عبر الهدايا والحروب والسفر.. هكذا وصلت آلاف المخطوطات العربية ألمانيا
إعداد عمران عبدالله
على غرار مقتنيات الآداب والفنون الإسلامية الموجودة في أوروبا بشكل عام، وصلت المخطوطات العربية والتركية والفارسية إلى البلاد الناطقة بالألمانية خلال ما يسمى العصور الوسطى، عبر الاتصالات الدبلوماسية والتجارية والعسكرية.
ودخلت بعض هذه المخطوطات خزائن الأباطرة والنبلاء هدايا قيمة ونادرة، وبعضها كان غنائم من المعارك والحروب، وكانت المخطوطات والقطع الفنية الإسلامية التي وصلت أوروبا مملوكة بشكل أساسي من قبل النبلاء وخزائن الكنائس، في حين تكونت مجموعات من المخطوطات الشرقية والإسلامية بأوروبا عبر الاتصال الوثيق بالإمبراطورية العثمانية من القرن 17-19. ولكن بسبب التطور السياسي وعلمنة النظام السياسي الذي انعكس على الخزائن الكنسية، غالبًا ما كانت هذه المجموعات مشتتة وغير مصنفة.
مخطوطات عربية
وصدرت عن مركز “دراسة ثقافات المخطوطات” الألماني، بالتعاون مع جامعة هامبورغ، دراسة عن أصول المخطوطات العربية وطرق وصولها إلى المكتبات الألمانية.
تمتلك مكتبتا ولايتي برلين وبافاريا ومكتبة جوثا للأبحاث أكبر مجموعات من المخطوطات الشرقية. ويقول تيلمان سايدن ستيكر أستاذ الدراسات الإسلامية في قسم الدراسات الشرقية بجامعة فريدريش شيلر في جينا الألمانية إن المخطوطات وصلت للمكتبات عبر نقلها من مكتبات ألمانيا الشرقية-سابقا والأديرة والقلاع التي جرى إيداع المخطوطات فيها خلال السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية.
واتبعت السلطات الألمانية خلال حقبة الحرب سياسة توزيع المقتنيات الثقافية في أماكن متباينة، وكانت منها أماكن تقع في الاتحاد السوفياتي، وجرى إيداع عدد محدود فقط من المخطوطات في مكتبتي برلين وجوثا، ويبدو -بحسب ستيكر- أن ماكس ويسويلر (1902-1968) أمين المكتبة المسؤول عن المخطوطات الشرقية التي تحتفظ بها مكتبة ولاية برلين، والتي كانت تسمى آنذاك مكتبة ولاية بروسيا، كان له تأثير واضح على الأحداث القادمة.
تجاهل ويسويلر ببساطة التوجيهات المعطاة له، وتجنب إرسال المخطوطات إلى أماكن في الأجزاء الشرقية من الرايخ الألماني، وبدل ذلك أودعها في قصر بفورتمبيرغ الألماني، وفي قصر آخر في ولاية هيس، وكذلك في دير بانز (قلعة بانز الآن) في فرانكونيا العليا.
وعلى عكس العديد من الكتب والمخطوطات الأخرى من مكتبة ولاية برلين، فإن 56 مخطوطة شرقية انتهى بها الأمر في مكتبة جاجيلونيان في كراكوف، بينما يُعتقد أن 53 مخطوطة أخرى ضاعت.
وفي المقابل، يُعد مخزون المخطوطات الشرقية التابع لمكتبة جوثا للأبحاث مثالًا جيدًا على حقيقة أن نقل المخطوطات إلى الاتحاد السوفياتي لا يعني بالضرورة أنها ستضيع، إذ جرى نقل المجموعة بأكملها التي تضم أكثر من ثلاثة آلاف مخطوطة إلى الاتحاد السوفياتي في عام 1946، وأعيدت دون أي خسارة أو ضرر عام 1956، بعد ثلاث سنوات من وفاة ستالين.
وبسبب تداعيات الحرب، جرى خطف العديد من الكتب والمخطوطات، وتعرض بعضها لجرائم السرقة أو الخطف من المعارض، بحسب الأكاديمي الألماني ستيكر في الدراسة التي نشرتها جامعة هامبورغ.
مخطوطات عربية على الرفوف الألمانية
وتستقر المخطوطات العربية حالياً بأمان على الرفوف، ويأمل الباحثون ألا يتم نقلها مرة أخرى خارج قاعة قراءة المخطوطات.
وتوجد أكبر مجموعة من المخطوطات الشرقية في ألمانيا بمكتبة برلين، التي تم تأسيسها عام 1661 على يد ملك بروسيا فريدريك ويليم الأول الذي أسس مستعمرات في أفريقيا، وأعطى أمرا لشراء المخطوطات العربية والفارسية والتركية والإثيوبية والقبطية والهندية والصينية كتكملة طبيعية لهذه الطموحات التجارية والاستعمارية.
ولم يتم الحصول على المخطوطات العربية من مصدر واحد، ويلاحظ المؤرخون العدد الهائل من المخطوطات العربية التي اقتنتها المكتبة الألمانية في فترة زمنية قصيرة بين عامي 1852 و1887.
ولأن الميزانية العادلة للمكتبات لم تكن تكفي لشراء هذه المقتنيات الغالية أو الحصول عليها، احتاج الأمر مساعدة من الملك البروسي الذي وفر دعماً لذلك.
وثاني هذه المكتبات هي الواقعة في ولاية بافاريا في ميونيخ، وتمتلك حاليًا 4200 مخطوطة إسلامية، وبدأت عبر مجموعة المستشرق والعالم الإنساني يوهان ألبريشت ويدمانشتيتر (1506-1557) الذي عمل دبلوماسيا ومستشارا في الأوساط العربية، واشتهر بشكل خاص بنشره المبكر للقرآن الكريم الذي تضم المكتبة الألمانية نسخاً من مجموعته القديمة.
واشتملت المكتبة كذلك على مقتنيات من غنائم الحروب بين القوى الأوروبية والإمبراطورية العثمانية، وضمت المكتبة في وقت لاحق ستين مخطوطة تبرع بها طبيبان لخديوي مصر، بينهما كلوت بك للمكتبة الملكية.
وإضافة إلى ذلك، اشترت المكتبة الألمانية مقتنيات غالية من المستشرق الفرنسي إتيان مارك كواتميرري، ومجموعة من 157 مخطوطة عربية من اليمن، بحسب ستيكر أستاذ الدراسات الإسلامية في قسم الدراسات الشرقية بجامعة فريدريش شيلر.
ونما عدد المخطوطات الشرقية والإسلامية بشدة في النصف الثاني من القرن العشرين بسبب دور أميني مكتبة ميونيخ، حيث اهتم أحدهما بشكل خاص بنسخ من القرآن، رغم أنه كان قادرًا على شراء العديد من القطع المهمة الأخرى، في وقت كانت لا تزال فيه المقتنيات الثمينة في المتناول، وتحتوي المكتبة حاليًا على 179 نسخة كاملة أو على جزء من القرآن الكريم.
نهب وغنائم
وخلال المواجهات العثمانية الأوروبية، حصلت المكتبات الألمانية على مخطوطات ثمينة بطرق غريبة، ومن بين مقتنيات مكتبة غوثا القديمة 74 مخطوطة شرقية تشير الملاحظات الموجودة في بعضها إلى أنها دخلت الحيازة الألمانية كغنيمة، منها مخطوطات تحتوي على مقتطفات من القرآن والصلاة والسنة النبوية.
وعندما حاصر الجيش المسيحي مدينة بودا في المجر، واستولى عليها في الحرب الأخيرة ضد العثمانيين في أغسطس/آب 1686 قام أحد الفرسان بإطلاق النار على تركي، ووجد كتاباً على جسده بدل المال الذي كان يطمع فيه، فأحضره معه إلى منطقة كوبورغ ووجده مخطوطة عربية تحتوي على نصوص نبوية كانت ملطخة بدماء رجل الدين المقتول.
وتشهد العديد من المخطوطات المحفوظة في المكتبات الأوروبية بشكل عام على الأحداث العسكرية الشهيرة، مثل حصاري فيينا، وفي عام 1535 أدى حصار تونس على يد الإمبراطور شارل الخامس لنهب المخطوطات، خاصة القرآن والمصاحف من المساجد والمكتبات في المدينة، ووجدت واحدة من هذه القطع طريقها إلى هايدلبرغ (ثم إلى الفاتيكان).
وشهدت نتائج معركة ليبانتو الشهيرة عام 1571 بين القوى الأوروبية والعثمانيين وقوع عشرين مخطوطة عربية وفارسية وتركية بيد الأوروبيين، ووجدت طريقها إلى مكتبة الإسكوريال في العاصمة مدريد.
وكتب القراصنة الإسبان فصولا من رحلة المخطوطات العربية إلى ألمانيا وأوروبا عندما استولوا عام 1611 على قارب قبالة الساحل الغربي للمغرب يحمل آثارا ومتعلقات السلطان مولاي زيدان، بما فيها مكتبته بأكملها التي تضم نحو ثلاثة أو أربعة آلاف مخطوطة عربية، وتم تفريغ الشحنة وتقديم المكتبة للملك فيليب الثالث، الذي أودعها في مكتبة الدير الملكي سان لورينزو في الإسكوريال كذلك.
وهكذا لعبت المصالح الاستعمارية والاقتصادية دوراً في المرحلة الأولى من رحلة المخطوطات العربية للمكتبات الألمانية، قبل أن تصبح الحروب والنهب والغنائم مصدراً أساسياً للمخطوطات العربية جنباً إلى جنب مع المستشرقين والتجار الذين اشتروا المخطوطات العربية الثمينة لبيعها للمكتبات والمتاحف الأوروبية.
وعرف المؤرخون ظاهرة التنافس بين المكتبات والمتاحف في بناء أكبر مجموعة من المقتنيات والمخطوطات التي تعد رمزاً للمكانة والثقافة الرفيعة.
(المصدر: الجزيرة)