مقالاتمقالات مختارة

عصرنة الاستبداد

نهجت الأنظمة الدكتاتورية المتعاقبة، على مر العصور اتخاذ أسوأ وأعنف أنواع الممارسات القمعية، حاذيه بذلك حذو سابقاتها، ومنذ عهد فرعون، وهذا ديدنها مع كل من يخالف أو يختلف معها، بل إنها لا تتوانى باتخاذ أقسى أنواع التعذيب النفسي والجسدي، لكل من يعارضها، مطلقة ليدها العنان لقتل أو نفي أو سجن أو ضرب وترهيب، كل معارض لها، وتتفنن في فاشيتها بالتعامل مع المعارض، معتمدة بهذا على استراتيجيتها الوضيعة التي بها (تقرب المنافقين وتنفي العاصين).

‏ولكن في العهد الحديث ومع التطور الإعلامي؛ والانفتاح المعلوماتي، بدأت هذه الأنظمة تنتهج نهجا مغايرا لتعاملها مع المخالفين؛ والمعارضين لها، بطرق بعيدة كل البعد عن نهجها المعهود بها، بل وتتجه عكس ما كانت عليه، حيث إنها أدركت ومن ثما تداركت، هذه السلطة بأنه يجب عليها تحسين صورتها وعدم تسويق نفسها، كما كانت تفخر وتفاخر به من استبداد وقمع واستعراض لعضلاتها الفتية وطرقها التعذيبية لممارساتها القمعية التي يغلب عليها الفاشية، وفي بعض الأحيان السادية، آخذة على عاتقها تقديم نفسها كمثال حي وصارخ “الديستوبيا” المعاصرة لإخافة معارضيها وكل من يحاول أو حتى يفكر بأن يقف في وجهها ويقول (لا).

‏لقد اكتشفت متأخرة بأن التخلص من المخالف أصبح فاتورة كبيرة عليها، وعلى جميع الأصعدة وبالأخص على الصعيد الدبلوماسي؛ والسياسي الخارجي، وهو الأهم لدى هذه السلطة الاستبدادية، التي لا تدخر جهداً في التنكيل بمن يقف في وجهها بشتى السبل وبأقذر الطرق، حيث إنها تأبى إلا أن تسمع سوى صوت نفسها وتعمل بما يفرزه غلها، مع بعض الأوساط المعارضة لها ولسياساتها، وتنسى بل تتناسى حق الإنسان بالتعامل بالعدالة والكرامة، وتشيح بوجهها عن المطالبات العديدة والمتكررة لحرية التعبير وتقبل الرأي الآخر.

‏ولا شيء يجعلها ترتدع، سواء خوفها من التقارير الغربية والجمعيات الحقوقية، فبدأت تطرح على نفسها عدة أسئلة، وأهم هذه الأسئلة: ماهو رد فعل الغرب حيال هذه الممارسات؟ ‏وبماذا نرد على لجان حقوق الإنسان؟

‏هذا أكثر ما يؤرق أغلب هذه الأنظمة الحالية، رأي الغرب ومنظمات حقوق الإنسان، ونظرة الغير في المرتبة الأولى، ضاربة عرض الحائط القلاقل التي يمكن أن يحدثها هذا الاختفاء القسري أو التصفية الجسدية للمعارضين، والتأثر في مجتمعها والتصدع الذي يحل على جبهتها الداخلية، إثر هذه الممارسات الجبانة، وفتح الباب على مصراعيه لحديث لا يفتأ إلا وينبري، مما يؤدي إلى خلخلة في أساسات ليس النظام فحسب، بل بالدولة ككل، فتهوى بها إلى المجهول في ظل أعمال ساقطة غبية.

‏فاتخذت طرقا مغايرة بأن تحاربه إعلامياً، بتحريض عليه كل عميل وسفيه من كهنتها، لضربه من تحت الحزام، فلا يعود بعدها يحس بالأمان، حيث إن هذه الحرب لا يوجد لها سقف أو أسلحة محرم استخدامها كالحروب النظامية، بل على العكس تماماً، فالباب مفتوح دائماً وأبداً لاستخدام أقذر الأسلحة وأكثرها فتكا بالخصم، ومنها مثلاً إطلاق الإشاعات الكاذبة والكلمات الوقحة والشتائم البذيئة تارة، وتشكيك في انتمائه العقدي والوطني، ولربما القبلي أو الأسري تارة أخرى، من بعض أتفه خلق الله من الرويبضات والسفلة والعملاء الخونة.

‏أما الطريقة الأخرى أو الاستراتيجية المثلى -إذا جاز المسمى- والناجعة في كثير من الأحيان، هي سياسة (المداهنة والمهادنة)، حيث تتقرب السلطة لهذا المعارض عن طريق وسيط، وهو في الأغلب شخص مقرب له أو ينتمي إلى نفس التيار أو المسار، ليتم التفاوض عن طريق استمالته، بكثير من الترغيب والقليل من الترهيب، مصدرة له الوجه السمح البشوش المحب الكريم العطوف.. ومتلبسة لباس الراهب الواعظ التي تريد له الخير على غير ما يتصوره هو أو الغير، مع محاولات حثيثة لتزيين صورتها في عينيه، واضعة المساحيق المخادعة على وجهها القبيح ومتعطرة بأغلى العطور لإخفاء رائحتها النتنة، كل هذا في سبيل إعادة ثقته فيها، فتسوق المبررات تلو المبررات.. وكأن هذا المعارض لا يعرف في بواطن الأمور وخفاياها.. ولسان حالها يقول إن ما تقوم بانتقادنا أو معارضتنا فيه؛ هو مطروح لتعديله، وإنا لم نقم بهذا الفعل إلا لتجنب خطرا أكبر، ويحاولون إيهامه وتوجيهه لخطر كبير غير موجود على أرض الواقع، فقط في مخيلتهم المريضة، وأن هذا الخطر يحدق بنا في كل حين، ومن كل جانب لينتهز الفرصة المناسبة، وبعدها لن يتوانى للانقضاض علينا وافتراسنا،‏ فأصبحت هذه السلطة بقدرة قادر الحمل الوديع الذي يحاول أن يتصدى لخطر الذئاب المفترسة!

‏وإن كان هناك من خطر فعلاً كما يدعون فهم يحاولون أن يعطونه أكبر من حجمه، وإبرازه بأنه الخطر الأكبر على الأمة بأكملها، غافلين الخطر الداخلي من أثر الفساد المالي والإداري والتفريق الطبقي والتفريط المنهجي لكل المكتسبات وعلى جميع الأصعدة، من قبل بعض أشباه الرجال من علية القوم، وهو الأهم والأشنع والأخطر على هذه الأمة، التي يدعون الخوف عليها وهم يعملون ضدها ويوالون غيرها.عصرنة
(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى