مقالاتمقالات مختارة

(صفقة القرن)… هل ننتظر سقوط غرناطة أخرى؟

(صفقة القرن)… هل ننتظر سقوط غرناطة أخرى؟

بقلم د. محمد جباري

تذكير:

منذ اللحظات الأولى لتبوئه عرش البيت الأبيض، وعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم بأسره بأنه سيقدم ما أسماه «صفقة القرن»، التي اعتبرها الخطة الكفيلة بإنهاء الصراع (الفلسطيني – الإسرائيلي) وإيجاد تسوية نهائية للقضية الفلسطينية التي ما فتئت تراوح مكانها لسبعة عقود، على الرغم من كل المفاوضات والاجتماعات التي عقدت للتـوصل إلى حل سياسي مقبول من الطرفين (الفلسطيني والإسرائيلي).

طوال هذه المدة، لم يكن الوضع الأمني ولا الواقع التـرابي مستقراً ثابت المعالم بفلسطين المنكوبة؛ إذ لم تهدأ البنادق والرشاشات والدبابات والطائرات الحربية الصهيونية، من قصف وقذف المدن والمستشفيات الفلسطينية، علاوة على تصويب الصدور والأطفال واغتيال الأعلام والزعامات الفلسطينية. من جهة أخرى، ما كانت إسرائيل لتكتفي بما انتزعته واغتصبته من التراب الفلسطيني في حربي 1948 و 1967م، بل تكالبت وتغولت – إلى أبعد الحدود – في قضم مزيد من الأراضي وتحويلها إلى مستوطنات إسرائيلية، في تحدٍّ وتجاهلٍ مطبق وعبثٍ بالشرعية الدولية وتحذيرات المنظمات الإقليمية والأممية. خلال هذه المواجهة، لم تكن موازين القوى متكافئة بين الجانبين، ويظهر ذلك جليّاً في موقع كلٍّ منهما ضمن معادلة الصراع، حيث ينطلق الآخر الصهيوني من موقع المهاجم الشرس العنيف والغادر، الذي لا يميز بين الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين العزل أثناء استهدافاته ومقذوفاته العشوائية، التي أقل ما توصف به هو (الهمجية) و (البربرية)، والحال أنها – أي إسرائيل – في نظر وخرائط الغرب (المتحضر)، تصنف ضمن الدول (المتقدمة والديمقراطية)، إنها المفارقة التي يندى لها الجبين!

أما الثاني، فلا يملك من أمره سوى المقاومة والمدافعة، متسلحاً بالشجاعة والاستماتة والصبر والإيمان بقضيته العادلة، وبحقـه في الوجود والعيش بكرامة وحرية كباقي الشعوب.

(صفقة القرن): هدية أمريكا لإسرائيل

بادئ ذي بدء، نقتحم قراءتنا التحليلية لهذه (الصفقة)، باستعراض مقتطفات من البنود التي حوتها هذه الأخيرة:

• ضم إسرائيل لكل المستوطنات بالضفة الغربية.

• سيادة إسرائيل على نهر الأردن لأنه ضروري لأمنها.

• القدس عاصمة لإسرائيل كاملة غير مقسمة.

• عاصمة فلسطين تكون في شمال وشرق الجدار المحيط بالقدس، ويمكن تسميتها القدس أو أي اسم آخر.

• نزع سلاح الفلسطينيين بمختلف فصائلهم.

لقد عبرت هذه (الصفقة التجارية) بالملموس والواضح عن الانحياز الأمريكي للصهاينة، على أن هذا التحيز والاصطفاف ليس بالأمر الجديد على كل متابع ومهتم بالقضية الفلسطينية. فقد تجلى أولاً، منذ مسارعة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاعتراف بالكيان الإسرائيلي سنة 1948م، ودعمه إبان العدوان الثلاثي سنة 1956م ثم في حرب 1967م، علاوة على المساندة في مجلس الأمن الدولي من خلال إشهار (الفيتو) إزاء كل قرار يحاول إنصاف وإنهاء المشكلة الفلسطينية، وحتى تلك القرارات الصادرة لم تتلمس طريقها للتفعيل ميدانياً، بَيْد أن هذا الدعم كان – على الأقل – مستتراً إلى حد مَّا. أما مع الرئيس الحالي (ترامب)، فقد بات الموقف الأمريكي مكشوفاً ومعلناً للعيان، سواء من خلال التصريحات أم من خلال الإجراءات والقرارات الأحادية، التي اتخذتها الإدارة الأمريكية منذ صعود دونالد ترامب كرسي الرئاسة. حيث استهل (وعده المشؤوم) بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، ثم الضغط على عدة دول لتحذو حذوه في هذا القرار والفعل الشنيع غير الشرعي، لدولة تسمِّ ذاتها براعية الشرعية الدولية وحقوق الإنسان الكونية! في السياق ذاته، وكما عودنا (السيد ترامب) على قراراته ومفاجآته التي لا تصدم العرب والفلسطينيين فحسب بل العالم برمته، وذلك حينما أقدم على اتخاذ قرار آخر لا يقل عنجهية واستفزازاً يتعلق الأمر بجعل (الجولان) جزءاً لا يتجزأ من إسرائيل الابن غير الشرعي لأمريكا. علماً أن هذه الأخيرة (أي الجولان) أرض سورية احتلتها القوات الإسرائيلية عقب نكسة العرب في حرب عام 1967م، وما تزال إلى اليوم تُعتبَر أرضاً سورية مغتصبة باعتراف الأمم المتحدة.

هكذا شكلت هذه القرارات (القدس عاصمة لإسرائيل، وضم هضبة الجولان لإسرائيل) ممهدات و (مسبقات إستراتيجية)، سعى من خلالها الرئيس الأمريكي إلى التمهيد والتنزيل التدريجي لما بات يعرف بـ (صفقة القرن) التي طرحها في الآونة الأخيرة.

لقد رام ترامب بهذا التكتيك السياسي و (الإستراتيجية المتدرجة)، إلى محاولة فرض سياسة الأمر الواقع على الفلسطينيين وحلفائهم العرب، وفي الآن نفسه، تحاشي الصدمة والممانعة (الفلسطينية – العربية – الدولية) التي ستتعرض لها (الصفقة) لو طرحت دفعة واحدة. من هذا المنطلق وتأسيساً عليه، يمكننا تقسيم هذه (الصفقة) إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل الصفقة، ومرحلة الصفقة.

بالنسبة للمرحلة الأولى (ما قبل الصفقة): تميزت بنهج سياسة الأمر الواقع وتفعيل مقتضيات وبعض بنود (صفقة القرن)، التي تمثلت في إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، واستتباعه بإعلان هضبة الجولان أرضاً إسرائيلية. ونلاحظ أن هذين القرارين قد سبقا (صفقة القرن) بحوالي سنتين، وهو ما يعني محاولة الإدارة الأمريكية تكييف و (تبيئة) هذا الواقع الجديد، قسراً، مع المتخيل الفلسطيني – العربي.

المرحلة الثانية (إعلان الصفقة): وتتمثل في الطرح النهائي للنسخة النهائية والكاملة لـ (صفقة القرن) كوثيقة أو اتفاقية تتضمن كافة البنود والمواد بالتفصيل، التي ينتظر أن يوقع عليها الطرفان لتسوية (تصفية) القضية الفلسطينية. وعليه، تشكل هذه المرحلة، مرحلة (التنظيم القانوني) والتوثيق لـ (صفقة القرن) رسمياً، مذيلة بكل الشروحات والتوضيحات والتفاصيل الجزئية للواقع الجديد.

من هنا نقول: إن إصدار (صفقة القرن) اليوم، التي تثير جدلاً ونقاشاً واسعاً إن على طاولة التداول والنقاش الإعلامي، وإن على مستوى المواقف والتحركات السياسية لإحباط هذا (المشروع الصليبي) والمخطط البغيض الناتج عن تحالف الصهيونية العنصرية والإمبريالية الغربية، قد تم تنزيلها على دفعات ومراحل منذ إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ولم يبقَ سوى محاولة توثيق و (تقنين) وشرعنة هذه الخروقات والجرائم الإنسانية، وذلك بالضغط على الفلسطينيين ومساومتهم على أرض أجدادهم ومستقبل أبنائهم، للقبول والرضا بـ (صك استسلام وعبودية)، نظير فتات يناهز حوالي 50 مليار دولار لـ (تنمية الدولة الفلسطينية) بينما هي حقيقة شراء لذمم الفلسطينيين، وأي دولة تركوا لفلسطين[1]؟ ناهيك عن محاولات الأمريكيين وأصدقائهم الإسرائيليين، تشويه صورة الفلسطينيين، وتغليط المجتمع الدولي، من خلال اتهام السلطة الفلسطينية برعاية وتشجيع الإرهاب، واستشراء الفساد بين نخبها… إلخ، في أفقِ حشدِ دعمٍ وتوافقٍ دولي حول (الصفقة الملعونة والملغومة).

هل ننتظر سقوط غرناطة أخرى؟

تشاع بين أهل التاريخ وغيرهم عبارة شهيرة يرددها ويؤمن بها – نسبياً وبتحفظ – الكثيرون من المتخصصين وغير المتخصصين، وهي: «التاريخ يعيد نفسه»، التي تبدو في ظاهرها واضحة وصريحة لا تحتاج لعناء التفكير والتقصي والبحث، لأنها بكل ببساطة للقارئ العادي، هي أن التاريخ يتكرر مرة أخرى، لكنها بالنسبة للمتخصص المتأني ذي البعد الحكيم، غير ذلك. ومعناها الحقيقي (الباطن) أبعد، فإذا تأملناها بروية وباستحضار الماضي والحاضر (الراهن)، ألفيناها دعوة ضمنية لقراءة التاريخ قراءة واعية عميقة، تنظر للتاريخ في بعده الفلسفي و (المختبري) (نسبة إلى مختبر) إن جاز التعبير. بمعنى ليس التاريخ – بتاتاً – ركاماً من الأحداث والسنوات الماضية، التي لم يعد لها أي دور أو وظيفة في الواقع المعاصر للأمة، باعتبارها – حسب بعض الغافلين – أساطير الأولين، فلا يتم الالتفات إليها إلا بغاية التسلية والمتعة.

إن التاريخ (مختبر تجارب) سابقة؛ ذلك أن التجربة تمكننا من التعرف واكتشاف الظروف والشروط والعناصر اللازمة لتحصيل النتيجة المرغوبة، وهو ما يحقق في نهاية المطاف، استقراء واستخلاص القوانين والقـواعد، أو ما يدعى لدى متخصصي العلوم الطبيعية بالاستنتاج. ويعد التاريخ من أهم العلوم الوظيفية أو البراغماتية في المجتمع سياسياً ودبلوماسياً وثقافياً واجتماعياً… إلخ. ونعني بالوظيفية (البراغماتية) أن التاريخ يقدم خدمات ووظائف ودروساً وعبراً وقواعد ومعلومات وإرشادات وتوجيهات…إلخ، لإدارة الدولة بحكمة وبحس تاريخي داخلياً وخارجياً. فمن نحن إذا كنا نجهل تاريخنا؟ ومن أين أتينا؟ ومن هو هذا الآخر؟ وما طبيعة العلاقات التي ربطتنا به في الماضي؟ وكيف نفهمه ونتعامل معه الآن؟ وما هي نكباتنا وهزائمنا وانتصاراتنا في الماضي؟ وكيف صعدنا ثم أفلنا؟ وما محددات وعوامل النهوض والسقوط؟… إلخ. لعلها جملة من الأسئلة المتناسلة التي لا يمكن أن يجيبنا عنها أحد من العلوم باستفاضة، سوى التاريخ (أبو العلوم) على حد وصف المؤرخ الإغريقي هيرودوت.

وإذا كان على العرب أن يكونوا أكثر الشعوب اهتماماً وقراءةً للتاريخ، نظراً لما راكموه من تجارب وهزات وفواجع، متكررة، كانت حاسمة في توجيه ورسم تاريخهم البعيد وكذا القريب. فأي دروس وعبر تعلمها العرب واستفادوا منها في حاضرهم واستشراف مستقبلهم؟ وأي إستراتيجية أعدوها لصد مفاجآت ومخططات الحاضر وسيناريوهات المستقبل؟ ثم هل نحن فعلاً نقرأ تاريخنا حق قراءته؟

تبدو هذه التساؤلات مبررة، وراهنيتها تستمدها من التوقيت والمرحلة الحرجة التي تمر بنها الأمة العربية والإسلامية، في إطار محاولة الإدارة الأمريكية تصفية القضية الفلسطينية من خلال (صفقة القرن) المشؤومة.

لذلك، سنسعى في هذه الورقة إلى استعادة شريط سقوط غرناطة، لا بنيَّة استثارة مشاعر الحزن والأسى والبكاء على الأطلال، ولكن في محاولة للتذكير بسيناريو هذا السقوط، واستخلاص الدروس والعبر من هذه الذكرى المأساوية، لا سيما أن حوادث الحاضر تتداعى وتتسارع لترسم لوحة شبيهة بتحفة (الفردوس المفقود)! لعل ذلك يستثير الهمم ويشحذ الغيرة والعزيمة، لاستعادة زمام الأمور واتقاء طبخات الكواليس البغيضة… ولا غالب إلا الله.

حينما انطلقت حروب الاسترداد – حسب الإسبان – كانت الأندلس مقسمة إلى دويلات مستقلة ومتنافرة فيما بينها. حيث انشغل ملوكها (ملوك الطوائف) في الملذات والشهوات، والكيد بعضهم لبعض، بل إن منهم مَن حملته الأطماع الشخصية والتحاسد والصراع مع بني جلدته، على التحالف مع العدو الكافر الكاثوليكي، والتنازل له عن حصون وقلاع، فضلاً عن تأدية (الجزية) له. كل ذلك، حفاظاً على ملكه الآفل، ونكاية وضداً في جيرانه المسلمين وعلى حساب مصلحة (الوطن) والدين.

ساهم هذا الواقع السياسي المتشرذم بفعل الخلافات المجانية، في تهاوي ملوك الطوائف تباعاً، أمام الحملات المكثفة للتحالف الكاثوليكي بزعامة فيرديناند وإيزابيلا، حيث لم يتبقَّ سوى مملكة غرناطة آخر معقل إسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية.

نظراً لمعادلات الصراع آنذاك وعدم تعادل موازين القوى بين الغـرناطيين والكاثوليكيين إلى جانب ضعف المغرب في شخص المرينيين، فقد كان سقوط غرناطة كنظيراتها السابقة حتمية تاريخية.

هكذا وقَّع آخر ملوكها أبو عبد الله الصغير معاهدة استسلام سنة 1492م، سلَّم بموجبها مفاتيح غرناطة إلى المالك الجديد: أراغون وقشتالة. وقد نصت هذه الاتفاقية على مجموعة من البنود القاضية بضمان حقوق المسلمين بالمدينة كما كان الحال زمن الحكم الإسلامي.

بَيْدَ أن إسبانيا تنكرت لوعودها وتعهداتها سالفة الذكر؛ إذ تعرض المسلمون الموريسكيون (لإبادة عنصرية). فقد سعت إسبانيا إلى طمس الهوية الإسلامية ومسح آثار الوجود الإسلامي، من خلال إجبار المسلمين على اعتناق النصرانية وحظر اللغة العربية، مقابل إلزامهم بتعلم الإسبانية منذ سن الخمس سنوات. وأنشئت محاكم التفتيش لملاحقة المسلمين في دورهم والتأكد من حقيقة تخليهم عن الإسلام والالتزام بأداء الطقوس والشعائر النصرانية، ذلك أن الحرق كان مآل كل من شكك في عقيدته النصرانية أو امتنع عن التنصر. يتحدث المؤرخ المجهول واصفاً معاناة ومآسي المسلمين الموريسكيين قائلاً: «… ثم بعد ذلك دعاهم إلى التنصر وأكرههم عليه… فدخلوا في دينه كرها وصارت الأندلس كلها نصرانية ولم يبق من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله جهراً، إلا من يقولها في قلبه أو خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الآذان وفي مساجدها الصور والصلبان، بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن؛ فكم فيها من عين باكية! وكم فيها من قلب حزين! وكم فيها من الضعفاء والمعدومين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً مدراراً، وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا زجرهم، ومن فعل ذلك عوقب أشد العقاب! فيا لها من فاجعة ما أمرَّها! ومصيبة ما أعظمها وأضرها! وطامة ما أكبرها!»[2].

ليس أدعى للشجى والألم من متابعة هذا المشهد (الدراماتيكي)، لكن الأشد إيلاماً وحسرة، أن نقف موقف المتفرج الساكن، من المشاهد الشبيهة التي ترتسم في حاضرنا. لقد ضاع من المُلك الفلسطيني الكثير، وتكاد تتهاوى البقية الباقية، فماذا ننتظر يا ترى؟ هل ننتظر سقوط غرناطة أخرى، فنُتهم بالتخلي ونلقى سخط الأجيال اللاحقة، كما لقيه أبو عبد الله الصغير الذي خلدته أمه ممرغاً عشية سقوط غرناطة في تراب التاريخ، في مقولة شهيرة: «ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال»[3].

إذن، هل نرغب أن تتلمَّظ أجيال المستقبل عبارة من هذا القبيل شماتة وسخرية مؤداها: (ابكوا مثل النساء (قدساً) مضاعاً لم تحافظوا عليه مثل الرجال)؟

أما آن لأحزان وقبر الأندلس أن يجف بعد، أم نريد ترطيبه بدموع جديدة: دموع القدس وفلسطين؟ هل استمرأنا البكائيات والنواح والرثاء وصفع الخدود؟

إلى متى سنبقى نعيد الأخطاء والسيناريوهات نفسها ونتكبد النكبات والنكسات الواحدة تلو الأخرى؟ هل نحن أغبياء إلى هذا الحد؟ لماذا نسعى إلى تدريس ودراسة التاريخ إذن، إذا كنا لا نتعظ بدروسه والتجارب السابقة؟

في ختام هذه الاستفهامات الاستنكارية، نتساءل مجدداً وأخيراً: ألم تفلح مرثية أبي البقاء الرندي، في استيفاء الدور التأبيني للأندلس، وهي نص غزير بالحكم والدروس والعبر التي تتعدى عتبة التاريخ لتعانق مطلقية الزمان والمكان؟ أم ننتظر مرثية تأبينة للقدس، لأننا مرضى بمتلازمة جلد الذات والسادية؟

فيما يلي نورد أبياتاً من قصيدة أبي البقاء الرندي التي يقول في مطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سرَّه زمن ساءته أزمان

ويضيف:

فجائع الدهر أنواع منوعة

وللزمان مسرات وأحزان

وللحوادث سلوان يهونها

وما لما حل بالإسلام سلوان

وفي موضع آخر يقول:

يا غافلاً وله في الدهر موعظة

   إن كنت في سِنَة فالدهر يقظان

ثم يقول:

تلك المصيبة أنست ما تقدمها

     وما لها مع طول الدهر نسيان

ويضيف مستنكراً:

كم يستغيث بنو المستضعفين وهم

    أسرى وقتلى فما يهتز إنسان!

ويستمر متسائلاً:

ما ذا التقاطع في الإسلام بينكم

وأنتم – يا عباد الله – إخوان

ويتأسف قائلاً:

بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم

واليوم هم في بلاد الكفر عُبدان

ويخلص إلى قوله:

لمثل هذا يذوب القلب من كمد

إن كان في القلب إسلام وإيمان

أما نحن، فنختم هذه الورقة التفاعلية، بشعار ملوك غرناطة الخالد: «لا غـالـب إلا الله».

 

[1] انظر خريطة فلسطين كما صورتها وتريدها (صفقة القرن).

[2] رزوق، محمد، الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب خلال القرنين 16 و 17، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، الطبعة الثاثة، ص56- 57.

[3] جباري، محمد، «فلسطين ومتلازمة النكبات»، مجلة الوعي الإسلامي، العدد 655 ربيع الأول 1441هـ – نوفمبر 2019م، ص 87.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى