مقالاتمقالات مختارة

ضوابـط الحـوار في الاسلام

قد نرى بعض الفرقاء كلما أرادوا ائـتــلافــاً تفرقوا.. وحيثما جلسوا لتسوية خلاف تشتتوا وتنازعوا!!
ولا يرجع ذلك إلى نوعية الأخلاق المتردية لهذا الفريق أو ذاك فقط.. وإنما يرجع قبل ذلك وبعده إلى الجهل بعلم الحوار وفن المحاورة الذي يجعل المتقاربين في الأهداف والأفكار في خلافٍ دائم، ونزاع مستمر، وفُرقة مقيتة!!
ولكي لا نسقط في فتنة الفُرقة لابد أن نرتفع بحــواراتـنا إلى مستوى أن تصبح علماً نتلقاه، وفناً نتدرب على أساليبه ونمارسه للوصول إلى أهدافنا الـنـافـعـــة، بعـيــداً عـن الارتجال وتغييب الخيال!
وهــــــذه الـمـقـالـة، دعوة لتعلم ضوابط الحوار التي تحكمه، والتدرب على أساليبه التي تخدمه، والتعرف على عوائقه التي توقفه.. حتى يكون كلامنا باعتدال، وجدالنا بمنطق، وحوارنا باتزان، سائلاً الله التوفيق والسداد.
لكل حوار ضوابط تحـكـم مساراته، وتوجه تلاقح الأفكار خلاله.. وضوابط الحوار ـ فضلاً عن كونها آداباً وأخلاقــاً ـ هي جزء رئيس ومؤثر في فعالية أي عمل يُبْنى على الحوار.. ذلك: أن أي عمل في بدايـتــــه هو مشروع في محتوى بعض الكلمات والأفكار التي ينميها الحوار ويخصبها، ويبعث فيها روح العمل.
ولا شك أن ضوابط الحوار إنما تقـوم على أصول سلفنا الصالح ـ أهل السنة والجماعة ـ في تمحيص الآراء المتباينة، وتجلية الإشـكـــالات المتوقعة، دون تَحَول الحوار إلى مهاترات يضيع معها الود لتحل محله الجفوة والقطيعة.
ومن هذه الضوابط:
1- السـماع الكامـل:
الحوار هو: فن السماع للآخر، وعدم الطمع في الكلام بدلاً منه، لأن هذا الطمع يزهدنا فيما يقوله مَن نتحاور معه، ويحرمنا من تَدبّر قوله الذي لا يتحقق إلا بالسماع الكامل لهذا القول حتى دُبرَه أي: آخره.
كما أن السماع الكامل للآخر يُشْعره باهتمامنا بما يقول، وجديتنا في التحاور معه، وثقتنا في الوقت ذاته فيما عندنا.
وتأمل معي هذا الحوار بين عتبة بن ربيعة والنبي -صلى الله عليه وسلم-، لقد أتى عتبة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى جـلــس إليه، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكانة في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفّهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها، قال رسول الله ص: قل يا أبا الوليد، أسمَع. قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الأطـبــــاء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى مـنــــه.. أو كما قال، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فاستمع مني. قال: أفعل. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بسم الله الرحمن الرحيم ((حم * تنزيل من الرحمن الرحيم…))(فصلت:12)(1).
فانظر ـ رحمك الله ـ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كيف يستمع إلى عتبة وهو يعرض عليه هذه الخواطر التي تثير الاشمئزاز مقارنة بما يشغل النبـي مــــن عظائم الأمور، ومع ذلك يتلقاها النبي حليماً، ويستمع إليه دون مقاطعة عتبة ويردد في نهايتها: أفرغت يا أبا الوليد؟. فيقول: نعم، فيقول الرسول الكريم: فاستمع مني، بل لا يبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- كلامه حتى يقول له عتبة: افعل.. فيبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلاوة قول ربه في ثقة وطمأنينة!!
إن السماع الكامل للآخر، وإعطاءه الفرصة حتى يُتم كلامه، مع استوضاح أي غموض فيما يعرضه من أفكار.. إن كل ذلك لا بد أن يكون هو السمة المميزة لكل حواراتنا، فإذا تبين لنا خطأ الآخر، فإن السماع الكامل له وعدم مقاطعته هو المقدمة الصحيحة لرجوعه عن الخطأ مهما كان عناده وغلظته؛ فإن أشد الناس جفافاً في الطبع وغلظة في القول لا يملك إلا أن يلين وأن يتأثر إزاء مستمع صبور عطوف يلوذ بالصمت إذا أخذ محدثه الغضب(2).
2- تجريـد الأفكـار:
هدف الحوار هو الاستفادة من الأفكار وليس تدمير الأشخاص، ولذلك؛ فإن من أهم ضوابط الحوار: التركيز على فض الاشتباكات الفكرية دون التعرض السلبي للأشخاص بتشويه أو تجهيل، فلا خلاف مطلقاً بين أشخاص المتحاورين، وإنما بين أفكارهم، والفـكرة الحسنة تُمْتدح بغض النظر عن قائلها، والفكرة الخطأ تُرَاجع دون تسفيه قائـلـهــا أو التهكم منه، فالنظر دائماً إلى الآخر من خلال ما قيل، لا من قال(3)، مع احترام أهل الـعـلــم، وحفظ مكانتهم ومراتبهم، فلا نؤثمهم مطلقاً ولا نعصمهم مطلقاً، ولا نقبل كل أقوالهم ولا نُهْدرها كلها، وإنما ننتفع بأفكارهم ما دامت حقاً، ولا نعتقد فيهم العصمة من الخطأ، ونـــرى أن الآخر قد يمتلك الحق أو أنه يكون هو الراجح عنده، وأن ما عندنا يحتمل الـخـطـأ أو أن يكون هو المرجوح.
ولا شك أن التحاور ضمن هذا المبدأ مبدأ افتراض المخالفة هو المدخل الذي يضع الآخر في أول الطريق الصحيح للتفكير، لأنه يرى أن من يحاوره يضع نفسه معه في موضع المجادلة المشتركة لمعرفة الحق؛ ((وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين))[سبأ:24].. هكذا في هدوء من يبتغي للآخر الإرشاد وليس الإفحام والإذلال، وفي ثقة من أخلص للحق المجرد فـصـــح انقياده له، ولم يهتم بمن قاله من البشر، وإنما كان جُل اهتمامه بالقول في ذاته وتمييز الحـســــن منه والأحسن، ثم اتباع الأحسن، فكان من أصحاب البشرى بالنجاح وتحقيق الأهداف فـي الدنـيــا، والنعيم في الآخرة؛ ((فبشر عبادٌ * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب))[الزمر: 17،18].
3- تـرك المـراء:
قد يُخْفِي الحوار في نفس من يمارسه حباً خفياً للتميز على الآخر، ولا يمكن اكتشاف هذه العورة النفسية إلا بأن يترك المحاور المراء والجدل، ويلتزم بيان الحق بالحجج والبراهين.
ومن هنا: فقد وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- تارك المراء ببيت في الجنة.. قال -صلى الله عليه وسلم-: أنا زعيم بـيــت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً(4).. فرغم الاعتقاد بملكية الحق لا يكون إثباته عن طريق المراء والجدل، وإنما عبر الطرق والمسارات الشرعية التي تصل بسالكها إلى بـيــــان الحق، وعدم الانتقال بأي حال من الأحوال من شواهد الأدلة إلى دوافع الآخر، أو مــن إقامة الحجج للتدليل على صحة ما نراه ونعتقده إلى إثارة الجدل للتدليل على خطأ الآخر وخبث بواعثه.. فيدور حوارنا في حلقة مفرغة، ويتفرع إلى مضايق ومتاهات تتمزق فيها الأفـكــــار ويُقْتل التفكر والتدبر على مذابح المراء والجدل العقيم!!
إن الـمـــراء يغلق باب الحوار ويلغيه، لأنه يدفع طرفي الحوار إلى التصور الخاطئ: بأن حوارهما هو مباراة لا تكون نتيجتها إلا قاتل أو مقتول، فلا يبحث كل منهما عن حقائق أو أدلة، وإنـمــــا يكون بحثه وجهده في محاولة إغراق الآخر في طوفان من الكلام الذي يُضيع الوقت والجهد في غير فائدة، ويوغر الصدور، ويكرس الفرقة.
4- تغافـر لا تنافـر:
الحوار هو لون من ألوان التشاور حول بعض الموضوعات والأفكار، ومن ثم: فهو جلسة تناصح وتغافر وليس جلسة تصارع وتنافر، فمع قبول رأي الآخر أو رفضه تبقى طهارة القلب وصفا ء السريرة نحوه، مع قبول معذرته والتغافر عن خطئه إن وقع، بل والحرص على أن يخرج الحق على لسانه، فقد رُوي أن الإمام أبا حنيفة (رضي الله عنه) رأى ولده حماداً يناظر في الـمسجد فنهاه، فقال له ولده: أما كنت تناظر؟ قال: بلى، ولكن كنا كأن على رؤوسنا الطير مـــن أن يخرج الباطل على لسان الخصم، بل كنا نود أن يخرج الحق على لسانه فنتبعه، فإذا كنتم كذلك فافعلوا!!(5).
وهذه هي سيماء سلفنا الصالح في حواراتهم، فقد ذُكِر عن حاتم الأصم أنه قال: معي ثلاث خصال أظهر بها على خصمي، قالوا: وما هي؟ قال: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ نفسي لا تتـجـاهــــل عليه، فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله) فقال: سبحان الله! ما كان أعقله من رجل(6).
.. نعم، ما أعقله من رجل يحب أن يُظْهر الله الحق على لسان أخيه، ويحاول رؤية الحق من أي وعاء خرج، ومن أي جهة سطع.
إن من طلب الحق فأخطأه لا يمكن تسويته بمن طلب الباطل فأدركه، فطالب الحق ـ وإن أخطأ ـ نتجاوز عن خطئه، ونغفر له تجاوزه، وإن كان ثمة عتاب فبالمودة والإخاء والقول الحسن.
وتأمل معي ما جاء في سيرة علي بن الحسين (رضي الله عنه): لقد كان بينه وبين ابن عمه حسن شيء، فما ترك حسن شيئاً إلا قـالــه، وعلي ساكت، فذهب حسن، فلما كان الليل، أتاه علي فقال: يا ابن عمي إن كنت صادقـــاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، والسلام عليكم. فالتزمه حسن، وبكى حتى رثي له(7).
إن الحوار جلسة بدء علاقة يظللها الحب والتغافر، ولسان حال المتحاورين:

مـن اليوم تعارفنا ونطوي ما جرى منا

فـلا كـان ولا صـار ولا قـلـتـم ولا قلنا

5– الصـدق والوضـوح:

الصدق ـ مع كونه ضابطاً من ضوابط الحـــــوار ـ هو خلق نبيل لا خيار للمسلم في التحلي به،.. والوضوح في الفكرة هو وسيلة قبولها من الطرف الآخر.. والوضوح في المواقف له أكبر الأثر في تصفية القلوب وإعادة الود.
ومن هنا كان الصدق والوضوح هما طريق التآلف وحصول البركة، قال رسول الله ص: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبـيـنــا بورك لهـمــــا في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما(8).
وكما أن البيع المبني على الصدق والوضوح هو بيع مليء بالبركة، كذلك الحوار القائم على الصدق والوضوح هو حوار مبارك ييسر الله تعاون أطرافه على الـبـر والـتـقــــوى، ويبارك جهودهم المتعاونة على نصرة الحق.
ومـن هـنـا وجب علـيـنـا في كل حواراتنا أن نتجنب الكلمات الغامضة التي تؤدي إلى سوء الفهم، ونتجنب أســـالـيـــب المغالطات والدفاع عن الأوضاع الخاطئة التي تؤدي إلى إثارة الحقد، وإيغار الصدور والـقـلــوب، وذهاب الود بين طرفي الحوار، ومن ثم تكون النتيجة هي فشل الحوار في تحقيق أهدافه.
6- العلـم والعـدل:
الحوار الناجح هو حوار يـضـبـــط العلم مساره، ويوجه العدل موقف كل طرف فيه تجاه الآخر.
فأما العلم، فإنه لا يستقيم حوار بـدونه، بل في غيابه يصبح ضرر الحوار أكثر من نفعه، لأن جهود المتحاورين في هذه الـحـــــال تذهب سدى وتضيع بلا ثمرة تذكر.. روى الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ قال: فسمعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج، فكأنما فُقئ في وجهه حب الرمان، فقال: بهذا أمرتم؟!، أو بهذا بعثتم، أن تضربوا القرآن بعضه ببعض؟! إنما هلكت الأمم قبلكم في مثل هذا، فانظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، وانظروا الـــــذي نهيتم عنه فانتهوا عنه(9)، يقول ابن تيمية (رحمه الله) في التعليق على هذا الحــــديث: وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه(10).
وأما العدل فهو الطريق إلى اعتدال أخــــــلاق المتحاورين بين طرفي الإفراط والتفريط، وهو الحامل لهم على قبول الحق من الخصم، بل من العدو المبين!!
لقد روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله علـيـه وسلم- وكله بحفظ زكاة رمضان، فأتاه آت فجعل يحثو من الطعام، فأمسك به ثم خلى سبيله، ثم عاد الثانية والثالثة، إلى أن قال في الثالثة: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بـهــا، قال: قلت: ما هن؟، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم))[البقرة: 255] حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح. فلما أخبر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟، قال: لا، قال: ذاك شيطان(11).
فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يمـتـنـع من قبول الحق من أعدى أعدائه، بل ممن يعلم أنه كثير الكذب.. وذاك غاية العدل.
إن طريق الوصول إلى الحق عبر الحوار هو الاتـصـــاف بالعدل والعلم وحسن القصد، وأما الجهل والظلم وسوء القصد فهو الطريق إلى التنازع والـفـرقــــــة والقطيعة بين أهل المنهج الواحد، بل بين ذوي الرحم.
ولا تزال قلة الإنصاف قاطعةً بين الأنام وإن كانوا ذوي رحم
7- التحـاور العملـي:
المتأمل في حواراتنا يجد أنها تحوي في أكثرها هوة كبيرة بين مـــا نتحاور له وما يترتب عليه من أعمال في الواقع.. وهذه كارثة.. لأن الحوار يجب أن يكون حول ما ينبني عليه عمل وفيما ترجى من ورائه مصلحة أو منفعة، أما عدا ذلك: فالخوض فيه: خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي في الكتاب أوالسنة أو عمل سلف الأمة.
فأما الكتاب فآيات كثيرة؛ منها: قوله (تعالى): ((يسألونك عن الأهلـــة قل هي مواقيت للناس والحج))[البقرة: 189] حيث جاء الجواب بما تعلق به العمل، مع الإعراض التام عما قصده السائل من السؤال عن الهلال من كونه يبدو في أول الشهر دقيقاً كالخيط، ثم يمتلئ حتى يصير بدراً، ثم يعود إلى حالته الأولى.
وأما السنة فأحاديث كثيرة؛ منها: “أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: متى الساعة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: وما أعددت لها؟ فكأن الرجــل استكان ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكني أحـــب الله ورسوله. قال -صلى الله عليه وسلم-: أنت مع من أحببت(12)” (13).
وأمــــا عمل السلف الصالح فكثير أيضاً، نذكر منه: خبر عمر بن الخطاب مع صبيغ بن عسل الذي كان يسأل عن متشابه القرآن، فقال عـمر: سبيل محدثـة ـ أي: بدعة جديدة ـ ثم أرسـل إلى رطائب من جريدة نخل فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة ـ أي: قرحة ـ ثم تركه حـتـــى برئ ثم عاد له، ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعود، فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد أن تداويني، فقد والله برئت، فأذن له عمر أن يذهب إلى أرضه.
إن تحاورنا يجــــب أن يكــون هو الخطوة التمهيدية الأولى في طريق أعمالنا المشتركة التي نتعاون على إتمامها.. ولذلك: فـإنـــه من الضروري أن نتعرف قبل التحاور على الأهداف العملية للحوار، ونتبين ما هي الدوّامات الفكرية الطارئة والمنعطفات النظرية العارضة التي قد تلفتنا عن أهدافنا العملية لتنحرف بـحـــواراتـنـا إلى أمور نظرية شكلية ليس لها أدنى تأثير في مسيرة العمل، ولا يترتب عليها إلا استنفاذ طاقاتنا في غير طائل وبغير ثمرة.
وثمة ضوابط أخرى للحوار لا يسعنا الوقوف عندها تـفــصـيـلاً حتى لا نخل بأحد ضوابط الحوار وقواعده الضرورية، وهي:
8- الحجـة الرأسـية:
الحوار الناجح هو حوار يخلو من الإطالة الزائدة عن الحد، التي تُحَوّل الحوار إلى خطبة يتشدق فيها كل طرف من أطراف الحوار ويتفاصح بكثرة الكلام، بل وغرابته أحياناً!!، وهو ما كرهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: .. إن أبغـضـكــم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قـــد عـلـمـــنـا الـثـرثــــارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟، قال: المتكبرون، والثرثار: كثير الكلام تكلفاً، والمتشدق: الـمـتـطـــــاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق: أصله من الـفـهــــق، وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فيه بالكلام، ويتوسع فيه، ويغرب به تكبراً وارتفاعاً، وإظهاراً للفضيلة على غيره (14).
إن الإطالة والتكرار والإسهاب ـ وهو ما نطلق عليه الحجة الأفقية ـ لا ينتج عنه إلا دفن الفكرة الرئيسة للحوار وسط هـــذا الكم الكبير من الكلام، ومن ثم: عدم قدرة الآخر على اكتشاف ما نقصد فضلاً عن فهمه وتدبره؟!
وإذن: فالمحاور العاقل هو من يحـاول الـوصــــول إلى هدف الحوار من أقرب طريق، ولا يضيع وقته ووقت الآخر في تكرار الكلام والإسهـــاب في المقدمات التي لا فائدة فيها، بل يقتصر في الألفاظ والكلمات على قدر الحاجة ويوضح فكرته بأقرب عبارة وأوجز لفظ، وهو ما نطلق عليه الحجة الرأسية حيث يذكر المحاور فـكـــرته الرئيســة، ثم ينتقل بعد ذلك لتدعيمها بالأدلة، في إجمال غير مخل، وتفصيل غير ممل.
إن من فقه الحوار وذكاء المتحاورين: أن يتحرزا عن إطالـــة الـكـــلام في غير فائدة، وعن اختصاره اختصاراً يخل بفهم المقصود منه(15)، وأن يحققا التوازن الـدقـيـــق بين جفاف الحوار بسبب قلة الأدلة أو غموضها، وبين غرق الحوار بسبب الإسهاب والـتـكــرار غـير المفيد.. وللحديث بقية، والله من وراء القصد.
الهوامش :
(1) ابن هشام: السيرة النبوية، جـ1 ص314.
(2) ديل كارنيجي: كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، ص92 بتصرف.
(3) ابن القيم: مدارج اسالكين، جـ3 ص545.
(4) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق، ح/4800، قال الألباني: لكن للحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن، السلسلة الصحيحة، ح/273 ص492.
(5) محمد أبو زهرة: أبو حنيفة.
(6) بكر بن عبد الله أبو زيد: الرد على المخالف، ص60.
(7) شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء، جـ4 ص397.
(8) البخاري، كتاب البيوع، باب إذا بيّن البيّعان…
(9) مقدمة ابن ماجه، ح/10، مسند أحمد، جـ2 ص178.
(10) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم، ص43.
(11) البخاري، كتاب بدء الخلق، جـ4 ص92.
(12) البخاري، كتاب الأدب، ح/295.
(13) انظر الموافقات، ج1 ص46.
(14) النووي: رياض الصالحين، ص289.
(15) الشنقيطي: آداب البحث والمناظرة، ص76.

(المصدر: شبكة المسلم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى