حروب الذاكرة (3)
مطلوب أجندة عمل لمؤسسات الأمة
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
في هذا المقال نترك المجتمع الأمريكي حكومة وشعباً في تفاعلاتهم مع غزوة طوفان الأقصى إيجاباً وسلباً، لنلتفت النظر إلى ضرورة جعل مؤسسات الأمة في أول أولوياتها سؤال: كيف نحافظ على ذاكرة الفرد والمجتمع العربي والمسلم متقدة ناشطة لا يصيبها نسيان أو عطب أو تشويه حتى يمكن أن تستمر حربنا مع العدو الصهيوني وداعميه مستمرة حتى النصر؟
ففي حروب الذاكرة يكون النصر للفريق الذي يعي معنى الزمن ودوره في تنشيط أو تثبيت “الذاكرة الحضارية”، فحروب الذاكرة أطول وأعمق وأخطر وأدوم من حروب الوغى وساحات المعارك التي تشتعل أياماً لتتوقف أخرى بين: كر وفر، ونصر وهزيمة، في تداول طبيعي حسب سنة الله في الخلق وطبيعة الحرب وتطوراتها، لكن حروب الذاكرة تستمر قبل وأثناء وبعد معارك الأرض، إنها الساحة الحقيقية للنصر أو الهزيمة، إنها حرب الأبد بين فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر والنفاق.
لقد صدم الهجوم غير المسبوق الذي شنه مجاهدو حماس على الكيان الصهيوني العالم أجمع. ومع استمرار المعارك للشهر الخامس، وعواقبها الخطيرة التي تتكشف كل يوم على مستوى الوعي بالقضية في الداخل الإسلامي وبين العالمين في خارج أمة الإسلام، فمن المرجح أن عواقبها بعيدة المدى التي لن يفلت منها أحد ستتوقف أساساً على نجاح كل فريق في حروب الذاكرة.
وقد تبدت بعض آثار إنعاش الذاكرة الحضارية للمجتمعات المسلمة واضحة لكل ذي عينين اليوم من خلال ما عايشناه ونراه في أنفسنا وبيوتنا وفي معظم بيوت المسلمين وأسواقهم ومنتدياتهم وتصرفاتهم من :حملات للمقاطعة والدعم المالي والتبرع بالدم والغذاء من عامة المسلمين ومنظماتهم الأهلية، وسريان روح فلسطين على كل قلب ولسان مسلم وفي كل بيت مسلم لم يستثن أحداً: شيخاً أو شاباً أو طفلاً، رجلاً أو امرأة، ومظاهر التعبير عن ذلك بكل السبل. لقد هز الحدث الجميع، وصار اسم فلسطين حديث الأمة، وعرف المتعلم والجاهل والموظف والفلاح والطالب والأستاذ والطفل والشيخ الكبير أن إسرائيل وأمريكا أعداء الأمة.
وليس ذلك وحسب ما أحدثته غزوة طوفان الأقصى في الذاكرة المسلمة والعربية، لا، لقد أصابت عملية “طوفان الأقصى” جزئياً أسطورة الكيان الصهيوني الأمنية والعسكرية والاستخبارية التي عاشت طويلاً في ذاكرة أجيالنا المختلفة في مقتل، وفضحت هشاشة التحصينات والجدران التي أنشأتها لحماية نفسها وعزلها عن “الآخر” الفلسطيني المحاصر. وهدمت جزئياً –داخل الذاكرة العربية والمسلمة-الفرضية الأساسية لا تزال يتبناها هذا الكيان الغاصب، على الرغم من ثبوت فشلها المتكرر، وهي أنه في الإمكان الاستمرار في احتلال الأرض الفلسطينية من دون دفع الثمن وإجبار الشعب الفلسطيني على القبول بهذا الواقع.
كما أظهرت لذاكرة العربي والمسلم إن الحالة الهمجية والغرائزية التي تسود في الكيان الصهيوني تجاه إخواننا في فلسطين خاصة والمسلمين والعرب عامة، وارتكاب المزيد من العدوان والمجازر بحق الفلسطينيين، لن تُخضع الشعب الفلسطيني في غزة أو في أماكن تواجده الأخرى، ولن تكسر إرادته، وسيبقى يناضل من أجل نيل حريته من الاحتلال، حتى لو نجح الكيان الغاصب في إسقاط حكم حماس في غزة، وهو أمر مستبعد.
لكن هذ الأمور الإيجابية لا يجب أن تلهينا عن أن نسبة لا يستهان بها في المجتمعات العربية والمسلمة حسب استطلاعات رأي متعددة في بداية الغزوة وفي منتصفها والآن تبين أن البعض رفض الغزوة وامتلأت ذاكرته بالسلبي من التقييم، وغيرهم لم يسمع بها ولا يريد وحياتهم كما هي لم تتغير، وهؤلاء هم وقود المعركة القادمة للتشويه وجر أجزاء ممن تفتحت مسام عقولهم وقلوبهم ليرتدوا على أدبارهم القهقرى مرة أخرى في صفوف الغافلين اللاهين
فبمجرد بدء غزوة “طوفان الأقصى” بين المجاهدين الفلسطينيين والكيان الصهيوني يوم 7 أكتوبر، أجرى المركز المصري لبحوث الرأي العام (بصيرة) استطلاعاً لرأي المصريين حول الهجمات المتبادلة بين بعض الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، وأشارت نتائج الاستطلاع إلى أنه يمكن تقسيم المصريين الذين سمعوا عن الهجوم الذي شنته بعض الفصائل الفلسطينية على الكيان الصهيوني إلى 4 مجموعات، المجموعة الأولى تضم من يرون أن هذه الفصائل الفلسطينية من حقها الهجوم على إسرائيل وأن إسرائيل من حقها الرد على هذا الهجوم وتمثل 10% ممن سمعوا عن الهجوم، المجموعة الثانية تضم من يرون أن هذه الفصائل الفلسطينية من حقها الهجوم على إسرائيل وأن إسرائيل ليس من حقها الرد لأنها الجانب المحتل للأراضي الفلسطينية وتمثل 72% ممن سمعوا عن الهجوم، المجموعة الثالثة تضم من يرون أن الفصائل الفلسطينية ليس من حقها الهجوم على إسرائيل وأن إسرائيل من حقها الرد على هذا الهجوم وتمثل 2% ممن سمعوا عن الهجوم، والمجموعة الرابعة تضم من يفضلون هدوء الأوضاع بين فلسطين وإسرائيل حيث يرون أن هذه الفصائل الفلسطينية ليس من حقها الهجوم على إسرائيل وأن إسرائيل ليس من حقها الرد على هذا الهجوم وتمثل 16% ممن سمعوا عن الهجوم. ولنا أن نتخيل تطورات الوضع بالنسبة لهؤلاء جميعا اليوم بعد ما يقارب من خمسة أشهر من القتال، وفي ظل تشويش إعلامي رهيب وكذب ومحاولات دؤوبة لتصوير نصر المجاهدين على أنه هزيمة.
ولقد سبق وكتبنا مقالاً عن ضرورة وجود مؤسسة الذاكرة الحضارية أكدنا فيه أن “الصهاينة اليهود الذي سرقوا فلسطين في القرن الماضي تميزوا بذاكرة قوية توارثوها من أسلافهم تربى عليها أبنائهم حتى صارت عقيدة راسخة وعادوا لسرقة فلسطين، وعلى العكس منا انطفأت الذاكرة وتم تفريغها من مركزية القدس وفلسطين في الوعي الفردي والجمعي المسلم ففقدنا فلسطين والقدس، وسنظل كذلك حتى نستعيد ذاكرتنا للحضارية من جديد في قلب تربيتنا لأجيالنا الجديدة”. … فغزوة “طوفان الأقصى” ونتائجها المتوالية؛ في جوانبها الإيجابية وآثارها الكبيرة، تثير الكثير من الأفكار وضرورة التداعي من علماء الأمة ورجالها ومؤسساتها وحركاتها لبناء ذاكرة الأمة من جديد، من أجل الاستفادة من الغزوة بشكل صحيح بدلاً من ردود الأفعال التي سرعان ما تبرد في القلوب والعقول وتتلاشى من الذاكرة وتعود الأمة لسباتها من جديد.
فالذاكرة هي مستودع الخبرة، والتداعيات التي تستدعيها هي التي تحرك سيرنا في الحياة، فكل ذكرى تستدعي الذكرى الأخرى، وصورة شيء تجذب إليها صورة أخرى؛ سواء كانت إيجابية أو سلبية، ومن ثم تتشكل قيم الإنسان وتوجهاته. وما يجره ذلك من تداعيات في العقل والنفس والقلب فتنتج أفعالاً وأقوالاً تؤثر على الحياة، ومن ثم فإننا كأمة وأصحاب فكر ورأي لا يُفترض بنا أبدًا أن نخرج من غزوة “طوفان الأقصى” كما دخلناها، لا ينبغي أن يكون هذا أبدًا. ففي زمن الصوت والصورة والآفاق المفتوحة يتم تزوير الماضي والحاضر المشاهد بأم أعيننا، فهل نثق بالتاريخ الذي يقدمونه لنا، وهل نظل نثور ثم نهدأ كأن شيئاً لم يكن بسبب ضعف ذاكرتنا الحضارية… وفي ظل هذا الكذب والتزوير والغش والخداع والحرب على فلسطين والإسلام والمسلمين نحتاج أن نعيد ثقافة التذكر والتذكير القرآنية في الأمة من جديد”.
لذلك فإن مهمتنا اليوم وغداً ؛كأفراد ومجتمع أهلي مسلم وعربي، هي التأكد من أنه في نهاية هذه الحرب أن تظل الذاكرة متقدة تفعل فعلها في تصرفاتنا اليومية وفي انتمائنا لإخواننا في فلسطين وقيامنا على ثغرنا المناط بنا لتذكر والتذكير بالقضية، لأن على الجانب الآخر حيث يسرق العدو الأرض والمقدسات ويقتل إخواننا متسلحاً بعون كل ظلمة الأرض من الكفرة وأهل الكتاب الذين ظلموا وبدلوا الذين يعملون وسيعملوا بكل ما أوتوا من قوة وحيل ومكر حتى لا يكون لدى أي مسلم أي حماس تجاه فلسطين وتبريد القضية تماماً لتتلاشى من الذاكرة المسلمة والعربية وتنشغل بحياتها اللاهية من جديد، وليس هذا وحسب بل تشويه تلك الذاكرة واللعب فيها لقلب نصر غزوة طوفان الأقصى إلى الهزيمة وجهاد إخواننا في فلسطين إلى إرهاب وشجاعة المجاهدين إلى تهور، حتى يتأكدوا من أن حماس المسلمين ووعيهم بالقضية قد تلاشى تماماً.
وفي السنوات العشر الأخيرة درس آخر يجب استيعابه جيداً فقد استفاد الكيان الصهيوني أكثر من غيره من الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والخلافات التي دبت بين فرقاء الثورات في أعقاب الثورات العربية. ومن خلال استغلال المستوى المتضائل من الاهتمام بالقضية الفلسطينية بسبب عطب الذاكرة وتبدل أولوياتها، فتجاهلت حكومات المجرم نتنياهو المتتالية حل الدولتين بالكامل(مع أنه حل وهمي كاذب يسوق له بيننا بسبب عطب الذاكرة أيضاً)، وعلاوة على ذلك اعترفت الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل خلال رئاسة دونالد ترامب، ثم التوقيع على اتفاقيات أبراهام مع الدول العربية ومضاعفة سياسة اليمين المتطرف تجاه غزة والضفة الغربية. ومن خلال فرض الحصار على غزة، قام الكيان الصهيوني بتوسيع مستوطناته في الضفة الغربية واتخذ خطوات لتغيير وضع القدس والأقصى. وأخيراً، بلغت أعمال العنف اليومية التي يقوم بها المجرمون المتعصبون من المستوطنين الصهاينة ضد إخواننا الفلسطينيين في عموم فلسطين ذروتها بعد عملية طوفان الأقصى.
وليس هذا وحسب بل أصبح الفلسطينيون معزولين بشكل متزايد في حين تقاربت دول الطوق والخليج والسودان والمغرب مع العدو وتحالفوا من خلال ما سمي اتفاقيات إبراهيم، وقبل خمسة أشهر كادت المملكة العربية السعودية أن تبرم اتفاقاً مماثلاً مع الكيان الصهيوني لولا أن أسود غزة أجبروها على التوقف مؤقتاً. كل ذلك بفعل اضمحلال الذاكرة الحضارية. وتوجيه ذاكرة أبناء الأمة نحو رؤية مشوهة للصراع.
إن عبر الماضي البعيد والقريب تصرخ فينا أن أفيقوا واهتموا بذاكرتكم الحضارية قبل فوات الأوان، وحتى لا يحدث مثلما حدث كثيراً في تاريخنا من نسيان أدى إلى قيام ممالك الفرنجة في فلسطين قبل أن تحررها جيوش حطين، وفي الماضي القريب عبرة أي عبرة تقدمه لنا دروس أكتوبر 1973م فبعد نصر سريع مبين ومع قيادة فاقدة للذاكرة الحضارية واهنة فقدنا أسباب النصر سريعاً ودخلنا في اتفاقات كاذبة لوهم وسراب سمي سلاماً، وليس هذا أخطر ما حدث لكن الخطورة كانت في عطب الذاكرة الذي أصاب نسبة كبيرة جداً من الأمة فاستفاد من ذلك الكيان الصهيوني وطفق ينشر أسلحة دعايته ويجند جنوداً من بيننا لتفقد ذاكرتنا محتواها العقائدي تجاهه حتى نبتت نابتة تدعو للتطبيع معه والتعاون معه بل وصلنا للتحالف معه.
إن الحالة العظيمة من الوعي بالقضية التي اكتسبتها الذاكرة الفردية والجمعية لغالبية المسلمين والعرب على مدى خمسة أشهر تحتاج رعاية ودعم وتنمية مستمرين حتى تظل جذوتها متقدة في القلوب والعقول وعلى الألسنة، وأن تتطور إلى مؤسسات وآليات ومتنوعة متجددة يقوم عليها رجال متخصصون من شتى التخصصات: دعاة ورجال سياسة وباحثون ومعلمون وعلماء اجتماع اقتصاد وخبراء حروب وإعلاميون ومنتجون وفنانون وأدباء يصورون ويكتبون للكبار والصغار ومنظمات مجتمع مدني تعمل في الإغاثة والتنمية يعون معنى القضية وخطورة دور الذاكرة الحضارية في الصراع الممتد مع عدونا الصهيوني وكل داعميه من المجرمين في الشمال أو الجنوب أو داخل المجتمعات المسلمة. وهنا دور مؤسسات الأمة في وضع أجندة للعمل في المرحلة القادمة للتأسيس لذاكرة جديدة حديدية للأمة لا تعطب ولا تنسى ولا تقبل التشويه.