بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
لقد سلك الإمام الغزالي في ترتيب مباحث أصول الفقه مسلكاً بديعاً لم يُعهد في زمانه ولا قبل زمانه؛ وذلك لما منحه الله تعالى من جودة الذهن ودقة الفهم وتعمق في العلوم العقلية والمنطقية، فجاء ترتيبه في صورة حسية ظاهرة تجعل طالب العلم فضلاً عن المتخصص يدرك جوانب هذا العلم من أول وهله فقد شبه أصول الفقه بشحرة مثمرة حتى تؤتي أكلها لابد من تحقق أربعة أمور:
١- الشجرة (المُثمر) : هي الأدلة: الكتاب والسنة والإجماع.
٢- الثمرة: هي الأحكام: الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة والحسن والقبح والقضاء والأداء والصحة والفساد وغيرها.
٣- طرق الاستثمار: هي دلالات الألفاظ ووجوه دلالة الأدلة وهي أربعة: إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها، أو بفحواها ومفهومها، أو باقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها.
٤- المستثمر: هو المجتهد، ولا بد من معرفة صفاته وشروطه وأحكامه.
فالصورة الحسية لما عناه الإمام الغزالي في هذا التشبيه أن الرجل(المستثمر) الذي هو المجتهد يستخدم الآلة (طرق الاستثمار) كي يقطف الثمرة (الحكم الشرعي) من الشجرة(المثمرة) التي هي الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع حتى ينال بتناولها حياة السعادة والكرامة في الدارين.
ثم بين رحمه الله مزيدَ تفصيلٍ لهذا التقسيم فقال:
فإذن جملة الأصول تدور على أربعة أقطاب:
القطب الأول: في الأحكام، والبداءة بها أولى لأنها الثمرة المطلوبة.
القطب الثاني: في الأدلة وهي الكتاب والسنة والإجماع، وبها التثنية؛ إذ بعد الفراغ من معرفة الثمرة لا أهم من معرفة المثمر.
القطب الثالث: في طريق الاستثمار، وهو وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة: دلالة بالمنظوم، ودلالة بالمفهوم، ودلالة بالضرورة والاقتضاء، ودلالة بالمعنى المعقول.
القطب الرابع: في المُستثمِر وهو المجتهد الذي يحكم بظنه، ويقابله المقلد الذي يلزمه اتباعه؛ فيجب ذكر شروط المقلد والمجتهد وصفاتهما.
…………
بيان كيفية اندراج الشعب الكثيرة من أصول الفقه تحت هذه الأقطاب الأربعة:
لعلك تقول أصول الفقه تشتمل على أبواب كثيرة وفصول منتشرة فكيف يندرج جملتها تحت هذه الأقطاب الأربعة؟ فنقول:
القطب الأول: هو الحكم، وللحكم حقيقة في نفسه وانقسام وله تعلق بالحاكم: وهو الشارع.
والمحكوم عليه: وهو المكلف.
وبالمحكوم فيه: وهو فعل المكلف، وبالمظهر له وهو السبب والعلة.
ففي البحث عن حقيقة الحكم: في نفسه يتبين أنه عبارة عن خطاب الشرع، وليس وصفا للفعل ولا حسن ولا قبح، ولا مدخل للعقل فيه، ولا حكم قبل ورود الشرع.
وفي البحث عن أقسام الحكم: يتبين حد الواجب، والمحظور والمندوب والمباح والمكروه والقضاء والأداء والصحة والفساد والعزيمة والرخصة، وغير ذلك من أقسام الأحكام.
وفي البحث عن الحاكم: يتبين أن لا حكم إلا لله، وأنه لا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه لا حكم لغيره.
وفي البحث عن المحكوم عليه: يتبين خطاب الناسي والمكره والصبي، وخطاب الكافر بفروع الشرع، وخطاب السكران، ومن يجوز تكليفه، ومن لا يجوز.
وفي البحث عن المحكوم فيه: يتبين أن الخطاب يتعلق بالأفعال لا بالأعيان، وأنه ليس وصفا للأفعال في ذواتها.
وفي البحث عن مظهر الحكم يتبين حقيقة السبب والعلة والشرط والمحل والعلامة.
فيتناول هذا القطب جملة من تفاريق فصول الأصول أوردها الأصوليون مبددة في مواضع شتى لا تتناسب ولا تجمعها رابطة، فلا يهتدي الطالب إلى مقاصدها، ووجه الحاجة إلى معرفتها وكيفية تعلقها بأصول الفقه.
القطب الثاني: في المثمر وهو الكتاب والسنة والإجماع.
وفي البحث عن أصل الكتاب: يتبين حد الكتاب وما هو منه، وما ليس منه، وطريق إثبات الكتاب، وأنه التواتر فقط، وبيان ما يجوز أن يشتمل عليه الكتاب من حقيقة ومجاز، وعربية وعجمية.
وفي البحث عن السنة: يتبين حكم الأقوال والأفعال من الرسول، وطرق ثبوتها من تواتر وآحاد، وطرق روايتها من مسند ومرسل، وصفات رواتها من عدالة وتكذيب، إلى تمام كتاب الأخبار.
ويتصل بالكتاب والسنة كتاب النسخ؛ فإنه لا يرد إلا عليهما.
وأما الإجماع فلا يتطرق النسخ إليه، وفي البحث عن أصل الإجماع: تتبين حقيقته، ودليله، وأقسامه، وإجماع الصحابة، وإجماع من بعدهم، إلى جميع مسائل الإجماع.
القطب الثالث: في طرق الاستثمار.
وهي أربعة:
الأولى دلالة اللفظ من حيث صيغته، وبه يتعلق النظر في صيغة الأمر والنهي والعموم والخصوص والظاهر والمؤول والنص، والنظر في كتاب الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والنظر في مقتضى الصيغ اللغوية.
وأما الدلالة من حيث الفحوى والمفهوم، فيشتمل عليه كتاب المفهوم ودليل الخطاب.
وأما الدلالة من حيث ضرورة اللفظ واقتضاؤه، فيتضمن جملة من إشارات الألفاظ كقول القائل: أعتق عبدك عني، فتقول أعتقت فإنه يتضمن حصول الملك للملتمس ولم يتلفظا به لكنه من ضرورة ملفوظهما ومقتضاه.
وأما الدلالة من حيث معقول اللفظ: فهو كقوله (لا يقضي القاضي وهو غضبان) فإنه يدل على الجائع والمريض والحاقن بمعقول معناه، ومنه ينشأ القياس وينجر إلى بيان جميع أحكام القياس وأقسامه.
القطب الرابع: في المستثمر وهو المجتهد وفي مقابلته المقلد.
وفيه يتبين: صفات المجتهد وصفات المقلد، والموضع الذي يجري فيه الاجتهاد، دون الذي لا مجال للاجتهاد فيه، والقول في تصويب المجتهدين، وجملة أحكام الاجتهاد.
فهذه جملة ما ذكر في علم الأصول، وقد عرفت كيفية انشعابها من هذه الأقطاب الأربعة؛ بيان المقدمة ووجه تعلق الأصول بها.