مقالاتمقالات المنتدى

طوفان الأقصى وفلسفة التّجديد

طوفان الأقصى وفلسفة التّجديد

بقلم رانية نصر “عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” (خاص بالمنتدى)

لم تكن مجرد معركةً دفاعيّة أَبْعدُ أهدافها الاستراتيجية تحرير الأرض، ولم تكن منعطفاً مفصلياً هاماً في تاريخ القضية الفلسطينيّة على المستوى السّياسيّ والعسكريّ فحسب، ولم تأتِ نتائجُها صادمةً للعدو وحلفائه والمتواطئين معه فقط؛ بل كانت كذلك حتى للمؤيّدين والدّاعمين، ولقد فاقت نتائج هذه المعركة كل التّوقعات، وبالرّغم من الخسائر الكبيرة المُتكبّدة؛ إلا أنّ المصالح الاستراتيجية الخفيّة التي تمّ تحقيقُها أكبر بكثير من المفاسد الظّاهرة بلا شك.

يقف العالم اليوم عاجزاً عن فهم ما جرى بكل أبعاده وسياقاته، فقد أجمع الجميع بمن فيهم المجتمع الدولي والغربي وحكوماته عن صدمته بما حقّقته هذه المعركة الملحمية الكُبرى من نصرٍ نوعيٍّ لعموم الأمة.

وإنّ مِن أبرز تجليّات هذا النّصر دخول أعداد كبيرة في الإسلام، فلقد لفتَت أنظار العالم أحداث غزةَ وما يجري فيها من عدوان ظالم وانتهاك سافر للكرامة الإنسانيّة، وإنّ ارتكاب هذه الإبادة الجماعية والوحشيّة في حق النّساء والأطفال والمدنيين العُزّل جعل أحرار العالم يتساءلون عن سبب هذا الظلم والقهر والإجرام، فأين منظمات حقوق الإنسان الدوليّة؟ وكيف يصمد هذا الشّعب أمام كل هذه المجازر والموت ويبقى ثابتاً متمسكاً بالأرض منافحاً عنها بدمه وروحه وأبنائه؟ ما عقيدة هؤلاء القوم؟ ولأجل ماذا يقاتلون؟

معركة الطوفان كانت فتحاً على هذا العالم، فتحاً معنوياً حقيقياً، فتحاً للعقول وفتحاً للوجدان، وفتحاً للأفهام، يقول رئيس المنظّمات الإسلامية في أوروبا: “لم نرَ إقبالاً على الإسلام كما رأيناه بعد أحداث غزة، كان يدخل الإسلام في اليوم تقريباً ثمانون شخصاً وارتفع هذا العدد بعد طوفان الأقصى إلى أربعمائة شخص في اليوم الواحد وفي البلد الواحد، جُلّهم من الشباب والشابات، وقد وصل عدد الذين دخلوا الإسلام في فرنسا وحدها بعد أحداث الطوفان أكثر من عشرين ألف، وعند سؤالهم عن سبب إسلامهم كانوا يُعلّقون السّبب بأحداث غزة، يقولون: لقد رأينا الله في غزة، ورأينا أهل غزة يعبدون الله حق عبادة، رأيناهم يقابلون كل هذا الدمار والموت والفقد والجوع والخوف بالاطمئنان والشكر والحمد!! فهذا استدعانا للسّؤال عن دينهم وعن عقيدتهم، فأمسكنا بالقرآن وبدأنا بقراءته وفهمنا كل القصة”!

نعم غزة ومقاومتها حقّقت ما لم نكن نتوقعه، وإن هذا الحدث أثبت للعالم أنّ قضية المسجد الأقصى وفلسطين قضية مركزية ومرتبطة ارتباطاً عضوياً بالأمة الإسلامية، وهما نقطتا ارتكاز مهمّان في التأثير على العالم وتغيير وجهته، وهذا هو معنى التّجديد الذي ذكره رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الحديث حيث قال: “إِنُّ اللهَ يبعَثُ لهذه الأُمّة على رأس كل مائة سنةٍ مَن يُجدد لها دينها”، وقد فسّر أهلُ العلم هذا الحديث فقالوا: “إن كلمة (مَن) ههنا اسم موصول تفيد الإطلاق، فيحتمل أن يكون المُجدّد فرداً، ويحتمل أن يكون طائفة مِن النّاس، وبناء عليه فلا يلزم تتبّع أسماء أفراد من العلماء في كل قرن والمفاضلة بينهم لتمييز المُجدِّد فيهم، فقد يكون كلهم ساهم في تجديد هذا الدّين وبعثه في الأمة”.

وقال الإمام الحافظ الذهبي -رحمه الله- في تاريخ الإسلام: “الذي أعتقده من الحديث أن لفظ (مَن يُجَدِّدُ) للجمع لا للمفرد”، وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري:”لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحدٌ فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة (يعني قد تكون جماعة)، فإنَّ اجتماع الصّفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أنّ جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه-، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتّصافه بجميع صفات الخير وتقدّمه فيها، وأما من جاء بعده مثل الشافعي -وإن كان متّصفاً بالصّفات الجميلة- إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان مُتّصفاً بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدّد أم لا ” انتهى كلامه.

إن إطلاق وصف التجديد في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا) لا يلزم منه انتصار الإسلام في زمان هذا المُجدد، فقد يكون التّجديد في العلم أو القيادة والسّياسة أو الدعوة والتربية وهذا هو الراجح عن بعض أهل العلم.
وكلمة الجادّة تعني الطريق الأعظم الذي يجمع الطّرق، ويُقال خرج عن الجادّة بمعنى أخطأ وانحرف عن الحقّ والصّواب والمعنى الاصطلاحي للكلمة أنه إن انحرف الكثير من الناس عن جادة الدّين؛ أرسل الله لهم مَن يعيدهم إليه ويُرشدهم ويُبصّرهم به.

وجاء في الدُّرر السَّنيّة في شرح الحديث أن من رحمة الله بالأمة الإسلامية أنه يتعاهدها بوجود العُلماء أو الحُكّام، الذين ينشرون الدّين كما كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته رضي الله عنه.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الله يبعث”؛ أي: يرسل، ويُوجِدُ ويُقيّض، “لهذه الأمة”، أي: أمة المسلمين، وقيل: للعالم كله، “على رأس كل مائة سنة”، أي: انتهائها أو أوّلها، عندما يقل الدّين وتُهجَر السّنن ويكثر الجهل والبدع، “مَن يُجدد لها دينها”، أي: يُظهر ما نُسِيَ وهُجر العمل به من الدّين، ولفظة “مَن” عامة وتقع على الواحد والجمع، وليس فيها تخصيص المجدّدين بأنهم الفُقهاء أو العلماء فقط؛ فإن انتفاع الأمة بهم وإن كان كثيراً فانتفاعهم بأُولي الأمر والصالحين أمر واضح أيضاً، فبهم يُحفظ الدّين ويبث العدل.

وعليه يصح حمل لفظ “مَن يجدد لها أمر دينها” على من يدافع عن راية الإسلام ويُقيم العدل والحق على الأرض بمدافعة الظلم والقهر والاستبداد من خلال الجهاد الذي فرضه عز وجل على المؤمنين، فبه يعود الناس لجادة الطريق القويم، وبه تكون عزة هذا الإسلام، وبالجهاد يكون الدّين مخوف الجناب، حرام الحمى.
معركة طوفان الأقصى أعادت للجهاد مكانته السامية في نفوس الناس بعد أن تم تغييبها تماماً من المناهج التربوية إثر الخطط الممنهجة والدؤوبة لمحوه من عقولهم ووجدانهم!

ومن جهة أخرى تجلّى معنى التّجديد في الأثر الذي أحدثته معركة طوفان الأقصى في نفوس الناس؛ حيث دفعتهم للدخول في الإسلام، ولو بذل المصلحون والعلماء في الأمة -مجتمعين- الطّاقات والإمكانات كلها ما استطاعوا إدخال هذا العدد الهائل من الناس في الإسلام دفعةً واحدة كما فعلت معركة طوفان الأقصى المباركة.
هذا إضافة للصّحوة الرّاشدة في الشباب المسلم، وعودة الكثير منهم للالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية بعد أن أدركوا الغاية من خلقهم، وأن الله لم يخلقهم عبثاً، فرؤية الموت أيقظتهم من غفلة حقيقية كانوا يعيشونها، أدركوا أن الحياة قصيرة وأنّ الدنيا لا قيمة لها وأن مآلهم إلى الله -عز وجل-.

جدّد رجال الطوفان -بفضل الله وتوفيقه- أمر الدّين لهذه الأمة، هؤلاء الذين كان معظمهم من حفظة كتاب الله، فالقرآن رباهم وعلّمهم وكان لهم نوراً يضيء لهم الطريق، وهذّبت أخلاقهم السُّنة النّبوية مستهدين بها، فتقدموا للجهاد دون تردّدٍ أو تلكّؤ ثابتين على الحق موقنين بعظم مكانة الشهادة وأنها الطريق الأقصر للخلود، فكانوا أهلاً للاصطفاء ولأن يجري الله على أيديهم هذا التغيير المهم في تاريخ الإسلام، قال تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ الأحزاب:23.

أراد الله -عز وجل- أن تكون غزة وأهلها سبباً في قلب المعادلات الدولية وفي كشف إزدواجية معايير المنظّمات الدولية والحقوقيّة المتشدِّقة بحقوق الإنسان؛ حيث أثبتوا للعالم أنّ الدّين الإسلامي هو دين العدل والحق والأخلاق والرحمة والإنسانية، وأنه الدّين الذي لا يعلوه دين، فما نراه اليوم هو تجديد حقيقي لأمر الدّين، ومنعطفٌ مهمٌ في تاريخ الإسلام والمسلمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى