مقالاتمقالات مختارة

طارق البشري.. القاضي والمفكر

طارق البشري.. القاضي والمفكر

بقلم محمد عبد العاطي

ولد طارق البشري في حلمية الزيتون بالقاهرة في الأول من نوفمبر عام ١٩٣٣ ومات في السادس والعشرين من فبراير عام ٢٠٢١ عن عمر ناهز ٨٨ عاما.

والده المستشار عبد الفتاح سليم البشري، رئيس محكمة الاستئناف، وجده لأبيه الشيخ سليم البشري، شيخ الجامع الأزهر لعشر سنوات والذي وافته المنيّة عام ١٩١٧، وعمه الأديب المعروف عبد العزيز البشري.

هو رابع إخوته وأصغرهم، وقد عاش في بيت جده مع أسرته حتى بلوغه العشرين، وكان كثير الاختلاط بأصحاب العمائم والطرابيش (ذوي التعليم الأزهري وخريجي المدارس الحديثة) من المشايخ والأفندية سواء من الأعمام أو من المترددين على هذا البيت العامر.

توفي جده قبل مولده بستة عشر عاما لكنه سمع عنه الكثير من أعمامه وعمّاته فتأثر بسيرته وحرص على الاحتفاظ ببعض آثاره ومنها عباءته التي ظل يتدثر بها حتى بليت، وحينما بدأ وعيه يتفتّح علم بمواقف جده ومنها اسقالته من مشيخة الأزهر حينما طلب منه الخديو عباس حلمي الثاني العدول عن تعيين شيخ رواق، وهو الشيخ أحمد المنصوري الذي لم يكن الخديو يريده بينما يرى الشيخ سليم البشري أنه جدير بالمنصب، وحينما أصر الطرفان على موقفيهما قدّم الشيخ سليم استقالته فقُبلت، ثم عادت إليه المشيخة مرة أخرى حينما ألّحوا عليه في قبولها وهو يعتذر لتقدّمه في العمر حيث كان قد بلغ التسعين وإزاء إلحاحهم قبلها. وهنا تعلّم الشاب طارق البشري قيمة العلم ومكانة العلماء وأهمية أن يكون للإنسان موقف في الحياة وأن يدافع عن ما يراه حقا وعدلا، وأن هذا ما يرفع الناس ويبقى في الأرض وليس المال والسلطان.

جده لأمه هو الشيخ حسن غانم، خريّج الأزهر، ومن أصحاب الأملاك الزراعية بقرية الدير بمحافظة القليوبية، وكان طارق البشري يمضي فيها إجازته باستمرار وهو طفل وشاب حيث لم تكن تبعد عن القاهرة سوى ثلاثين كيلو مترا.

وقد تأثر البشري في تكوينه الاجتماعي واكتسب ملامح شخصيته من تلك الحاضنة الأسرية والعائلية الأصيلة والطيبة التي جاء منها، أما تأثير المناخ الثقافي الذي تفتّح وعييه عليه فقد كانت قضيته الأبرز هي القضية الوطنية ومساعي الاستقلال خلال الثلاثينات والأربعينيات إلى بداية النصف الأول من الخمسينيات. هذا على المستوى الوطني، أما على مستوى المناخ الدولي فقد كانت تلك الفترة هي فترة الحرب العالمية الثانية بمحاورها وأحلافها وما أعقبها من أفكار ومبادئ جسّدها ميثاق منظمة الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد ترك ذلك أثره الهام على عقل ووجدان طارق البشري في مقتبل حياته فأصبح همُّ الاستقلال بمعناه السياسي والفكري والحضاري قضيةً محورية في توجهاته وكتاباته بعد ذلك.

تعلَّم البشري في مدارس حلمية الزيتون وتأثر سلباً وهو في الابتدائية بمدرس الرسم الذي كان يكثر من ضربه فانصرف كليةً إلى فن تعبيري آخر وهو فن التعبير بالكلمة فأجاد الكتابة وأتقن أساليبها.

وتأثر إيجاباً بمدرس التاريخ وهو في المرحلة الثانوية (البكالوريا) إذ كان يُدرِّس له هذه المادة الأستاذ محمود الخفيف، المؤرخ وصاحب كتاب أحمد عرابي المفترى عليه، والذي كان كثير المساهمات بالكتابة في مجلة الرسالة، وكان مثقفا، صاحب موقف، شجاعا، ينتقد بجرأة الخديو في ما يراه يستحق النقد، فتأثر به طارق البشري وأحب مادة التاريخ التي أصبح له فيها باع طويل.

وفي كلية الحقوق التي اختارها لدراسة القانون تأثر ببعض الأساتذة الذين كانوا يدرسّونه هناك، منهم الشيخ عبد الوهاب خلّاف، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ علي الخفيف، حيث حببوا إليه القانون والشريعة وصقلوا أسلوبه.

وإلى جانب تأثره بالعصر ومناخه، والتعليم النظامي وأساتذته، فقد أثرت في البشري كذلك قراءاته الحرة، فقرأ كتب التراث بمكتبة جده، وكتب القانون والشريعة بمكتبة والده ومكتبات كلية الحقوق ونقابة المحامين، واقتنى كتبه الخاصة التي كوّن منها مكتبته والتي نمت مع مرور السنين حتى بلغت عشرة آلاف كتاب كما يذكر ذلك الدكتور إبراهيم البيومي غانم، أحد تلامذته النجباء، في دراسته عن البشري التي ضمّنها كتاب «طارق البشري، القاضي والمفكر» الصادر عن دار الشروق عام ١٩٩٩ والذي احتوى كلمات ودراسات نخبة من المفكرين والمثقفين والباحثين المصريين التي ألقوها في الاحتفاء به بمناسبة انتهاء ولايته القضائية نائبا أول لرئيس مجلس الدولة ورئيسا للجمعية العمومية للفتوى والتشريع فيه حين بلوغه الرابعة والستين، والتي اعتمدت على أغلبها في المعلومات الواردة هنا.

ومن المعاصرين من المفكرين والكتاب تأثر البشري بالشيخ محمد الغزالي خاصة كتابه «عقيدة المسلم» الذي أصدره عام ١٩٥١، وسبب إعجابه بالغزالي كما قال هو «توازن أفكاره وحلاوة أسلوبه». كما تأثر بالمواقف الفكرية الجادة للشيخ خالد محمد خالد وشيخ الأزهر جاد الحق علي جاد الحق، خاصة في دفاع الأول عن الديمقراطية ودفاع الأخير عن استقلالية الأزهر.

وإلى جانب النهل من منابع الثقافة الإسلامية قرأ البشري لكبار المفكرين الغربيين، ودرس الحركات السياسية والفكرية والاجتماعية في أوروبا، ووجد نفسه حتى نهاية الستينيات علماني التفكير؛ ينظر إلى الدين على أنه مجرد علاقة بين العبد وربه تمنحه اليقين في أن مسائل الصحة والرزق بيد الله، وإلى الفقه على أنه تقنيات لازمة لتخصصه ومهنته فقط، ثم مع هزيمة يونيو ٦٧ بدأ يعيد التفكير مرة ثانية في زوايا النظر إلى الحياة وما يحتاجه المجتمع، وشرع في رحلة الاقتراب أكثر إلى ما يمكن وصفه بالنَفَس الإسلامي وخاصة فيما له صلة بالعلاقة بين الماضي والحاضر، الوافد والموروث، التراث والحداثة.. شأنه في ذلك شأن عديد المفكرين والكتاب والباحثين مثل عبد الوهاب المسيري ومحمد عمارة وعادل حسين، فأصبح الإسلام بالنسبة للبشري ليس إطارا إيمانيا فحسب بل معرفيا أيضا، ومذاك والبشري يكتب في مسائل التجديد في التشريع والفكر الإسلامي، وقضايا الهوية والمسألة الوطنية، والمرجعية الإسلامية في مقابل المرجعية العلمانية، وبات يُنظّر للإسلام باعتباره “أصل الشرعية ومعيار الاحتكام والإطار والمرجوع إليه في النظم الاجتماعية والسياسية وأنماط السلوك”، كما ذكر ذلك بنفسه في المقدمة الجديدة لكتابه الحركة السياسية في مصر.

وهكذا كان طارق البشري، قاضيا نزيها، ومؤرخا دقيقا، ومفكرا أصيلا، وإنسانا رقيقا. له مؤيدوه، وله منتقدوه، ويكفينا أننا من عارفي فضله حتى ولو لم نكن من هؤلاء ولا أولئك.

لقد فقدت مصر والأمة العربية والإسلامية اليوم بموته قامة وقيمة قلَّما يجود الزمان بمثلها، فأجزل الله مثوبته، وجعل مثواه الجنة، وخالص التعازي لأسرته ومحبيه.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى