مقالاتمقالات مختارة

طبائع الحكم مع ابن خلدون..3- الدول العظيمة قامت على الدين

طبائع الحكم مع ابن خلدون..3- الدول العظيمة قامت على الدين

بقلم محمد إلهامي

ما حقيقة العلاقة بين الأديان والحضارات؟

إذا كانت الأديان تفرق بين الناس وتنشر فيهم الخرافات والأساطير وتخضعهم للملوك والكهان، فكيف قامت حضارات دينية؟

وإذا كانت العلمانية التي تنفي الدين أو لا تأبه لم تستطيع جمع الطاقات الوطنية وإنشاء جسور التعاون مع المختلفين، فلماذا لا نجد في التاريخ حضارة علمانية أو حضارة ملحدة؟ وهذه الحضارة الغربية المعاصرة، أليست حضارة علمانية ملحدة؟ أم أنها حضارة مسيحية؟!

”الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين اما من نبوة أو دعوة حق وذلك لأنّ الملك إنّما يحصل بالتّغلّب والتّغلّب إنّما يكون بالعصبيّة واتّفاق الأهواء على المطالبة وجمع القلوب وتأليفها إنّما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى ﴿ … لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ … (63)﴾ وسرّه أنّ القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدّنيا حصل التّنافس وفشا الخلاف وإذا انصرفت إلى الحقّ ورفضت الدّنيا والباطل وأقبلت على الله اتّحدت وجهتها فذهب التّنافس وقلّ الخلاف وحسن التّعاون والتّعاضد واتّسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدّولة” – كما نبين لك إن شاء الله –

هنا ابن خلدون يشير إلى أمر شديد الأهمية، وهو أمر مع الأسف الشديد أهل عصرنا هذا هم أكثر أهل العصور غفلة عنه، نحن الآن في زمن يتصور أن الأديان هي سبب من أسباب الفرقة، وأن الأديان تجر إلى العصبيات، والعصبيات تجر إلى التناحر، والتناحر لا يقيم شأن الدول، طيب فما الذي يقيم شأن الدول؟ فأهل عصرنا أيضا يشيع بينهم أن الدولة يجب أن تكون محايدة، وتحتوي الجميع تحت ظلها وهيمنتها، وليست لها علاقة بأديانهم، وليست لها علاقة بمذاهبهم، وأن هذه الدولة بهذا الشكل تنشئ الرابطة الوطنية، الرابطة الوطنية التي يجتمع فيها مجهود المسلم مع غير المسلم، أو مجهود العربي مع غير العربي، يعني بهذا المعنى لأن الدولة الوطنية تجمع أشتاتا، وبالتالي تستطيع هذه الدولة أن تنهض على اختلاف ما كان تحتها من الأعراق والأديان؛ أصل هذه الفكرة أصل غربي المنشأ، وذلك لأن الغرب التعصب الديني عندهم في تاريخهم أنشأ بينهم كثيرا من الحروب، الحروب الدموية، التي وجدوا عندهم أن الانخلاع من الدين والاحتماء بالقوميات هو الذي يمكن أن يكون سببا في توقف هذه الحروب الدينية بينهم، وهم لما وصلوا إذا هذه المرحلة وازى ذلك أنهم كانوا قد اكتشفوا القارتين الأمريكيتين وإفريقية واكتشفوا رأس الرجاء الصالح، وانطلقوا لمرحلة الاستعمار فبالتالي صدروا نزاعاتهم إلى هذه الأراضي، وخفتت بينهم الحروب وإن كانت لم تنتهي، ولكن بدأت بينهم عصور الحروب القومية فيما بعد؛ ابن خلدون هنا يشير إلى أمور أشار إليها غيره من المؤرخين الأوروبيين فيما بعده، وهو أن الحضارات الكبرى أصلها الدين، يعني الدول التي نشأت عبر التاريخ، الحضارات التي نشأت عبر التاريخ، الحضارات والدول الأكبر حجما واتساعا والأزهر حضارة وانجازا وقوة ورقيا كان أصلها الدين، هذا الكلام ردده فيما بعد ابن خلدون كما قلت عدد من المؤرخين منهم كريستوفر داوسون (Christopher Dawson) وله عبارة مشهورة يقول: ”الحضارات الكبرى قامت على الأديان الكبرى” كذلك أرنولد توينبي (Arnold Joseph Toynbee) في كتابه ”مختصر دراسة للتاريخ” يقول أن الأديان كانت بمثابة اليفعات التي احتوت هذه الحضارات، وكانت تقسيمته للحضارات تقسيم يدل على أن كل الحضارات التي نشأت إنما نشأت فوق قاعدة من الأديان، فالحضارة الإسلامية نشأت على الإسلام، حضارة الصين نشأت على البوذية، حضارة الهند نشأت على الهندوكية، وكذلك طبعا الحضارة الغربية المعاصرة حتى الآن هناك جدل كبير هذه الحضارة الغربية المعاصرة هي فعلا حضارة علمانية هي التي أسستها الثورة الفرنسية العلمانية منقطعة الصلة بالدين، أم هي حضارة في مكونها قسم وقلب وروح مسيحية لا يمكن أن تنتزع منها، ولا نريد هنا حل هذا الإشكال ولكننا نرى بالفعل أنه حتى هذه الجيوش العلمانية حين جاءت إلى بلادنا لم تحاول نشر العلمانية فيها، وإنما حاولت نشر العلمانية ولكن بروح صليبية، ولذلك جاء في مرافقة هذه الحملات قساوسة وحملات تنصيرية، وحتى القادة العسكريين يعني هذا القائد الفرنسي غورو (Henri Joseph Eugène Gouraud) يركل قبر صلاح الدين ويقول: ”ها قد جئنا يا صلاح الدين” والجنرال اللنبي (Edmund Henry Hynman Allenby) سنة 1917م يقول: ”الآن انتهت الحروب الصليبية” وجورج بوش (George Walker Bush) فيما قيل أنه فلتت لسان يقول بعد أحداث 11 سبتمبر :”هذه حملة صليبية جديدة”؛ فالمكون الديني في الحضارة الغربية مكون لا يمكن نزعه، حتى الحديث عن أن الحضارة الغربية حضارة علمانية وحضارة ملحدة هو نفسه موضع شك؛ نحن ماذا نريد من ذكر هذا؟ نريد القول ببساطة، بأن الأقوام المهزومون إذا أرادوا أن ينهضوا فلابد لهم من التعلق بالدين، وإذا أرادوا صناعة حضارة فلابد لهم من التعلق بالدين، طالما ثبت أن ”الحضارات الكبرى قامت على الأديان الكبرى” فلا ينبغي أن نضع الدين جانبا وأن نبحث عن روابط وعن هويات وانتماءات أخرى وإنما يجب أن نبعث فينا أمر الدين لاسيما العرب، وابن خلدون أطال في مقدمته في وصف العرب بغير دين، يعني فالعرب أمة وحشية بما أنهم نشؤوا في الصحراء والقفار وكان من عادتهم انتهاب الأقوام، وهم أبعد الناس عن تدبير الملك … ثم راقب تطورهم حتى قال فصل في أن العرب لا تتم لهم سياسة ولا يحصل لهم ملك إلا بصبغة دينية (الفصل 27)؛ طيب ما الذي يحول العرب إلى أنهم من بعد ما كانوا أبعد الناس عن سياسة الأمم، ومن بعد ما كانوا أمة وحشية، ومن بعد ما كانوا همهم الانتهاب، ما الذي صنعه الدين؟ الدين كما يقول وكما هو واضح وكما ذكره من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ”إنَّا كنَّا أذلَّ قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العِزَّة بغير ما أعزَّنا الله به أذلَّنا الله”، الدين هنا يرفع من شأن العصبية فيجعلها خالصة لله وليست خالصة لوجه من وجوه الدنيا، وحينما تكون الغاية متجهة إلى الله ورجاء الآخرة وثواب الدار الآخرة، يقل التحاسد والتباغض والتنازع، ولذلك يقوم أهل هذا الشعور الجارف بغلبة من كانوا على الباطل حتى وإن كانوا أكثر منهم عددا وعدة، لأن هؤلاء أهل الباطل هؤلاء ليست لهم من توحد القلوب وليست لهم من قلة التنازع والتحاسد والتباغض ما يجعلهم يقومون لهذا النفر الذي يحمل هذا الشعور، فلذلك لما جاء الإسلام تغير حال العرب وصارت لهم امبراطورية عظمى تتمدد من الصين إلى فرنسا، وهذه الأقوام الكبيرة لما دخلت في دين الإسلام كانت السيادة عليهم للعرب في صدر الإسلام، وكذلك حتى غير العرب الذين دخلوا في هذه الصبغة الدينية مازالوا يقدرون وينظرون إلى العرب بنوع من التوقير والإجلال. فنحن الآن في عالمنا هذا إذا عرفنا أننا مستضعفون، وإذا أردنا أن نقيم حضارة، وإذا عرفنا أن أقوامنا لا تقوم لهم هذه الحضارة، ولا تتمهد لهم سياسة الأمم إلا بالدين، فأخطأ الخطأ وأبطل الباطل أن نستبعد الدين من حياتنا، وأن نركز على إنشاء هويات وروابط وولاءات أخرى؛ يضرب ابن خلدون المثل في هذا فيقول:

”وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات فكانت جيوش المسلمين بالقادسيّة واليرموك بضعة وثلاثين ألفا في كلّ معسكر وجموع فارس مائة وعشرين ألفا بالقادسيّة وجموع هرقل على ما قاله الواقديّ أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم”

وضرب أمثلة أخرى ثم قال:

”واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدّين وفسدت كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبيّة وحدها دون زيادة الدّين فتغلب الدّولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزّائدة القوّة عليها الّذين غلبتهم بمضاعفة الدّين لقوّتها ولو كانوا أكثر عصبيّة منها وأشدّ بداوة واعتبر هذا في الموحّدين مع زناتة لمّا كانت زناتة أبدى من المصامدة وأشدّ توحّشا وكان للمصامدة الدّعوة الدّينيّة باتّباع المهديّ فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوّة عصبيّتهم بها فغلبوا على زناتة أوّلا واستتبعوهم وإن كانوا من حيث العصبيّة والبداوة أشدّ منهم”

هنا يتحدث ابن خلدون عن أن هذه القاعدة، قاعدة الدين الذي لما وضوع على العصبية ازدهر بها، وزادها قوة إلى قوتها، ومكن هؤلاء الحفاة الرعاة، رعاة الإبل والغنم أن يكونوا فيما بعد سادة وقادة ورعاة للأمم وليس للغنم، هذا حين ينتقض الدين، حين يزول الدين وتأتي العصبية، حين يزول الدين وتأتي العصبية ترجع المكافأة بين القوى، يعني العرب غلبوا فارس والروم بما كان لهم من العصبية وفوقها الدين، قبل أن يكون هناك دين كانت عصبية العرب لا تقوم لكي تواجه فارس والروم، بل كان العرب مستذلين لفارس والروم، أو بعيدين عن مواقع قوتهم، يعني كان العرب الغساسنة في نفوذ الروم، والعرب المناذرة كانوا في نفوذ الفرس، لما أضيف الدين على هذه العصبيات استطاع العرب أن يهزموا هاتين الدولتين الكبيرتين التين كانتا تمثلان القوى العظمى العالمية في ذلك الوقت، فيقول اعتبر في ذلك أن حتى هؤلاء العرب لما زالت عنهم هذه الصبغة الدينية، وضرب مثلا ببعض هذه القبائل التي كانت موجودة في المغرب (المرابطين والموحدين) هذه قبائل زناتة وقبائل المصامدة هي القبائل التي قامت عليها الدعوة الدينية، يعني دولة الموحدين التي قادها محمد ابن تومرت الذي زعم المهدية، فهنا هؤلاء قبائل أكثر بداوة لكنهم لما أضيفت لهم الدعوة الدينية نهضت بما في نفوسهم من الطاقة والقوة والعصبية، فاستطاعوا أن يغلبوا بها من لم يكونوا يغلبونه من قبل، وذات الكلام إذا استطاعت الدولة إذا المسألة ليست فيها دعوة دينية تستطيع الدولة أن تغلب العصبيات التي كانت مكافأة لها أو حتى كانت أقوى منها.

خلاصة الكلام أن الدين حيوي لنهضتنا، حيوي لنهضة الأمم عموما، ”الحضارات الكبرى قامت على الدين”، وحيوية لنهضتنا خصوصا فنحن لم تقم لنا حضارة إلا على الدين، وحيوية لأنها إذا دخلت علينا نزعت ما كان بيننا من التمزق والافتراق والتحاسد والتباغض، وجعلت هم الناس الله والدار الآخرة، ومن ثم توحدت هذه القوة واستطاعت أن تغلب من لم يكن لهم عصبية دينية من أعدائنا.

من القصائد البديعة التي تصور غلبت الأمة الإسلامية لسائر الحضارات والأمم وانتشارها في أقطار الأرض شرقا وغربا قصيدة الشاعر محمد إقبال ومطلعها يقول فيها:

كُنَّا جِبَالاً فَوْقَ الجِبَالِ ورُبَّمَا

سِرْنَا على مَوْجِ البِحَارِ بِحَارَا

بمَعَابِدِ الإفْرِنـْجِ كَـان أذَانُنـَا

قَبْلَ الكَتَائِبِ يَفْتَـحُ الأمْصَـارَا

لَمْ تَنْسَ أفْرِيقيَا ولا صَحْرَاؤُهَـا

سَجَداتِنَا والأرْضُ تَقْذِفُ نَـارَا

وَكَأنَّ ظِلَّ السَّيْفِ ظِـلُّ حَدِيقَـةٍ

خَضْرَاءَ تُنْبِتُ حَوْلَنَا الأزْهَـارَ

لَـمْ نَخْـشَ طَاغُوتَـاً يُحَارِبُنـَا ولَوْ

نَصَبَ المَنَايَا حَوْلَنَا أسْوَارَا

نَدْعُوا جِهَارَاً لا إلَهَ سِوَى الَّـذِي

صَنَعَ الوُجُودَ وقَـدَّرَ الأقْـدَارَا

(المصدر: موقع البوصلة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى