد الحميد بدوي عما قدمه الإسلام للإنسانية والعلاقات الدولية عندما ظهر إلى الوجود، فإنه استكمل بناء هذه الصورة برسم ملامح العلاقات الدولية في زمن تالٍ بعدما تقلصت حدود دولة الإسلام مترامية الأطراف:

«وهل كان تقلص ظل دولته المترامية الأطراف إلا إيذاناً بعهد مظلم طال ظلامه حتى طلع على الناس في عصر النهضة الصليبية، وكان المسلمون فيها مدافعين عن حماهم دون أن يذكروا أنها كانت دروسا في المروءة والشهامة والفروسية، وأنها كانت فتحاً جديداً على أوروبا بما أفاده الصليبيون من الاتصال بالشرق من علم وصناعة».

«ذلك هو شأن الإسلام في العلاقات الدولية جملتها، فإذا شئتم تفصيلا مما تسمح به الدقائق المعدودات فلعلكم ذاكرون أن الدول الغربية ابتدعت في عهد غير بعيد شيئاً سموه القانون الدولي، ينظم علاقات الدول بعضها ببعض في شئون الحرب والسلم، وذهبوا يتجادلون في سلطانه ولا يزالون في أخذ ورد بشأنه، والزيادة عليه، والإضافة إليه، يعملون به تارة، ويهملونه أطوارا، ولعله واصل بعد هذه الحرب إلى قدر يحمد من الثبات والاستقرار». «وللإسلام أن يفخر بأنه منذ نشأته الأولى مضي يرسم آداب الحرب والسفارات وموعدها، وأصول العلاقات السلمية بين الدول».

«أما الحرب فقد جعل الإسلام يبين الأخذ بأسباب الوساطة والتوفيق وإصلاح ذات البين أولا وآخرا، وواجب مناصرة من اعتدي عليه، وفي ذلك يقول الله تعالي: “وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ”.

«وإذا تركنا الجهاد جانبا إذ كان يقتضي بحثا خاصا لا يحتمل المقام، فإن الإسلام ينهي عن حروب الاعتداء، ولا يعرف إلا حروب الدفاع، ويوجب نصرة المعتدي عليهم، ويقول الله تعالي: “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ”.

وفي وقت مبكر ألقي الدكتور عبد الحميد بدوي الضوء حول القواعد الفقهية والخلقية الحاكمة للحروب، وللعلاقات الدولية في الإسلام: «وقد وضع الإسلام للحروب قواعد، ورسم لها آداباً، فحرم قتال النساء والأطفال، ونهي عن التمثيل والتعذيب والتشويه والتحريق، كما حرم قتل الرهائن، وفرق بين الجيوش المتحاربة وغيرهم ممن نسميهم الآن المدنيين، وحرم منع المؤن والمياه عنهم، وعرف نظام المهادنة والأمان الذي يرفع عن المؤمن من صفة العداء فلا يحل التعرض له في حريته أو ماله، ويقول الله تعالي: “وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه”.

«وعرف الإسلام ما نسميه الحروب الأهلية، وهي ما سماه قتال أهل البغي، أي قتال الخارجين على الإمام، المخالفين للجماعة، ووضع لها سننا [وأحكاماً] أرفق من حروب المقاتلين الذين لا يظلهم ولاء واحد». «وتفيض الكتب الإسلامية بالكثير من الأقوال المأثورة في آداب الحروب، وفي ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: “لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخرب عامرا، ولا تعقرن شاة إلا لمأكله، ولا تغرقن نخلا ولا تحرقنه”».

وتناول الدكتور عبد الحميد بدوي بالنقد المهذب حديث الأوروبيين المكرور والممرور عن أن الإسلام يقسم العالم إلى دار سلام، ودار حرب، مقدماً المفهوم الصحيح لهذا المعني القانوني والفقهي المهم الذي أسيء نقده بأكثر مما أسيء استخدامه: «وإذا كان الفقه الإسلامي يقسم العالم إلى دار سلام ودار حرب، فليس معني ذلك أن الإسلام يعيش أبدا في حالة حرب مع البلاد التي تجاوره أو تبعد عنه، والتاريخ يدل على أنه بعد أن نشر الإسلام دعوته عاش مع البلاد الأخرى في سلم وأمان».

«وقد أقر الإسلام مبدأ التعاهد بين المسلمين وغيرهم، ويقول الله تعالي: “إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين”». «وقد عقد النبي عليه الصلاة والسلام في مستهل عهده بالمدينة أول معاهدة مع أهل الكتاب».

«وحث الإسلام على تنفيذ أحكام التعاهد، والقيام بالواجبات التي تفرضها بقوله تعالي: “وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا”، ويقول النبي عليه السلام: “إلا مَنْ ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته أو أنقصه أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه، فأنا حجيجه (خصمه) يوم القيامة”». «كما يؤثر عنه أنه قال: “مَن ْ كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء”».

«ومنذ بدأ الإسلام مضي على إرسال السفراء والمبعوثين واستقبالهم، وعرف ما لهم من حرمة بدأت بقول النبي عليه السلام حين جاءه مبعوثان من مسيلمة وفاها في حضرته بما أثاره “لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكم ولم تزل تنظم تلك الحرمة والحصانة، وتزداد على مدي الأيام حتى بلغت مرتبة الإكرام».

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى