عالم اجتماع فرنسي: منذ 30 سنة وفرنسا على الطريق الخطأ في تعاملها مع الإسلام
أصبح فشل الدولة في مواجهة الإسلاموية أمرا واضحا لأن الإجراءات التشريعية والإدارية المتخذة تضع الإسلام في طريق مسدود، وهو ما ينذر بتحول كبير في العلمانية، ولذلك لا بد من مراجعة شاملة لهذه السياسة التي لا تأتي إلا بنتائج عكسية.
هذا ما جاء في مقدمة مقال للبروفيسور الفرنسي فرهاد خسروخاور مدير الدروس بالمدرسة المرموقة في فرنسا “مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية” بباريس المعروفة اختصارا بــ”إي إتش إس إس” (EHESS).
وانطلق خسروخاور في مقاله الذي نشره بمدونته في موقع ميديابارت الفرنسي (farad123)، من أن فرنسا تسير منذ أكثر من 30 عاما في الطريق الخطأ في سياستها تجاه الإسلام، منبها إلى أن العلمانية تحوّلت من نظام للحفاظ على حياد الدولة إلى دين مدني، تتعارض معاييره المقدسة مع معايير الإسلام.
وقال الكاتب، وهو عالم اجتماع فرنسي من أصل إيراني، إن الوقت قد حان لمراجعة شاملة لهذه السياسة التي تأتي بنتائج عكسية على مستويات عدة، فهي تتسبب في عزل الغالبية العظمى من المسلمين الذين يشعرون أنهم مستهدفون من قبل التشريعات المقيدة بشكل متزايد، والتي من المرجح أن تصمهم بالعار بسبب دينهم، كما أنها تروج للأصولية من خلال إنكار التنوع في السلوك الإسلامي، وخاصة فيما يتعلق بالحجاب.
ولإظهار التناقض في هذه السياسة، يقول خسروخاور إنه سيحلل بإيجاز اثنين من أكثر جوانب هذه السياسة شهرة، وهما الحجاب الإسلامي والسلفية.
الحجاب الإسلامي
مع أن فرنسا هي الدولة الغربية التي نفذت أكبر عدد من التدابير التشريعية والإدارية المقيدة للبس الحجاب، فإن ذلك لم يمنع تزايده وجاذبيته بين المسلمات، هذا رغم أنه ينظر إلى الحجاب في فرنسا على أنه رمز للنظام الأبوي وهيمنة الذكور وضعف مكانة المرأة، كما يوسم بأنه علامة لرفض الحداثة الفرنسية، وأنه يتعارض مع العلمانية.
وأشار الكاتب إلى أن الأبحاث الجامعية تظهر أن الحجاب ليس نوعا واحدا، بل ثلاثة أنواع على الأقل، وهي الحجاب الشخصي والحجاب الأصولي والحجاب التقليدي، الذي ترتديه المسنات حفاظا على الثقافة الإسلامية التقليدية التي أصبحت في طور الاختفاء.
أما الحجاب الفردي -كما يقول الكاتب- فهو حجاب الشابات اللاتي يزعمن أنهن يرتدينه انسجاما مع رؤيتهن للعلاقة الشخصية بينهن وبين الله سبحانه وتعالى، في حين أن الحجاب الأصولي هو الذي يدعي أصحابه الحق في الظهور به في الفضاء العام، معطين الأولوية المطلقة للمعايير الدينية على حساب معايير الجمهورية.
وبحسب الكاتب، فإن من بين هذه الأنواع الثلاثة، يعود الحجاب التقليدي وحده إلى أساس “أبوي”، أما الحجاب الفردي فليس بشيء، وقد تتبنى من يرتدينه أعراف الجمهورية بشأن المساواة بين الجنسين، في حين أن الحجاب الأصولي هو الأكثر معاداة للجمهورية دون أن يكون أبويا، لأن من يرتدينه هن من أخذن زمام المبادرة ويروجن لقيم جديدة بطريقة استفزازية ضد مجتمع لا يعطي معنى لحياتهن، كما يقول الكاتب.
وأشار الكاتب إلى أن سياسة الدولة في فرنسا تمثلت في محاولة إقصاء الحجاب من الفضاء العام، وذلك من خلال سلسلة من الإجراءات القسرية وتشويه السمعة، وحتى الوصم عن طريق القوانين أو التنديد الثقافي، إلا أن النتيجة غير مبشرة كما نراها يوميا.
والسياسة الجيدة -كما يرى الكاتب- هي إضفاء الشرعية على الحجاب الفردي دون الحجاب الأصولي، لأن العديد من الشابات اللاتي يرتدين الحجاب موافقات على الاشتراك في النسخة “الجمهورية” من الحجاب، فهن يعترفن بالمساواة بين الجنسين، وينددن بانتهاكات حقوق المرأة.
بيد أنه بدلا من تشجيعهن على الانضمام إلى الجمهورية -كما يقول الكاتب- تم عزلهن وحرمانهن من المواطنة الكاملة، وأصبحن موضع شبهة بأنهن يحملن مخططات أصولية سوداء بشأن موضوع العلمانية، وبالتالي تم رفضهن بشكل غير شرعي واعتبارهن غير فرنسيات حقيقيات.
والنتيجة -كما يقول الكاتب- هي تقوية القبضة الأصولية لأن أنصارها يدينون دولة ومجتمعا يرفضان الإسلام ليس فيما ينظر إليه على أنه تجاوزات، بل في مجمله.
ودعا الكاتب إلى قبول “الحجاب الجمهوري” بإعطاء المرأة المسلمة فرصة للتعبئة ضد “الحجاب الأصولي”، والتوقف عن تشويه سمعتها ودفعها إلى أحضان الأصوليين، مؤكدا أنه على الدولة أن تعزز الإسلام التقدمي لا من خلال وصم الحجاب، بل من خلال تفضيل مرتدياته ممن يلتزمن طواعية بالمعايير الجمهورية.
السلفية
أما بالنسبة للسلفية -كما يرى الكاتب- فإن الرؤية الجديدة “للانفصالية” ستضع حدودها في المستقبل، خاصة وأن تقييد التعليم في المنزل “هو الحس السليم”، وكذلك القرارات الأخرى المتعلقة بالتعليم الديني، لكن الأساسي أمر آخر.
ونبه الكاتب إلى أن السلفية تزدهر بشكل خاص في الأحياء المهمشة، حيث يتجاور الفصل الديني وارتفاع معدلات البطالة والفقر والجنوح وانعدام أفق الأمل.
والباقي، كما يقول خسروخاور، هو التشويه الذي يلقيه المجتمع على الإسلام، فسكان هذه الأحياء يشعرون بنزع الشرعية عن ثقافتهم ووجودهم بشكل عام، مما يدعو الكثير منهم لتبني موقف التحدي والاستفزاز تجاه المجتمع الذي يحرمهم من كرامتهم وحقهم في التنوع الاجتماعي.
والسلفية في هذا الإطار الحضري والاقتصادي -كما يرى خسروخاور- إنما هي محاولة لتأكيد الذات ضد هذا الشعور بالحرمان، لأنها تخترع معايير مقيدة وتسندها إلى الله سبحانه وتعالى في مواجهة مجتمع يستبعد المحرومين باسم العلمانية، حيث يشعر الشباب أنهم يكتسبون هوية جديدة من خلال الأصولية الدينية التي تعزز مكانتهم من خلال إهانة أولئك الذين أذلوهم طوال فترة وجودهم في الأحياء المعزولة.
وحل مسألة السلفية -كما يراه الكاتب- هو مشروع بورلو (المنسوب لرئيس اتحاد الديمقراطيين والمستقلين السابق جان لويس ماري بورلو)، وهو مشروع مكلف لكنه ضروري، وقد قدم قبل عامين ورفضته الدولة، وهو قائم على وضع حد لتركز السكان المسلمين في أحياء خاصة، وإعطائهم فرصة التنشئة الاجتماعية الجمهورية، وذلك بتوفير إمكانات اقتصادية ورفع الإقصاء الاجتماعي والثقافي عنهم.
وليس الحل في سياسة “الانفصالية” التي تقدمها الحكومة لأنها محكوم عليها بالفشل -كما يقول خسروخاور- رغم جوانبها الإيجابية التي لا يمكن إنكارها، خاصة وأن الدولة فشلت على مدار 30 عاما في مواجهة “الإسلاموية”، والدليل هذا العدد الكبير من الجهاديين الفرنسيين الذين غادروا إلى سوريا، وكذلك الهجمات المميتة التي طالت فرنسا أكثر من الدول المجاورة.
وبما أن فرنسا تجمع بين واجهة ثقافية ودينية، بحيث تعمل العلمانية أكثر فأكثر كدين مدني، وهيكل حضري كالضواحي، فإنه من الضروري القيام ثقافيا باستعادة العلمانية وظيفتها التنظيمية وحرمانها من قدسيتها كدين مدني افترضته لعقود عدة، واجتماعيا وضع حد للفصل في أحياء الطبقة العاملة.
وقد حان الوقت لعكس سياسة الدولة -كما يقول خسروخاور- ووضع حد للأحياء الحضرية التي من المحتمل أن تصبح أحياء إسلامية معزولة، وثانيا الاعتراف الكامل بالإسلام الشرعي، لا سيما من خلال الاعتراف بالحجاب الفردي.
ويختتم خسروخاور مقاله بعبارة صريحة “إن الانفصالية هي في المقام الأول تلك الخاصة بالمجتمع والدولة تجاه المسلمين، لا العكس، ووضع حد للشك الذي يثقل كاهل المسلمين سيجعل الحل أسهل حيث سيتدخل المجتمع المدني والمسلمون بداخله بفاعلية لعرقلة الطريق إلى الأصولية والتطرف الديني، ولن يكون ذلك إلا بإعادة تأهيل الإسلام الفردي في مواجهة الإسلام الأصولي”.
(المصدر: الجزيرة)