كتب وبحوث

عرض كتاب (نقد الليبرالية)

صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة كتاب البيان رقم 109، عن مركز البيان للبحوث والدراسات، وكانت طبعته الأولى قد صدرت سنة 2009م، وجاء في 190 صفحة من القطع الكبير، أما مؤلف الكتاب د. الطيب بو عزة فهو دكتور في الفلسفة من المغرب، وله عدد من المؤلفات.

في المقدمة يبين المؤلف أن الهدف من هذا الكتاب الذي يبحث عن معنى الليبرالية وقيمها ومبادئها وتطبيقاتها المجتمعية هو أن الليبرالية تقدم اليوم بوصفها الحل والنموذج الوحيد في مجال السياسة والاجتماع بدون منازع ومنافس وعلى مستوى العالم!

ويبين أنه سيقوم بنقد الليبرالية من خلال مقاربة فلسفية تتناول أسسها النظرية لكشف زيف المزاعم الليبرالية الكبرى، وبنقد لواقع تطبيق وتطورات الليبرالية عبر التاريخ والحاضر، مع التنبيه أن نقد الليبرالية لا يعني نقد الحرية أو تمجيد الاستبداد، بل هو نقد لحصر الحرية بالليبرالية دون دليل، بل إن المؤلف يرى أن الحرية اليوم هي تحرير الإنسان من الليبرالية!

في الفصل الأول من فصول الكتاب الستة يناقش المؤلف دلالة مفهوم الليبرالية، حيث يرصد أن صعود الليبرالية لواجهة المشهد الثقافي جاء في تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار المعسكر الشيوعي والفكر الماركسي فأعلنت الليبرالية كنموذج فكري وسياسي أقدر على تنظيم الاجتماع وإدارة المشكلات السياسية والاقتصادية.

ومقابل هذه الرؤية التبجيلية لليبرالية هناك توجه مناهض لها باعتبارها قناعا يخفي تغول الرأسمالية وتفتيت أنساق القيم وتدمير مقومات الأخلاق، وأنها تعجز عن تحقيق شعاراتها الاقتصادية كالرفاه لأن ذلك يتناقض مع واقع الجشع الرأسمالي القائم على الحرية والفردية دون ضابط أخلاقي.

يحاول الليبراليون تعريف الليبرالية بأنها الحرية، وهذا تزييف، فالحرية ادّعتها كثير من المذاهب والفلسفات، وليس هناك تعريف متفق عليه لليبرالية وفي الحقيقة هناك ليبراليات متعددة، وبالعودة للمعاجم والتاريخ نجد أنها من اللفظ اللاتيني “ليبراليس” وتعني الشخص الكريم النبيل الحر، وحتى نهاية القرن الثامن عشر لم يعرف لفظ الليبرالية، بل عرفت كلمة “ليبرال” التي تعني المتحرر فكرياً، لكن في نهاية القرن التاسع عشر ظهرت لفظة الليبرالية بوصفها دالة على رؤية مذهبية لها أساسها الفكري ونظريتها السياسية والاقتصادية.

ولكنها كانت رؤى متغايرة متنوعة يجمعها أنها فلسفة/ فلسفات اقتصادية وسياسية، ترتكز على أولوية الفرد بوصفه كائنا حراً، حيث تعني من الناحية الفكرية حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير، وحرية الملكية الشخصية في الجانب الاقتصادي، وحرية التجمع وتأسيس الأحزاب، واختيار السلطة من الناحية السياسية. وبذلك تكون الليبرالية تكونت في الواقع قبل تشكل المصطلح.

فانفتاح الوعى الأوربي على عوالم خارج النص الكنسي كالعالم العربي والإسلامي والإغريقي والروماني أحدث دهشة وصدمة للعقل الأوربي القرطوسي، وأحدثت فيه النزعة الإنسانية، ومع توسع حركة التجارة وظهور طبقة التجار ثم حركة الصناعة والصناعيين سيتغير النظام الإقطاعي السائد، إذ التجارة والصناعة تحتاجان إلى عمال وزبائن، لذلك يجب تحرير العبيد ليصبحوا عمالا، وبذلك يرى المؤلف أن الليبرالية لم تنشأ بوصفها توكيدا لحرية الإنسان، بل بوصفها توكيدا للحاجة لاستغلاله بطرائق تناسب الثورة الصناعية! ولذلك ترافق مع انهيار نظام الإقطاع إبادة الهنود الحمر واستعباد شعوب أفريقيا ونهب خيراتها على يد النظام الليبرالي الرأسمالي، وقامت البرلمانات الليبرالية بتشريع ذلك! مما ينزع عن الليبرالية وهْم تحرير الإنسان، وأن الحرية ترتبط بالليبرالية حصرا كما يزعمون.

في الفصل الثاني يتناول د. بو عزة النظرية السياسية لليبرالية من خلال الصيرورة التاريخية لها وللمحدادات المفاهيمية لها ويركز على الدور المركزي لثلاث شخصيات هي: ميكافيلي، لوك، مونتيسكيو.

حيث قام ميكافيلي بترسيخ فكرة الفصل بين السياسة والأخلاق كجزء من الفكر الواقعي الذي جاءت به الميكافيلية لتأسيس عصر الحداثة الذي يقوم على القطيعة مع العصور الوسطى ذات الخلفية الدينية، والفصل بين السياسة والأخلاق ظاهر في الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة، ولذلك يَعد المؤلف ميكافيلي أول منظر للسياسة الليبرالية بخلاف ما هو شائع.

أما دور جون لوك في السياسة الليبرالية فهو ترسيخ البعد الفردي، وأنه الأساس في الوجود بما يلغي قيمة الجماعة ومصالحها، وينبّه المؤلف لمفارقة التناقض في الفكر الليبرالي في شخصية لوك، فبينما كان ينظر لحق الإنسان بالحرية ويدعو للفردية فقد كان يعمل في تجارة العبيد!

أما مونتيسكيو فقد رسخ في السياسة الليبرالية الفصل بين السلطات في الدولة، وأن الحرية السياسية تكون في إطار القانون وأن حرية الفرد مقصورة على الفرد المالك بالمفهوم الاقتصادي وليس عموم الأفراد!

وجاء الفصل الثالث ليفحص النظرية الاقتصادية لليبرالية، والتي تقوم على مفهوم مادي للإنسان، كما عبر عنها فوكوياما في كتابه “نهاية العالم” (الإنسان هو بالأساس حيوان اقتصادي)، وقد أصبحت هذه الرؤية أسلوب عيش وأسلوب تفكير، ويراد لها أن تسود رؤية البشر في العالم! وهذه رؤية تصطدم بحقيقة كينونة الإنسان التي تتجاوز المادة لتجمع الروح معها، وهذا ما تتجاهله الليبرالية.

سبق أن نبّه المؤلف إلى أن الليبرالية -بوصفها فكرا بشريا- في الحقيقة هي ليبراليات، فبداية الليبرالية كانت في فرنسا وكانت ذات بُعد فلسفسي فكانت ضد حركة التصنيع بخلاف ما هو متوقع! ثم عقب الثورة الفرنسية والتمرد على الإقطاع ظهرت مبادئ الملكية الخاصة وحرية الفرد في التصرف في ملكيته ورفض تدخل الدولة بالاقتصاد، وذلك على أرضية تعظيم دور الأرض كمصدر للثورة.

لكن آدم سميث سيقدم تطويرا لليبرالية بنقل مصدر الثورة من الأرض للعمل، ولذلك لمزيد من التنمية لا بد من مزيد من العمل مع الادخار للفائض لمزيد من الاستثمار، ولذلك كان الاستهلاك مرفوضا ليبراليا بخلاف الليبرالية الجديدة اليوم المسمّاة النيو ليبرالية! وفي كل هذه الأعمال لا قيمة للأخلاق أو مصلحة المجموع والمجتمع، بل القيمة للمصلحة الفردية بأي شكل!

وبذلك تكتمل الحلقة الضارة بالبشر حيث تم تحويل البشر لحيوانات مفترسة لا أخلاق لها تسعى نحو مصالحها الخاصة فقط مهما أضرت بالبشر أو البيئة.

التعريف والنقد لليبرالية الجديدة كان موضوع الفصل الرابع، فبعد ظهور الليبرالية في القرن الثامن عشر إلا أنها توارت للوراء وبقيت في الزاوية منذ مطلع القرن العشرين بعد صعود الماركسية وقيام الاتحاد السوفيتي وظهور الأنظمة الفاشية، التي حققت نجاحات اقتصادية مع تخلف وانحطاط في مستوى الحريات، حيث انصب النقد الموجه إليها على الحد من حرية الفعل الاقتصادي، واعتبار الليبرالية نظاما قديما فقد صلاحيته! ولذلك كان الخطاب الليبرالي في ذلك الوقت خطابا انهزاميا، بخلاف خطابها اليوم الذي يزعم أنها الحل الوحيد ونهاية التاريخ!

وبعد أزمة العالم الاقتصادية عام 1929م تنبهت الرأسمالية لوجوب تدخل الدولة في الاقتصاد على يد جون كينز، وعرف هذا التعديل بالنظرية الكينزية، حيث انتقد فردية الليبرالية وفوضى الحرية التي أنتجت البطالة، وبعد حرب 1973 وارتفاع سعر البترول ظهرت مجددا مشكلة البطالة والتضخم، وكان الحل المقترح هو التراجع عن تدخل الدولة والنظرية الكينزية والتي سميت بالليبرالية الجديدة! واعتمدت من قبل المنظمات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد، وجاء انهيار الاتحاد السوفيتي ليعطي الليبرالية الجديدة قوة دفع باسم العولمة لفتح الأسواق وتعميم نظرتها إلى العالم، مع تعديل طفيف بجعل المنفعة هي محدد القيمة وليس العمل كما قررت الليبرالية في القرن التاسع عشر على يد سميث.

ومن جديد كسرت الضوابط والقيود، أما جشع رأس المال الباحث عن منافعه ومصالحه الفردية دون اعتبار للدولة أو المجتمع أو الآخرين، حتى أصبح السوق كيانا مقدسا يحرم التدخل فيه، بحيث أصبح كوَثن جديد مقدس، واعتبار أي نقد لاقتصاد السوق بأنه نابع من نقص الإيمان بالحرية!

لكن تناقضت هذه الليبرالية الجديدة مع نفسها حين آمنت بحرية فتح الأسواق والحدود أمام البضائع ولكنها رفضت حرية مرور العمال عبر حدودها! وقد تبدى هذا واقعا بالرفض للمهاجرين عموما واللاجئين السوريين خصوصا، وتتناقض الليبرالية مع نفسها مرة أخرى حين تفرض حرية تنقل بضائعها دون منح الآخرين حرية عدم تنقلها كما تمنع هي حريتهم في التنقل كأفراد!

وهذا جعل من حرية السوق وتنقل البضائع أن تنعكس على تشكيل النسق النفسي والقيمي للمجتمعات والشعوب لتعيد تشكيلها بما يحقق مصالح أصحاب السوق خاصة مع تطور أساليب الدعاية وتعظيم قيمة اللذة مما يحول الإنسان لمستهلك، بل مستهلك من الأشياء، بما يعظم مرابح وثروات الرأسماليين العابرين للحدود والدول!

الليبرالية والأخلاق هما موضوع الفصل الخامس، الحرية المطلقة وهْم لا وجود له، فالإنسان محكوم بحتميات بيولوجية ومجتمعية رضي أم أنكر، وحتى الليبرالية تعترف بهذا مرغمة فتنكر حرية الأطفال والمجانين.

والحرية مفهوم غير متفق على مدلوله، وقد بدأ في الفكر الغربي من خلال حركة الإصلاح الديني، بمعنى فتح المجال للتفاعل مع النص المقدس مقابل احتكار الكنيسة للتعاطي معه، ثم مع تحطم احتكار ودور الكنيسة أصبحت الحرية الليبرالية تعني حرية الفرد بوصفه مالكا اقتصاديا بعد أن كان عبداً في نظام الإقطاع، وبذلك هي تستبدل استبداد الإقطاع باستبداد رأس المال.

ولذلك فإن الحرية في المفهوم الليبرالي الذي يعظم المنفعة واللذة الفردية تتصادم مع الأخلاق التي هي إلزام وقيد، ولذلك تتحرر الليبرالية من الأخلاق ولا تحفل بها وتهتم بما يحقق الرغبات مهما كانت عبثية وتافهة إذا حققت منفعة صاحبها ولذته، وهذا ما يفسر تصاعد موجة الانحلال في الإعلام والمنتجات.

وكان الفصل الأخير حول الخطاب الليبرالي العربي، ويقسمه المؤلف لخطاب عربي كلاسيكي قديم تعامل مع الليبرالية في لحظة غزو أوربا للعالم العربي وكانت الفلسفة الليبرالية هي المهيمنة، وخطاب عربي معاصر.

ويعتبر المؤلف أن الخطاب العربي القديم كان تعاطيه معها أفضل من الخطاب المعاصر، إذ غالبهم تفاعل مع الليبرالية باعتبارها رؤى وأفكارا ومفاهيم يعاد تأصيلها من الدين والتراث ولا يتعاملون معها كنسق جاهز متكامل كما يفعل رواد الليبرالية العرب اليوم.

كما يشير المؤلف إلى أن رواد الليبرالية في عالمنا العربي برغم مرور خمس عشرة سنة على تنظيراتهم فإنهم لم ينتجوا بحثا محترما عن الليبرالية التي ينادون بها!

ويختم المؤلف كتابه بالتأكيد على زيف زعم الليبراليين أن الليبرالية هي الحل لمشاكل العالم، وأن الليبرالية هي في الحقيقة موضة سرعان ما تزول كغيرها من الشعارات، وأن ربط الحرية بالليبرالية هو ربط زائف.

نعم، لليبرالية دور في بيان فضل الحرية والعقلانية والكرامة، لكنها حرفت هذه المعاني بربطها بالمادة فقط، وحررت الإنسان من سلطة السياسة لتسقطه تحت سلطة الاقتصاد.

وبهذا يبقى الباب مفتوحا لعودة البشرية للدين، ولكن البشر يحتاجون من أهل الدين تقديم رؤى مفصلة تعالج تعقيدات الحياة.

(المصدر: موقع أ. أسامة شحادة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى