شيطنت تاريخه.. السعودية تتناغم مع رواية “إسرائيل” ضد مفتي القدس
إعداد محمد أبو رزق
لم تكتفِ السعودية بمجابهة الفلسطينيين والزج بهم في السجون لدعمهم للمقاومة، بل ذهبت إلى أكثر من ذلك؛ إلى تشويه أحد الرموز الدينية والتاريخية للشعب الفلسطيني، وهو مفتي القدس الراحل الحاج محمد أمين الحسيني، والإساءة إليه.
وأفردت صحيفة “عكاظ” المقربة من الديوان الملكي السعودي مساحة واسعة على صدر غلافها (14 فبراير)، يحمل تزييفاً واضحاً لتاريخ الرجل، واتهامه بأنه أدى دوراً مهماً في توطيد علاقات مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حسن البنا، بالزعيم النازي أدولف هتلر، بهدف إيصاله إلى سدة الحكم في مصر.
وذهبت الصحيفة السعودية إلى أكثر من ذلك؛ حين قالت: إن “الحسيني والبنا قاما بتجنيد جيش إخواني من مصريين وعرب، تم جمعهم من دور الأيتام والمناطق الريفية الفقيرة، للعمل تحت لواء الجيش النازي، والهدف أيضاً السيطرة على الحكم في مصر”.
ويعد الحاج الحسيني أشهر من تولى منصب الإفتاء في فلسطين، وكان رئيساً للمجلس الأعلى الإسلامي، ورئيساً للعلماء، وقد أدى دوراً هاماً في الصراع العربي الإسرائيلي.
والتحق الحسيني بصفوف الجيش العثماني لفترة وجيزة، ثم انتقل للعمل سراً منضماً إلى الثورة العربية الكبرى من خلال لواء القدس والخليل، ثم انضم إلى جيش الشريف حسين بن علي؛ سعياً إلى تحقيق حلم إقامة دولة عربية مستقلة إبان الحرب العالمية الأولى.
وفي أعقاب صدور وعد بلفور، عام 1917، قرر الحسيني العودة إلى القدس لخوض الكفاح والنضال ضد وجود اليهود والبريطانيين في فلسطين.
وعمل على بناء أول منظمة سياسية في تاريخ فلسطين الحديث، التي عرفت باسم “النادي العربي”، الذي كانت من أبرز مهامه تنظيم مظاهرات في القدس خلال عامي 1918 و1919، وعقد في تلك الفترة المؤتمر العربي الفلسطيني الأول.
التحالف مع هتلر
وتاريخياً تثبت الحقائق والوثائق كذب مزاعم الصحيفة المقربة من الديوان الملكي السعودي؛ إذ يؤكد الحسيني في مذكراته الصادرة عام 1999 بعنوان “مذكرات محمد أمين الحسيني”، أن تحالفه مع هتلر كان هدفه مكافحة اليهود بلا هوادة، دون أي شيء آخر.
ووصل الحسيني إلى ألمانيا بعدما نجح في مغادرة فلسطين هرباً من البريطانيين، حيث وصل في البداية إلى لبنان بحراً، ومكث فيه سنتين قاد خلالهما عمليات الثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1936.
بعد ذلك انطلق إلى العراق، الذي وصل إليه في 25 أكتوبر 1939، وتحت ضغط ملاحقة بريطانيا له اضطر للانتقال إلى إيران، في مايو عام 1941، ثم غادر طهران حاملاً جواز سفر إيطالياً إلى روما.
بعد وصول الحسيني إلى إيطاليا أرسل المبعوث الألماني إلى الشرق، الدبلوماسي المعروف في حينها؛ فريتز غروبا، برسالة إلى الخارجية الألمانية يؤكد فيها وصول عثمان الحداد (سكرتير الحسيني) إلى برلين حاملاً رسالة من الحسيني إلى الزعيم الألماني أدولف هتلر.
ًوأبدى الحسيني في رسائله إلى هتلر استعداده للتحالف مع ألمانيا في الحرب؛ نظراً لوجود عدو مشترك اسمه “الصهيونية”، إذ إن ألمانيا النازية كانت تعادي الصهيونية والدولة البريطانية الراعية لها والمحاربة لألمانيا.
واشترط مفتي القدس لتحقيق هذا التحالف شروطاً؛ هي: أن تعترف دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) بالاستقلال التام للأقطار العربية المستقلة وقتها، ولتلك التي ما زالت تحت الانتداب أو تحت الحكم البريطاني. وبأن تعلن دول المحور بصورة قاطعة أنها ليست لها أي مطامع استعمارية في مصر والسودان.
كما طالب بالاعتراف للأقطار العربية بحقها في إقامة الوحدة العربية وفق رغبات أهلها، وبعدم الاعتراف بالوطن القومي اليهودي في فلسطين، وتمكين الأمة العربية من إلغاء هذا المشروع.
وقد ردت ألمانيا على طلبات الحسيني برسالة من وكيل الخارجية الألمانية، فون فايسكر، أكد فيها أن “ألمانيا تعترف باستقلال البلاد العربية استقلالاً تاماً، وأن كلاً من الأمتين الألمانية والعربية متفقتان على الكفاح ضد عدوهما المشترك الإنجليز واليهود، وألمانيا مستعدة للعمل المشترك معكم ومساعدتكم مساعدة عسكرية فعالة على قدر الاستطاعة إذا اضطررتم إلى الحرب ضد الإنجليز لتحقيق أهداف شعبكم”.
بعد هذه المحادثات والرسائل وصل الحسيني إلى العاصمة الألمانية برلين، في الأسبوع الثاني من نوفمبر 1941، قادماً من إيطاليا، حيث قابل زعيمها موسوليني حليف ألمانيا القوي، وفي 28 من الشهر نفسه استقبل هتلر الحسيني في مقر الرايخ الألماني بوصفه “مفتي القدس الأكبر وأحد أكثر رجال حركة التحرر العربي تأثيراً”.
ولم تكن السعودية عبر ما جاء في صحيفة “عكاظ” وحدها من هاجمت الحسيني؛ فسبق للاحتلال الإسرائيلي وقادته والقوى الصهيونية العمل على شيطنته؛ بسبب اللقاء الذي جمعه بهتلر.
وطالب الإسرائيليون والصهاينة بمحاكمة الحسيني باعتباره “مجرم حرب” ومن مؤيدي النازية، إضافة إلى اتهام رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في كلمة أمام المؤتمر الصهيوني العالمي في القدس، في (أكتوبر 2015)، الحسيني بأنه هو الذي أقنع هتلر بـ”إحراق اليهود”.
وقال في حينها: “هتلر لم ينوِ إحراق اليهود وإنما أراد فقط طردهم من بلاده، لكن الحسيني قال له إنه إذا طردهم فسيأتون إلى فلسطين ونصحه بإحراقهم”.
حملة تحريضية
المؤرخ الفلسطيني المعروف، سليم المبيض، يؤكد أن الصحيفة السعودية تجنّت على الحاج الحسيني، ونشرت معلومات غير دقيقة عنه، وذلك ضمن الحملة التحريضية التي تقودها المملكة ضد الفلسطينيين والإخوان المسلمين.
وحول الخلفية السياسية للحسيني يقول المبيض في حديثه لـ”الخليج أونلاين”: “مفتى القدس لم يكن من جماعة الإخوان المسلمين كما زعمت صحيفة عكاظ، فهو رجل ثوري فلسطيني، هرب من بلاده إلى العديد من الدول بهدف مواصلة الكفاح ضد البريطانيين واليهود”.
وعن تحالف الحسيني مع هتلر يروي المبيض: “كان الهدف الأساسي لهذا التحالف واللقاء التاريخي الذي جمع الطرفين هو الحصول على الدعم من القائد الألماني لصالح فلسطين، إذ كان لمفتي القدس استعداد للتحالف مع الشيطان ضد محتلي فلسطين، والحصول على تأييد من حلفاء أقوياء”.
ويستدرك بالقول: “ما نشر في الصحيفة السعودية ليس غريباً، فالمملكة تعتقل الآن عشرات الفلسطينيين وتزج بهم في السجون، كما تحارب جماعة الإخوان المسلمين بشراسة”.
إلى جانب المبيض يؤكد أستاذ التاريخ في الجامعة الإسلامية بغزة، زكريا السنوار، أن ما نشرته صحيفة “عكاظ” السعودية يأتي ضمن حالة التشويه التي تقودها المملكة والأنظمة العربية ضد جماعة الإخوان المسلمين.
ولم تكن العلاقة بين الإخوان المسلمين والسعودية، وفق حديث السنوار لـ”الخليج أونلاين”، بالإيجابية قبل تأسيس المملكة التي كانت قريبة من فكر محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، إذ كانت هناك حالة من الاختلاف الواضح بين هذا الفكر مع جماعة الإخوان التي لديها ليونة في التعامل، مقابل الشدة الوهابية.
وتاريخياً في تلك الفترة التي تحدثت عنها الصحيفة السعودية، كما يؤكد السنوار، كانت بريطانيا تحتل فلسطين، وقد انتهت الثورة الفلسطينية الكبرى من عام 1936 حتى 1939، وبدأت الحرب العالمية الثانية في نفس العام، وكان الحاج الحسيني مطلوباً لبريطانيا لدوره في فعاليات الثورة، وتمكن من الهرب حتى وصل للعراق.
ويكمل بالقول: “في العراق التقى الحسيني مع رشيد الكيلاني، أحد الرموز السياسية في بلاده بذلك الوقت، الذي قاد الثورة ضد بريطانيا، وتمكن من إحكام السيطرة على جزء من العراق، والمنطق يقول إن عدو عدوي صديقي، ومن هنا بدأت محاولات الاتصال بألمانيا على اعتبار أنها خصم في الحرب العالمية للعدو الذي يحتل بلادهم”.
ويستدرك بالقول: “الحسيني لم يكن مهتماً بأن حسن البنا يصل إلى سدة الحكم في مصر لأمر مهم؛ لأن بريطانيا كانت موجودة في مصر منذ عام 1882، وحكم الخديوي مستمر، ومن ثم فالحديث عن أن هتلر لو انتصر بالحرب سيوصل الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم غير منطقي”.
حرب السعودية على الإخوان
تضخمت الحرب السعودية على الإخوان المسلمين في السنوات الأخيرة مع صعود نجم التيار الإسلامي سياسياً، وتحديداً عقب الثورة المصرية في 2011، وزادت حدّتها مع سلسلة تغيرات يشهدها الوطن العربي، والتي تزامنت مع وصول محمد بن سلمان إلى ولاية عهد السعودية.
وكانت آخر ضربات الأمير الشاب للجماعة التي تأسست سنة 1928، إعلان تعهّده “بالقضاء الكامل على ما تبقى من فكر عناصر الإخوان المسلمين الذي غزا المدارس السعودية”، وذلك خلال مقابلة تلفزيونية مع شبكة “سي بي إس” الأمريكية.
لكن هذا الهجوم القديم المتجدد على “الإخوان المسلمين” يثير الفضول حول العداوة التي تكنّها القيادة السعودية للجماعة الإسلامية، على الرغم من أن أيديولوجيتهما تنطلق من إيمانهما الراسخ بالمنهج السني، وتتمسك بـ”السلمية”.
وتأسست جماعة الإخوان المسلمين في مارس 1928، بمدينة الإسماعيلية المصرية، على يد حسن البنا، بعد 4 أعوام من سقوط الخلافة العثمانية، وسرعان ما انتقلت إلى العاصمة القاهرة، وجميع أنحاء الوطن العربي لاحقاً.
وشهدت العلاقات بين المملكة والجماعة تذبذباً على مدار 90 عاماً منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وتدرّجت بدءاً من التحالف معها، وصولاً إلى القطيعة خلال السنوات الماضية، ولذلك فهي من أعقد العلاقات بين الحكومات والحركات السياسية والأيديولوجية.
حميمية العلاقة بين السعودية والإخوان استمرت لتاريخ طويل، حينما بدأت عقب لقاء تاريخي جمع الملك عبد العزيز آل سعود، ومؤسس الجماعة الإمام حسن البنا، سنة 1936، واستمرت تنمو بهدوء واطراد، قبل أن تتحول إلى بغضاء.
وفي الوقت الذي لجأت فيه الجماعة إلى حضن السعودية هرباً من الناصرية (حركة قومية في عهد الراحل جمال عبد الناصر) التي حاربت ظهورهم، وجدت المملكة في الإخوان حليفاً قوياً لمواجهة المد القومي الذي انتشر في مختلف الأقطار العربية.
فالسعودية الحديثة التي تأسست على يد الملك عبد العزيز آل سعود (1932)، كانت تحتاج إلى أيديولوجية إسلامية سُنيّة تساعد على قيامها في ظل تغيرات المنطقة العربية آنذاك، وهو ما وجدته في جماعة الإخوان.
واستلم الإخوان من عدة أقطار عربية في تلك الفترة قطار التحديث والبناء في عدة مؤسسات سعودية، خصوصاً في مجال التعليم، الذي كان صاحب البصمة الإخوانية المتناغمة مع الأرض السلفية، بحسب ما تؤكد تقارير إعلامية.
استمر مسار التحالف بين الجماعة والمملكة طوال فترة “الناصرية” (جمال عبد الناصر: 1956-1970) و”الساداتية” (محمد أنور السادات: 1970-1981)، فالأولى كانت تحتاج المأوى والموطن، والثانية كانت تبحث عن العقول والكفاءات.
(المصدر: الخليج أونلاين)