مقالاتمقالات مختارة

شباب تصدروا ميادين الاجتهاد والتصنيف.. البخاري يؤلف وعمره 18 والغزالي يجلس للتدريس العالي بسن الـ20

شباب تصدروا ميادين الاجتهاد والتصنيف.. البخاري يؤلف وعمره 18 والغزالي يجلس للتدريس العالي بسن الـ20

بقلم محمد الصياد

قد لا يكون الحضور الشبابي في أروقة التراث أمرا عجبا في ظل حضارة شابة ظلت قرونا تسير على ظهر الزمان بقوة وحركة تحبس الأنفاس، ليس على الصعيد الجغرافي فقط بل والمعرفي والفكري أيضا. فبدءا من زهاء سن العاشرة؛ تنجم بواكير النبوغ عند الكثير من مفكري الإسلام، مما يفسّر عظمة العطاءات العلمية والمشروعات الفكرية التي قدمها الكثير من العلماء الأوائل؛ فقد كانت أعمارهم كلها تقريبا -إلا بضع سنين للنشأة الأولى- مبذولة للمحبرة والدواة.

ورغم أن علماء فن “أصول الفقه” وضعوا شروطا للمشتغل بالعلم عامّة والفتوى والاجتهاد خاصة؛ فإنهم لم يجعلوا من بينها شرطا متعلقا بالسنّ، فلا عُمْر محددا للتصدّر إفتاءً وتدريسا عند المسلمين. وهذا المقال يتقصى تاريخ شبابية المعرفة الإسلامية، فيبحث في سرٍّ من أسرار خصوبة وكثافة المنتج العلمي في الحضارة الإسلامية، ونبوغ أعلامه وهم في مرحلة مبكرة من حياتهم العلمية والفكرية.

شروط مرنة
أول ما يلفت النظر في أمر السن هو اشتراط الأصوليين بعض النضج السيكولوجي الذي يعبرون عنه بـ”البلوغ”، وإدراك بعض الأحاسيس الفارقة بين الطفولة وبقية مراحل عمر الإنسان، وهو شرط موضوعي يتماشى مع شروط وضعوها كالورع والصدق والبعد عن مخالطة السلطان؛ فعلى فرض تصدر العالم -دون توفر تلك الشروط- فإنه سيُنبذُ علمائياً.

ذلك أن جمهور الأصوليين يرون أن المفتي يجب أن يكون “بالغاً” فقط، مع تقريرهم لإمكانية إحراز الصبيّ غير البالغ رتبة الاجتهاد في إصدار الفتوى وتقرير الأحكامِ، وهنا يأتي تعليل الإمام الجوينيّ (ت 478هـ) -في كتابه ‘البرهان‘- لذلك مؤيدا الخلاصة السابقة التي تربط حركة العلم بالوعي لا بالسن، فيقول: “يُشترَط أن يكون المفتي بالغاً، فإنّ الصبيّ -وإن بلغ رتبة الاجتهاد وتيسر عليه دَرْكُ الأحكامِ- فلا ثقة بنظره وطلبه، فالبالغُ هو الذي يُعتمد قوله”.

ونلحظُ أنّ علماء كباراً تصدّروا للتدريس والفتوى بعد بلوغهم مباشرة، أي بعد مرحلة الصبا. ومن اللافت أنّ أولئك الذين تصدروا وهم صغار لم يفرضوا أنفسهم على الجماعة العلمية، بل ولا على العامّة. وهنا تواجهنا آلية مهمة أسهمت في حراك شباب العلماء وهي ديمقراطية الانتخاب الطبيعي؛ فجماعة العلماء انتُخِبوا انتخابا طبيعياً بما يمكن تسميته “قانون الانتقاء المجتمعي”؛ فالعامّة يستفتون مَن يثقون في دينهم وورعهم، والجماعة العلمية والمتفقهة يحضرون دروس من يرونه أهلاً للتدريس والتصدر.

وليس انتخاب العلماء فقط هو المحدد الرئيسي، وإنما ثمة أيضا مقبوليةُ المؤمنين المعتبرة شرعاً في السياسةِ والفقه وسائر شؤون الدين والدنيا، والمؤمنون هنا هم العامّة، فلا تنعقد إمامة إلا باختيارهم أو اختيار ممثليهم ووكلائهم. وقد جعلَ الأصوليون لهم حقّ اختيار الفقيه الذي سيقلدونه، بل وأوجبوا على العامّة النظر والاجتهاد في تلك المسألة.

وفي ذلك يقول الجويني: “لا يخفى أنّ المقلِّد ليس له أن يقلد غيره إلا بعد نظر واجتهاد، وقد اختلفوا فيما عليه”؛ فقال بعضهم بأنّ من حقّ العامّة -بعد أن تتلقف مسائل من كل فنّ- أن تسأل المفتي وتمتحنه في بعض تلك المسائل، وقال آخرون يكفي إقرار المفتي لنفسه بالاجتهاد. وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) -في كتابه ‘قاعدة في المحبة‘- إلى أن “اجتهاد العامة هو طلبهم للعلم من العلماء بالسؤال والاستفتاء بحسب إمكانهم”.

لم يكن التصدر العلمي في القرون الأولى يحتاج لأكثر من العصامية وشهادة الشيوخ بأهلية صاحبه العلمية (الجزيرة)

إمامة مبكرة
في رصدنا لظاهرة تصدّر كبار الأئمة للساحة العلمية وهم في ريعان الشباب؛ يعترض طريقَنا شيخُ الإسلام وعالم الأُمّة مالك ابن أنس (93-179هـ) الذي أخذ عن تلامذة الصحابة من التابعين، وبدأ الطلب وعمره سبع سنين ليتصدر للإفادة والتدريس والفتوى في حياة مشايخه وهو ابن سبع عشرة سنة، ثم زادت حلقته اتساعاً حتى فاقت حلقات أقرانه وأساتذته.

فقد جاء عند القاضي عياض (ت 544هـ) في ‘ترتيب المدارك‘: “قال سفيان بن عيينة: جلس مالك للناس وهو ابن سبع عشرة سنة، وعُرفت له الإمامة وبالناس حياة إذ ذاك. وقال ابن المنذر: أفتى مالك في حياة نافع [مولى ابن عمر] وزيد بن أسلم (ت 136هـ)…، وقال أيوب السختياني (ت 131هـ): قدمت المدينة في حياة نافع ولمالك حلقة”. وقد جزم الذهبي (ت 748هـ) -في سير أعلام النبلاء‘ بعد ذكره الاختلاف في تاريخ وفاة الإمام نافع- بأن “الأصح وفاة نافع سنة سبع عشرة ومئة”.

ويشير الذهبيّ أيضا إلى صغر سنّ مالك عند تصدره العلمي فيقول: “طلب مالك العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه جماعة وهو.. شاب طريّ، وقصده طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور (ت 158هـ) وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد (ت 193هـ)، وإلى أن مات”.

ولم يتصدر مالك للفتوى إلا بعد إجازة المشايخ الكبار من أهل الفنّ له، على نحو ما ذكرنا آنفا من قوانين التصدر المتواضع عليها عند العلماء؛ وفي ذلك يحكي الخطيب البغدادي (ت 463هـ) -في كتابه ‘الفقيه والمتفقه‘- بسنده عن “مالك بن أنس [أنه كان] يقول: ما أفتَيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهلٌ لذلك”.

ويقول الإمام الذهبي: “قال مالك: ما أجبتُ في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل تراني موضعا لذلك؟ سألت ربيعة [بن عبد الرحمن المتوفى 136هـ]، وسألت يحيى بن سعيد [الأنصاري المتوفى 143هـ]؛ فأمراني بذلك. فقيل له: فلو نهوك؟ قال: كنت أنتهي، لا ينبغي للرجل أن يبذل نفسه حتى يسأل من هو أعلم منه”. وفيه إشارة إلى مسألة شهادة “أهل الاستحقاق والرتبة” التي تحدث عنها الشاطبيّ (ت 790هـ) -في ‘الموافقات‘- كشرط من شروط أهلية العالم المجتهد.

وجاء عند عياض: “قال مالك: ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفُتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد”؛ ويقصد بهؤلاء أهل العلم في زمانه ومكانه. ولذلك تلقته الأُمّة عِلمَ مالك بالقبول حتى رَوى عنه في عصره مَن هو أسنّ منه: ” فضُربت إليه أكباد الإبل من الآفاق، واعترفوا له، وروت الأئمة عنه ممن كان أقدم منه سنًّا، كالليث [بن سعد الفارسي المتوفى 175هـ] عالم أهل مصر والمغرب، وكالأوزاعي (ت 157هـ) عالم أهل الشام ومفتيهم، و[سفيان] الثوري (ت 161هـ) وهو المقدَّم بالكوفة، وشعبة [بن الحجّاج المتوفى 160هـ] عالم أهل البصرة”؛ كما يقول الذهبي.

في العصور الزاهرة كان الأطفال يتلقون في الكُتّاب أساسيات معرفية تساعدهم في النبوغ العلمي والتصدر المبكر (الجزيرة)

نبوغ شافعي
وعلى خُطى شيخه مالكٍ؛ بدأ الإمام الشافعيّ (150-204هـ) مرحلة التعليم وهو صغير، وارتحل كثيراً في طلب العلم، وبدت منه في تحصيله الهمّة والشغف، فحفظ القرآن وهو في السابعة من عمره، وتصدّر للإفتاء وهو في سنّ الخامسة عشرة. فالخطيب البغدادي يروي -في ‘تاريخ بغداد‘- أن الإمام إسماعيل المُزَني (ت 264هـ) سمع شيخه الشافعي يقول: “حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت ‘الموطأ‘ وأنا ابن عشر”.

وينقل الإمام ابن الجوزيّ (ت 597هـ) -في ‘المنتظم‘- عن الشافعي قولَه: “حفظتُ القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين، وما أفتيتُ حتى حفظت عشرة آلاف حديث…، وأفتى وله خمس عشرة سنة”. ويقول الذهبيّ -في ‘السِّيَر‘- إن الشافعي “ارتحل -وهو ابن نيف وعشرين سنة وقد أفتى وتأهل للإمامة- إلى المدينة، فحمل [الموطأ] عن مالك بن أنس [حتى] عرضه من حفظه”.

وقد نشأ الشافعي فقيراً لا مال له؛ فها هو يقول كما جاء في ‘السِّيَر‘ للذهبي: “كنت يتيما في حِجر أمي، ولم يكن لها ما تعطيني للمعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب وأخفف عنه”. ومع ذلك لم يمنعه فقره من التصدر والنبوغ، والتأهل للفتوى والتدريس وشهادة العلماء له بالأهلية لذلك؛ فالفقر ليس عائقا أمام العلم والتحصيل، بل وفي سنّ مبكرة أيضا. ولذا بات الشافعي “مجدِّدا” على رأس المئة الثالثة للهجرة؛ كما قال الذهبيّ.

وفي أقصى الشرق الإسلامي؛ يخبرنا إمام المحدّثين محمد بن إسماعيل البخاريّ (194- 256هـ) عن نفسه بأنّه بدأ حفظ الحديث وهو صبي في الكُتّاب وعمره عشر سنين، ثمّ حفظ بعض الكتب العلمية وعمره ست عشرة، ولما بلغ ثماني عشرة سنة بدأ في تصنيف بعض كتبه.

ولنستمع إليه وهو يقول فيما ينقله ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- بسنده إلى محمد بن أبي حاتم الورّاق (= “ورّاق البخاري” أي كاتبه الخاص الذي كان ينسخ له كتبه، وله في سيرته كتاب سماه ‘شمائل البخاري‘)؛ أنه قال: “قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهِمت حفظ الحديث وأنا في الكُتّاب؛ قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب بعد العشر فجعلت أختلف إلى الداخلي (= أحمد بن حفص البخاري المتوفى 217هـ) وغيره.

فقال (= الداخلي) يوما فيما كان يقرأ للناس: [روى] سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم. فقلت له: يا أبا فلان، إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم؛ فانتهرني. فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل ونظر فيه ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي [اليامي المتوفى 131هـ] عن إبراهيم [النخعي المتوفى 96هـ]، فأخذ القلم مني وأحكم كتابه، وقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة..، فلما طعنتُ في ثمانية عشرة سنة جعلت أصنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وصنفت كتاب ‘التاريخ‘.. عند قبر رسول (ص) في الليالي المقمرة”.

كان القبول المجتمعي شرطا أساسيا لتصدر العلماء وهم شباب وتلقي الفتاوى منهم (مواقع التواصل الاجتماعي)

فيلسوف فقيه
لم يكن النبوغ والتصدر في الصغر منحصرا في علماء الشريعة فقط، بل كان في الأطباء والفلاسفة وشمل طلاب أكثر الفنون حينئذ؛ فقد عكف الشيخ الرئيس ابن سينا (370-428هـ) -وهو أحد فلاسفة العالم- على العلم وهو صغير، وحفظ القرآن وتعاهد حلقات الفقه في سنّ مبكرة.

وفي ذلك يقول عن نفسه موضحا مسيرته التعليمية فيما حكاه عنه ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ) في ‘عيون الأنباء في طبقات الأطباء‘: “وأحضِرتُ معلّمَ القرآن ومعلمَ الأدب، وأكملت العشر من العمر وقد أتيت على القرآن وعلى كثير من الأدب؛ حتى كان يُقضى مني العجب…، ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق…، ثم رغبت في علم الطب وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة فلا جَرَمَ (= لا عَجَبَ) أني برزت فيه في أقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرؤون علي علم الطب”.

ولكن العجيب أنّ ابن سينا -مع تصدره في الفلسفة والمنطق والطب- لم يترك الفقه أو ينساه، بل تعاهده حتى أحكمه؛ فلنسمعه يقول: “وتعهدت المرضى فانفتح عليّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء سِتّ عشرة سنة. ثم توفرت على العلم والقراءة سنةً ونصفا فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة”.

وهذا النصّ مهمّ جدا؛ إذ يفيدنا بأن بروز ابن سينا وتصدره في كل هذه العلوم كان وهو ابن ست عشرة سنة، ثمّ لمّا بلغ الثامنة عشرة بات من المُحْكِمين لها: “فلما بلغتُ ثماني عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها”. ومع ذلك فإنه لم يكتف ببعض العلوم دون بعض، فقد زاد نهمه المعرفي وعلت همّته للاطلاع على سائر العلوم: “وأتيت على سائر العلوم -سوى الرياضي- ولي إذْ ذاك إحدى وعشرون سنة من عمري”.

ويقول عن تحصيله وملكته في فترة شبابه: “وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء”. وهذه لفتة تربوية مهمة في منهجية التحصيل العلمي؛ فمرحلة الشباب هي مرحلة الحفظ والنهم والانكباب والعكوف على التكوين، أما مرحلة الشيخوخة فهي مرحلة التفكر والتدبر والنضج واكتساب المَلَكة.

حفظت كتب التاريخ والتراجم قصصا عديدة لمواقف صحح فيها طلاب صغار السن مرويات شيوخهم ومحفوظاتهم (الجزيرة)

تدريس للشيوخ
وغير بعيد من زمن ابن سينا؛ ظهر حُجّة الإسلام أبو حامد الغزاليّ (450-505هـ) الذي سلك طريق العلم وهو صغير، وواصل مسيره فيه حتى ذاع صيته وتلقته الناس بالقبول، لكنه سُرْعان ما اعتزل الحياة العامة، وانكبّ على شأنه مؤثِرا الخلوةَ على الظهور والخمولَ على البروز.

ولم يشتهر علمه في صغره فحسب، بل باتت له السيادة العلمية على أقرانه؛ فابن كثير يخبرنا -في ‘البداية والنهاية‘- أن الغزالي “تفقه على إمام الحرمين [الجويني]…، فكان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه، وساد في شبيبته حتى إنه درّس بالنِّظامية ببغداد في سنة أربع وثمانين وله أربع وثلاثون سنة، فحضر عنده رؤوس العلماء”.

وقد كانت “المدرسة النظامية” -التي درّس فيها الغزالي وله أربع وثلاثون سنة فقط- أهمَّ مدرسة في العالم الإسلامي حينئذ؛ وهو لم يجلس للتدريس فيها إلا وهو عالِمٌ متصدّرٌ متينٌ بداهةً، ولم يكن حينها في بدايات تحصيله العلمي بدليل أن رؤوس العلماء حضروا دروسه الأولى فيها، وبالتالي يمكن القول إنه كان عالما متمكنا ذائع الصيت ومتصدراً قبل ذلك، أي وهو في العشرينيات من عمره.

ويحكي الغزالي -في ‘المنقذ من الضلال‘- عن نفسه أنّه نفض عنه غبار التقليد مبكرا، وراح قبل بلوغه سنّ العشرين يقتحم لُجّة “البحر العميق” ويفتش في مقولات الفرق والمذاهب: “ولم أزل في عنفوان شبابي وريعان عمري -منذُ راهقتُ البلوغَ قبل بلوغِ العشرين إلى الآن (وقد تجاوزت سنُّه الخمسين حينها)- أتقحّمُ لُجّة هذا البحر العميق، وأخوضُ غَمْرَته خَوْضَ الجَسور لا خوضَ الجبان الحَذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة”.

وعن انحلال رابطة التقليد عنه وهو في سنّ الصبا؛ يقول الغزالي: “انحلّت عني رابطة التقليد، وانكسرت عليَّ العقائدُ الموروثة، على قربِ عهدٍ بسنّ الصبا”. وعن دعوته للاجتهاد والنظر ونبذ التقليد كعادة الأئمة الكبار؛ يقول إنه “لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته”. وبتواصل هذا النبوغ المبكر؛ انتهى الحال بالغزالي إلى أن بات مجدد قرنه وعلى رأس المئة السادسة للهجرة، كما يقول هو عن نفسه كما سنورده هنا لاحقا، وكما يقوله عنه أهل التراجم؛ حسبما جاء في ‘المقامات‘ لجلال الدين السيوطي (ت 911هـ).

كثير من الأئمة كانوا أيتاما فطلبوا العلم برعاية وتشجيع من أمهاتهم حتى نالوا الصدارة العلمية وهم شباب (الجزيرة)

موهبة متمردة
بعد وفاة الفقيه والقاضي الحنبلي الشهير القاضي أبي يَعْلَى سنة 458هـ؛ جلس تلميذه أبو الوفاء ابن عقيل (431-513هـ) على كرسي التدريس الذي طالما شغله شيخُه في “جامع المنصور” ببغداد. وبذلك تصدّر صفوفَ شيوخ المذهب الحنبلي وهو في سنّ السابعة والعشرين، رغم أنّ الشريف أبا جعفر بن أبي موسى الهاشمي (ت 470هـ) كان أكبر منه سنّاً وأطول ملازمةً لشيخهما أبي يعلى، كما أنه هو الذي تولى -عند وفاته- غسله وتكفينه، وذلك إشارة إلى كونه الأحقّ بميراث الشيخ ومكانته العلميّة بعد رحيله.

وقد ساعد أبو منصور ابن يوسف –وهو تاجر حنبلي كبير ومستشار للخليفة العباسي القائم بأمر الله (ت 467هـ)- ابنَ عقيل في هذا التصدّر الذي حظي به بعد أبي يعلى. يقول ابن عقيل عن نفسه في تلك الفترة حسبما نقله ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ) في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘: “وأقبل عليَّ أبو منصور ابن يوسف فحظيتُ منه بأكبر حظوة، وقدّمني على الفتاوى مع حضور من هو أسنُّ مني (= منافسه الهاشمي)، وأجلسني في حلقة البرامكة بجامع المنصور لما مات شيخي (= أبو يعلى) سنة ثمان وخمسين [وأربعمئة]، وقام بكل مؤنتي وتجملي”.

وفي نص لدى ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- يقول ابن عقيل مثمنا صنيع هذا التاجر الحنبلي الذي رعى موهبته: “ورباني وآواني إلى أن صلحتُ للحلقة فصدُّوني، وقام بمئونة حلقتي حتى الحُصُر..، هذا وأنا ابن نيف وعشرين”!! ورغم أهليته المبكرة هذه؛ فإن ابن عقيل لم يسع لكرسي التدريس بل سيق أمره إليه؛ فها هو يقول عن نفسه: “ولم أزاحم فقيهاً في حلقة، ولم تطلب نفسي رتبة من رُتَب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة”.

وقبل وفاة ابن عقيل بثلاث سنوات؛ وُلد ابن الجوزيّ (510-597هـ) ليبدأ تعلمه وتحصيله صبيا فيقرأ القرآن وله ست سنين، ويسمع الحديث النبوي وعمره سبع سنين. ويقول ابن الجوزيّ عن نفسه في ‘لفتة الكبد‘: “فإنّي أذكرُ نفسي ولي همّة عالية وأنا في المكتب ابن ست سنين، وأنا قرينُ الصبيان الكبار، قد رُزقتُ عقلا وافراً في الصغر يزيد على عقل الشيوخ، فما أذكر أني لعبتُ في طريق مع الصبيان قطّ، ولا ضحكتُ ضحكا خارجاً [عن الحدّ]، حتى إني كنت -ولي سبع سنين أو نحوها- أحضر رحبة الجامع، فلا أتخير حلقة مُشَعْبِذ (= المشعوذ) بل أطلب المحدِّث، فيتحدث بالسِّيَر فأحفظ جميع ما أسمعه، وأذهب إلى البيت فأكتبه”.

وإذا كان ابن عقيل قد وفّق الله له التاجر أبا منصور ليتولى رعايته علميا؛ فإنّ أحد المشايخ الكبار تولى ابن الجوزيّ أيضا، وفي ذلك يقول في ‘لفتة الكبد‘: “ولقد وُفّق لي شيخنا أبو الفضل ابن ناصر (= محمد بن علي السَّلامي البغدادي المتوفى 551هـ)..، وكان يحملني إلى الشيوخ فأسمعني ‘المسند‘ (= مسند الإمام أحمد) وغيره من الكتب الكبار، وأنا لا أعلم ما يُراد منّي، وضبط لي مسموعاتي إلى أن بلغت فناولني ثَبَتَها (= سِجِلّها)، ولازمته إلى أن تُوفي رحمه الله، فنِلتُ به معرفة الحديث والنقل”.

رعاية المحسنين من العلماء والتجار للموهوبين من الطلاب الصغار كانت ظاهرة شائعة في التاريخ الإسلامي (الجزيرة)

طفولة واعظة
ويقول ابن الجوزيّ -في ‘المنتظم‘- عن بداياته المبكرة: “وفي هذه السنة (= 520هـ) حُملتُ إلى أبي القاسم علي بن يعلى العلوي (ت 527هـ) وأنا صغير السن فلقنني كلمات من الوعظ، وألبسني قميصا من الفُوَط، ثم جلس لوداع أهل بغداد عند السور (= سور بغداد) مستندا إلى الرباط الذي في آخر الحلبة، ورقّاني إلى المنبر فأوردت الكلمات [التي لقنني إياها]، وحُزِر الجَمْع يومئذ فكانوا نحو خمسين ألفا، وكان يورد الأحاديث بأسانيدها وينصر أهل السنة”.

ونلحظُ هنا أنّ ابن الجوزيّ كان صغير السنّ حين حُمل إلى الشيخ الهروي، وأن هذا الشيخ كان له قبول بين الناس كما يُصرّح بذلك ابن الجوزيّ، وهو ما عنيناه آنفاً بانتخاب العامّة وانتقائهم. ولعل ابن الجوزي استفاد من تقديم الهروي له في محفل وعظه الوداعي؛ فها هو ابن رجب يقول -في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘- إنه “لما تُوفي ابن الزاغوني في سنة سبع وعشرين طَلب [ابنُ الجوزي] حلقتَه فلم يُعْطَها لصغره”، ومع ذلك فقد “أذن له الوزير أنوشروان [ابن خالد الكاشاني المتوفى 532هـ] في الوعظ، فتكلم في هذه السنة على الناس في أماكن متعددة من بغداد، وكثرت مجالسه وازدحم عليه الناس”؛ كما يقول ابن كثير. ويذكر بعض مترجميه أنه صنّف في الوعظ قبل بلوغه العشرين.

وقد تربى ابن الجوزيّ يتيما حسبما يقوله الذهبي في ‘السِّيَر‘؛ إذ “توفي أبوه وله ثلاثة أعوام فربته عمته، وأقاربه كانوا تجارا في النحاس. ثم لما ترعرع حملته عمته إلى ابن ناصر فأسمعه الكثير، وأحب الوعظ ولهج به وهو مراهق فوعظ الناس وهو صبي”.

وفي نهايات القرن السابع؛ يلقانا نموذج شيخ الإسلام ابن تيمية (661-728هـ) الذي خلف أباه -وهو إمام حنبلي- على كرسيّ التدريس وهو في سنّ الواحدة والعشرين، وأفتى وصنَّف قبل ذلك وله تسع عشرة سنة؛ فقد “كان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيتكلم ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، فأفتى وله تسع عشرة سنة بل أقلّ، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت..، ومات والده -وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم- فدرس بعده بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتُهر أمره وبعُد صيته في العالم”؛ كما يقول الذهبي في كتابه ‘ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية‘.

وعن بداياته المحرقة في طلب العلم وذكائه؛ يقول ابن كثير في ‘البداية والنهاية‘: “وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، فسمع الحديث من جماعة وقرأ بنفسه الكثير..، وقلّ أن سمع شيئا إلا حفظه، ثم اشتغل بالعلوم -وكان ذكيا كثير المحفوظ- فصار إماما في التفسير وما يتعلق به، عارفا بالفقه فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، وكان عالما باختلاف العلماء..، وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قُطع (= غُلِب) في مجلس [مناظرة]، ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظَنّ أن ذلك الفن فنه، ورآه عارفا به متقنا له”.

ومقتضى كلام ابن كثير أنّ ابن تيمية بعد ذهابه إلى دمشق -وهو في عمر ست سنوات- شرع في تحصيل فنون العلم دون توقف. وكانت أولى مِحَنِ ابن تيمية سنة 698هـ بسبب “الفتوى الحموية” وعمره حينها 37 سنة، ولو لم يكن متصدراً وذائع الصيت لما تصدى له أحدٌ من فقهاء عصره، الذين أثاروا عليه السلطة في تلك السنّ المبكرة من حياته العلمية.

كان السيوطي من آخر الأئمة الذين نالوا الصدارة العلمية صغارا وبلغوا مرتبة الاجتهاد وحازوا لقب “المجدد المئوي” (الجزيرة)

الشاب المجدد
وتتواصل ظاهرة النبوغ قبل البلوغ؛ فها هو الجلال السيوطيّ (849-911هـ) يسجل اسمه ضمن الذين اشتغلوا بالعلم حتى تصدروا فيه في سنّ صغيرة؛ فقد حفظ القرآن وهو دون ثماني سنين، ثمّ حفظ كتبا في الفقه والأصول والنحو، وشرع في الاشتغال بالعلم بداية سنة 864هـ وعمره 15 سنة، وألّف أول رسالة علمية له في مستهل سنة 866هـ وعمره حينها 17 سنة.

ثم إنه تصدّر للإفتاء وله من العمر 22 عاماً فقط، وفي ذلك يقول هو في كتابه ‘التحدث بنعمة الله‘: “وتصدّيتُ للإفتاء من سنة إحدى وسبعين [وثمانمئة]، فلا يَعلم مقدارَ ما كتبتُ عليه من الفتاوى إلا اللهُ”! ومقتضى ذلك أنّ تصديه للتدريس والفتوى لم يكن مجرد دعوى وتصدُّر دون أهلية علمية ومقبولية جماهيرية، فلو كان كذلك لما أتته الاستفتاءات من كل حدب وصوب حتى قال عن كثرتها: “فلا يعلم مقدار ما كتبت عليه من الفتاوى إلا الله”!! ولو كان كذلك أيضا لناهضه علماء عصره وفقهاء مذهبه، وهو ما لم يحدث؛ إذ لم يزعم أحدٌ أن السيوطيّ ليس فقيها، أو ليس مؤهلا للفتوى في تلك السنّ.

كما عقد السيوطيّ مجالسَ إملاءِ الحديث النبوي سنة 872هـ بالجامع الطولوني وعمره 23 سنة، وهي سنّ صغيرة قياسا بغيره من الأقران ومقارنة بسنّ التصدرّ الطبيعي، وخاصة في تلك العصور المتأخرة نسبيا؛ ولذا دانت له الديار المصرية وهو في سنّ مبكرة، رغم وجود من هو أسنّ منه كالحافظ السخاويّ (ت 902هـ) وغيره.

وبعقده مجالس الإملاء الحديثي؛ كان السيوطي أول من أحيا هذا التقليد العلمي العريق بعد انقطاعه إثر وفاة الحافظ ابن حجر سنة 852هـ، ثم توقف الإملاء بعد انتشار الطاعون. ويقول في ذلك: “فأمليت أربعة عشر مجلسا مطلقةً، ثم أمليت ستة وستين مجلساً على الفاتحة ونصف حزب من سورة البقرة، ثمّ وقع الطاعون بالديار المصرية فاشتغلَ كلٌّ بنفسه، فقطعتُ الإملاء في شعبان سنة 873هـ”.

لقد نشأ السيوطيّ يتيماً فقيراً، وكان يعتزّ بفقره ويفتخر بعصاميته؛ فها هو يقول -في مقاماته المسامة ‘طرز العمامة‘- لأحد خصومه: “وأمّا ازدراؤك لي بالفقرِ فإنّه عند الله من المكرُمات، وقد قال العلماء: المالُ لا يتفاخر به ذوو المروءات”. ورغم فقره الشديد؛ فقد وصل إلى درجة الاجتهاد المطلق كما يقول عن نفسه: “وأما الاجتهاد؛ فقد بلغت -ولله الحمد والمنة- رتبة الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية، وفي الحديث النبويّ، وفي العربية..”.

والمراد بـ”المجتهد المطلق” العالمُ المؤهَّل معرفيا لاستنباط الأحكام مباشرة من أدلتها الشرعية العامة المبينة في علم “أصول الفقه”، وعكسه “المجتهد المقيَّد/ المنتسِب” الذي يكون استنباطه للأحكام محكوما بأصول إمامِ مذهبٍ فقهي معيَّن.

لم يقتصر النبوغ المبكر على المشتغلين بعلوم الشرع ومتعلقاتها بل حازه كذلك طلاب الفلسفة والطب وغيرهما (الجزيرة)

وللأطباء نصيب
وقد جعل السيوطيّ نفسه مجدد المئة التاسعة، وردّ على من اعترضه بقوله: “فإنْ قالَ قائلٌ: إنّ [الأئمة] الثمانية المتقدمين لم يدّعوه، وإنّما ادّعاه لكلٍّ منهم أصحابُه الذين اتبعوه، قلنا: قد ادّعاه الغزاليّ لنفسه وهو من أئمة الكمال، وصرّح به في كتابه ‘المنقذ من الضلال‘”. وصدق السيوطي في قوله إن الغزاليّ قد ادّعى لنفسه بلوغ مرتبة المجددين للدين، فهو يقول في ‘المنقذ من الضلال‘: “نشهدُ بأنّ هذه الحركة مبدأُ خيرٍ ورشدٍ، قدَّره الله تعالى على رأسِ هذه المئة، وقدْ وعدَ الله سبحانه بإحياء دينه على رأسِ كلّ مئة”.

ولم يكن أمر التصدر العلمي المبكر منحصرا في هؤلاء الأئمة الكبار ممن ذكرناهم، ولم يكن كذلك منحصرا في عِلمٍ دون علم وفنّ دون فنّ؛ بل ناله كذلك الأطباء والفلاسفة والمتكلمون والوعاظ وغيرهم.

فهذا الطبيب الأندلسي أبي العلاء ابن زهر (ت 525هـ) يقول عنه ابن أبي أصيبعة -في ‘عيون الأنباء‘- إنه “اشتغل بصناعة الطب وهو صغير في أيام [أمير إشبيلية] المعتضد بالله أبي عمرو عباد ابن عباد (ت 461هـ)، واشتغل أيضا بعلم الأدب، وهو حَسَن التصنيف جيد التأليف، وفي زمانه وصل كتاب ‘القانون‘ لابن سينا إلى المغرب..، وكان مع صغر سنه تصرخ النجابة بذكره وتخطب المعارف بشكره، ولم يزل يطالع كتب الأوائل متفهما ويلقى الشيوخ مستعلما.. حتى برز في الطب إلى غاية عجز الطب عن مرامها، وضعف الفهم عن إبرامها”.

لكنْ جديرٌ بالإشارة أنّ العلوم في تلك الأزمان كانت متشابكة وغير منفصلة بصورة دقيقة ولا مُسوَّرة، بمعنى أنّ كثيراً من العلماء كانوا فقهاء وأطباء وفلاسفة في نفس الوقت؛ فابن الجوزيّ على سبيل المثال لم يكن محدثا وواعظا وفقيها حنبليا فقط، بل كان أيضا بارعاً في الطب، أو بعبارة الذهبيّ في ‘السِّيَر‘: “كان بحرا في التفسير، علامة في السير والتاريخ، موصوفا بحسن الحديث ومعرفة فنونه، فقيها عليما بالإجماع والاختلاف، جيد المشاركة في الطب”. كما كان ابن سينا فيلسوفا وطبيباً ومشاركا في الفقه إلى درجة أنه كان مناظِرا فيه وهو دون سن العشرين!!

وفي ترجمة ابن حجر -من كتابه ‘إنباء الغُمْر‘- لتاج الدين السبكي (ت 776هـ)؛ نجده يقول إنه “وَلِيَ خطابة الجامع الأموي بعد أبيه وله عشر سنين، وقد درّس في حياة أبيه بالأمينية وعمره سبع سنين”!! وجاء في ترجمته لابن العجمي (ت 833هـ) أنه “اعتنى به أبوه في صغره، وصلى بالناس التراويح بالقرآن أول ما فُتحت [المدرسة] الظاهرية في سنة ثمان وثمانين [وسبعمئة] وهو ابن إحدى عشرة سنة لم يكملها”.

تناقصت ظاهرة النبوغ المبكر لعوامل عديدة بعضها يرجع للوسط العلمي وبعضها فرضه نمط التعليم الحديث (الجزيرة)

خلاصات ودلالات
هنا عدّة دلالات مهمّة يمكن الوقوف عندها بتأمل ونحن نرصد هذه الظاهرة العلمية البديعة، أي تصدر الأئمة في كل الفنون وهم في سن مبكرة جدا، والتي هيمنت على المشهد العلمي والثقافي عند المسلمين في القرون الثلاثة الأولى تقريبا، ثم ظلت موجودة طوال بقية القرون وإن بوتيرة أقل من السابق.

الدلالة الأولى: تلك المرونة الواضحة في التكوين العلمي خلال القرون الأولى، والتي انتفت فيما بعد نتيجة لتعقيد اشتراطات منح الأهلية للفتوى أو الاجتهاد؛ فالجوينيّ والغزاليّ وغيرهما صرّحوا ببلوغهم درجة الاجتهاد المطلق مثل الأئمة الأربعة، دون نكير من أهل زمانهم من المتخصصين العارفين.

بل إن علماء -منهم ابن القيم والسيوطيّ- صرّحوا بصحة تبعيض الاجتهاد المطلق، بمعنى أن يصل العالم إلى رتبة الاجتهاد المطلق في باب من الفنّ دون باب آخر، فيكون عندنا مجتهد في جانب فقهي دون جوانب أخرى. وهذه لفتة مهمة جديرة بالاستحضار في عصرنا اليوم، نتيجة تعقد العلوم وتشعبها وتعدد فروعها.

الدلالة الثانية: منهجُ الأساتذة تجاه تلامذتهم في إجازتهم بالتصدر والتدريس والإفتاء، وذلك يرجع إلى عدّة عوامل نفسية وأخلاقية وعلمية توفرت في هؤلاء الأساتذة. ومع انتفاء تلك العوامل أو بعضها في العصور المتأخرة؛ بات تصدر التلميذ مقلقا ومزعجا لبعض الأساتذة، وصارت نصيحة الأستاذ كذلك ثقيلة على بعض طلبة العلوم.

الدلالة الثالثة: تتعلق بأسباب انعدام هذه الظاهرة العجيبة في العالم الإسلاميّ اليوم، أو على الأقل في معظم بقاعه ومناطقه. والحقيقةُ أنّ الاهتمام بالعلوم بدءا من مرحلة الصغر ليس مهمّة الصبيّ المتعلم فحسب، بل تدخل فيه عوامل كثيرة فيها السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعي والمكانيّ وغير ذلك. فالمكاتب/ الكتاتيب كمثال ما عادت مألوفة أو موجودة في بلدان كثيرة، وقد كانت -بلا شكّ- من عوامل نبوغ الطلاب، بتعلمهم المبكر للقراءة والكتابة وحفظ القرآن والحديث النبوي، ومن ثمّ الانتقال إلى مراحل عليا مبكراً.

ثمّ إن الدولة الحديثة -بطبيعتها وتضخم صلاحياتها وهيمنتها على مناحي الحياة- تسببت في انعدام مثل تلك الحالة التاريخية. وبطبيعة الحال؛ فإنّ النظام التعليمي الحديث -الذي ربط الطالب منذ صغره بمواد علمية محددة، ونظام صارم لا يُخرج عنه، ويعدّ شرطا في التوظيف والترقي فيه وذيوع الصيت- حال أيضا دون الانفكاك عن منهجيته وإلزاميته، مع ما صاحبه من ارتزاق وحرص على الوظيفة والراتب في ظل التحولات المعاصرة التي حصلت بحكم الحداثة ومقتضياتها.

والدليل على ذلك أنّ تقلص هذه الظاهرة الفريدة للنبوغ قبل البلوغ بدأ مع المدارس النظامية المبكرة التي أنشأها المسلمون بكثرة بدءا من منتصف القرن الخامس الهجري وتوسعت فيما بعد، ثم جاء النظام التعليمي الحديث فأنهاها تقريباً. ويبقى العامل السياسيّ حاضرا بلا شكّ؛ فتلك الحالات من النبوغ العلمي لا يُعقل بُدُوُّها في فترات الاستبداد والانهيار المجتمعي، لا سيما أن المستبد عادة ما يعمد جاهدا لإفناء التعليم أو إضعافه، والسخرية من أهله وإفقارهم بشتى الطرق، لصالح عساكره وقواته التي تحفظ عرشه وتصون ملكه.

ومجمل القول أنَّ الذي يجمع بين هؤلاء الأئمة الكبار هو العصامية في تكوين الشخصية، والمتانة في الإمامة العلمية، رغم تصدرهم المبكر للتدريس والفتوى والاجتهاد والتأليف، وشظف حياتهم وربما يُتْم بعضهم كالشافعيّ والبخاري وابن عقيل. واللافتُ أيضاً أنّ هذه الحالات تظهر في أوقات النهضات الكبرى للأُمم، لا في أوقات الانهيار السياسيّ والثقافيّ الذي هو مظهر من مظاهر الشيخوخة الحضارية، التي تعبّر عنها شيخوخة عُمْرية في المتصدرين مع نبذٍ لطاقات الشباب ونبوغهم!!

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى