شمس العلماء إي ك أبو بكر مسليار: شمس باهت به الأرض شمس السماء
بقلم صبغة الله الهدوي
حين ضربت ديار مليبار موجات التنصير والتبشير في بداية السبعينات، وظل بعض فقراء المسلمين ضحاياها بل كادت لتلتهم جميع مناطق المسلمين هب هناك عالم وقور جمع بين علوم القرآن والإنجيل، وتحداهم وناظرهم في المنصات العامة، وفند دعاياتهم ودحض أجنداتهم حتى ولوا مدبرين، وصرخ في وجه طموحاتهم بصواعق “إظهار الحق” التي هزت عروشهم وأفشلت خططهم.
من هنا تبدأ قصة العالم العلامة إي ك أبو بكر مسليار الذي حفر في ذاكرة أتباعه بلقب شمس العلماء، ويعود إليه الفضل في ترسيخ أركان أهل السنة والجماعة وفي قمع البدعة والضلالة، أصر على صيانة التراث وقاوم المتسللين إلى قلب الأمة الإسلامية تحت غطاء التجديد والتنوير، أنجب مئات التلامذة الذين أصبحوا منارات العلم والمعرفة في شتى مناطق كيرالا، وكان له هالة كبيرة وكاريزماتية لجذب القلوب والأسماع، ودور واسع في توحيد صفوف السنيين وتحصينهم من هجمات المتشددين الذين لعبوا وعبثوا باصطلاحات التكفير والتشييع والتبديع، وتجول في ديار مليبار لتأسيس مدارس وافتتاح مساجد ومعاهد دينية لتحرير الأمة من شرك التخلف والأمية.
سيرته ومسيرته
ولد في مدينة كالكوت في ولاية كيرالا جنوب الهند عام 1914، ونشأ في عائلة اشتهرت بالعلم والتدين، ونشأ في جو تكنفه العادات الإسلامية الجميلة والنكهة الصوفية التي أملاها إليه أبوه الفاضل النحرير الشيخ كويا كوتي مسليار، وكان شيخ الطريقة القادرية، أصر على تعليم بنيه رغم الفقر وقسوة المعاناة التي ضربته، وكان عفيف اللسان واليد، زاهدا وورعا، وذلك مما أثر تأثيرا كبيرا في محطات أبي بكر ليجمع بعد بين الفقه والتصوف جمعا جميلا، وعائلته تمتد جذورها إلى اليمنيين مما يدل على نقاء نسبهم ورقة سجيتهم وعلو كعبهم في العلوم الدينية، وحفظ القرآن من والده كما تعلم منه مبادئ العلوم الدينية، وكان والده من أبرز تلامذة العلماء المخدوميين، ثم انتقل إلى حلقة درس العالم سي إم كنجايين كويا مسليار بمادوور حتى قضا هنالك فترة من الزمن انتقل إلى كلية دار العلوم بوازكاد، وطلب العلم تحت إشراف العالم الكبير عبد الرحمن الفضفري وأتقن على يديه اللغة والأدب والنحو والصرف.
فبعد أن تحصل من بلدته ما تحصل شد رحاله إلى أم المدارس بجنوب الهند “جامعة باقيات الصالحات” بولاية تامل نادوي، التي كانت له الأقدمية والأسبقية في توفير العلوم الدينية وتخريج العلماء العباقر، فحل في تلك الجامعة ليختطف أضواء الأساتذة والزملاء الذين انبهروا بموهبة هذا الشاب المليباري، فاتصل هناك بعدد من كبار العلماء والأولياء، وفي مقدمتهم الشيخ آدم حسرت، والشيخ عبد الرحيم حسرت، والشيخ أحمد كويا الشالياتي، والشيخ ضياء الدين حسرت، وكان مقبولا لدى هؤلاء العلماء العباقر لما رأوا في تلميذهم من قريحة وذكاء نادر، فباركوه بالدعوات وهنأوه بالكلمات الطيبة، فانطلاقا من هذه التجربة الباقوية يمضي إي ك أبو بكر مسليار ليسجل في صفحات كيرالا فصولا جديدة هي من أهمها وأبرزها.
وفي نفس العام الذي تخرج فيه من جامعة الباقيات الصالحات عُيِّن فضيلته مدرسا في ويلور، وقضى في منصبه أكثر من ثمانية سنوات، ومما يدل على علو كعبه في العلوم لا سيما في الفقه الشافعي أنه وُكِلَت إليه مهمة الإفتاء في شؤون الفرائض في الوقت الذي كان يشغل منصب الإفتاء الشيخ آدم حسرت والشيخ ضياء الدين حسرت.
وبعد أن أتعبه المرض رجع إلى بلدته كيرالا، ليتولى قيادة الأمة الإسلامية، ولينور دروبها وللنهوض بها ولتحريرها من قاع التخلف والانحطاط، فكانت عودته عودة حميدة مجيدة، عودة قائد استراتيجي محنك، حيث حركت مفاعل الطائفة السنية، وولدت فيها طاقة قوية ونفخت في جسدها روحا من جديد.
وانتقل فضيلته في مجال التدريس بين عدة جامعات ومعاهد، من أهمها مدرسة قوة الإسلام بتالفرمب، والجامعة النورية بباتكاد، وجامعة دار السلام بناندي، حتى تخرَّج على يديه مئات العلماء الذين حملوا رايات الإسلام ونصبوها في شتى أصقاع الهند.
وفي عام 1957م حيث تولى قيادة جمعية العلماء لعموم كيرالا تبدأ مسيرته العظمى في مجال الدعوة الإسلامية، حيث كانت غامرة بأنواع الإشراقات والمفاجآت، وعارمة بشتى التحديات، لقد عالج من خلال مسيرته في قيادة سمستا كيرالا أنواعا من القضايا، وواجه الجماعة الإسلامية التي نادت إلى إقامة الدين والحكومة الإلهية في الهند، وفند دعايات السلفية التي جاءت بأفكار نسجت من العنف والتطرف والتي أدت إلى زيادة الشرخ في الأمة وذلك أنها استصغرت بقضية التكفير والتشييع تحت ستار التوحيد، وفي مثل هذه التحديات وقف فضيلته مجاهدا مرابطا على ثغور السنة والشريعة، يقاوم كل من طالت يده ولسانه على أهل السنة والجماعة، وكان معقود الآمال لدى أهل السنة والجماعة، والمتحدث باسمه في المناظرات العلمية التي جرت بين السلفية وسمستا، مناظرات دعمت القواعد السنية مقابل التشدد، فمن أهمها ما جرت في إيدافانا وأوتاي وبونور، ولم تتوقف خدمته ودعوته عند هذا الحد بل كان في الصف الأول لإجهاض أحلام القاديانية والمسيحية، كلتاهما عرفتا سعة اطلاعه وعمق علمه حتى باءت بالفشل الذريع.
ولأنه كان مشغولا في التدريس وفي مناقشة قضايا الأمة لم يتَّسع له الوقت للتأليف لكنه أبقى لمن خلفه تلامذة كانوا معمرين من الكتب إلى جانب ما قرض بعضا من المنظومات في حب الأولياء والصالحين.
فمما يدل على قبوليته وجمهوريته ما شهد له أقرانه ومعاصروه حيث أكدوا على أنه كان مجدد الأمة في القرن العشرين، وتولى قضاء مئات المحلات على مدى ولاية كيرالا، وكان له يد طولى في عدة لغات من العربية والإنجليزية والفارسية وسورياني وتامل.
وفي عام 1989م حيث شهدت كيرالا حدثاً مأساوياً مؤلماً، وذلك أن انشقت سمستا إلى شقين على أسس وهمية تافهة، وخرج من رصيفها ستة علماء محتجين على بعض المواقف السياسية التي اتخذها سمستا لا سيما تجاه حزب رابطة المسلمين.
توفي عام 1996م وقت أذان الفجر، تاركا خلفه بصمات هائلة من العلم، وعلامات فارقة في ديار مليبار، احتضنه الملايين ولقبوه حبا وتقديرا ب”شمس العلماء” التي أشرقت دنيا العلوم، وأزاحت غيوم الشك والتخمين إنه شمس العلماء شمس باهت به الأرض شمس السماء.