سياسة معاوية بن أبي سفيان في صرف الأموال (2)
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
أثار بعض المؤرخين شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية رضي الله عنه، وذكروا عدة مصارف وسَمُوها بأنها جائرة وغير شرعية؛ منها:
التنازل عن خراج (دارابجرد) للحسن بن علي:
زعم بعض المؤرخين: أن معاوية تنازل للحسن بن علي رضي الله عنهما عن خراج (دارابجرد)، وأن يعطيه مما في بيت مال الكوفة مبلغ خمسة الاف ألف درهم مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية ، وأن الحسن قد أخذ ما في بيت مال الكوفة ولكنه لم يستطع الحصول على خراج (دارابجرد) إذ إن أهل البصرة قد منعوه منه ، ويزعمون أن ذلك كان
بتحريض معاوية أو بمبادرة من البصريين ، على أن هذه الرواية تغض من شأن الحسن ومعاوية معاً ، وتجعلهما في موقف التواطؤ على أكل أموال المسلمين بالباطل، وهذا باطل ولا يصح ، والصحيح مثبت في البخاري بأن الحسن قال لوفد معاوية؛ عبد الرحمن بن سمرة ، وعبد الله بن عامر بن كريز: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال.. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب ، يريد الحسن أن لا يطالبهم معاوية ، ولا ذكر لأموال يطلب من معاوية أن يدفعها إليه في قادم. (دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين ، ص 64)
وذكر ابن أعثم: أن الحسن قال: أما المال فليس لمعاوية أن يشترط لي فيء المسلمين، والمعلوم أن جباية الخراج من مهام الدولة ، ولا علاقة مباشرة بين الحسن وأهل البصرة في هذا الجانب ، ولكن الرواية أشارت إلى أن خراج (دارابجرد) لم يكن في الأموال التي صيرت إلى الحسن، (دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين ، ص 64)
ورُوي أن الحسن قال لمعاوية: إن عليَّ عِدَّات ودُيوناً ، فأطلق له من بيت المال نحو أربعمئة ألف أو أكثر (تاريخ الإسلام ، عهد معاوية ، ص 7)
وذكر ابن عساكر: يُسلَّم له بيت المال فيقضي منه ديونه ومواعيده التي عليه ، ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه وولده وأهل بيته، وذهب بعض المؤرخين إلى أن إبقاءه ما في بيت المال معه (خمسة ملايين درهم) ، استبقاه لأولئك المحاربين الذين كانوا معه ، يوزِّعه بينهم ، ويبقي لمعيشته له ولأهل بيته ولأصحابه ولا شك أن توزيع الأموال على بعض الجنود يساعد في تخفيف شدة التوتر (في التاريخ الإسلامي ، شوقي أبو خليل ، ص 268)
إن الذي جاء في رواية البخاري هو الذي أميل إليه؛ فالأمر لا يكون تجاوز طلب العفو عن الأموال التي أصابها الحسن واله في الأيام الخالية. وأما الروايات التي تشير بأن يجري معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلى أخيه الحسين مليوني درهم في كل عام ، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية ، فهذه الروايات وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تقبل ولا يعتمد عليها ، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفاً أمام مصالحه الخاصة. وأما حقه في العطاء؛ فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين ، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره ، ولكنه لا يصل إلى عشر معشار ما ذكرته الروايات. (دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين ، ص 63)
أول من سن ديوان العطاء في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أما قبل ذلك في عهد رسول الله ﷺ ، فكانت غنائم الحرب توزع على المسلمين فور انتهاء المعارك، وقد أعطى رسول الله ﷺ المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين ، وكان شيئاً كثيراً، فتقرر بذلك أن تفضيل بعض الناس في توزيع الغنائم أمر مباح ، وقد يكون مستحباً إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك، وإن كان ذلك يزيد في غنائمهم عن بقية المسلمين. (الدولة الأموية المفترى عليها ، ص 418)
ثم كثرت بعد ذلك الغنائم المجلوبة إلى حاضرة المسلمين نتيجة اتساع نطاق الغزو زمن عمر بن الخطاب ، فاستشار أصحابه وانتهى أمره إلى تدوين ديوان العطاء ليكفل توزيعه على نحو معروف ، وفضل أصحاب السابقة والقرابة من النبي ﷺ على من عداهم، .. ولما جاء الأمويون فضلوا أهل الشام على من عداهم ، فقد كانوا أنصارهم المخلصين ، وهم عماد الجيوش المجاهدة؛ سواء في الشمال في جهاد الروم أو في الغرب في فتوح إفريقية والأندلس ، وهم المحافظون على سلامة الدولة وقمع مخالفيها ، وكم استنجد بهم ولاة الأمصار حين خرج عليهم خارجون وعجز جند المصر في الدفاع عن أنفسهم ونظامهم ، كما حدث في قتال ابن الأشعث، ومواجهة ثورة يزيد بن المهلب زمن يزيد بن عبد الملك، وكما حدث في انتقاض البربر الخوارج بإفريقية في عهد هشام. (نقلاً عن الدولة الأموية المفترى عليها ، ص 420)
التوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار:
أنفق معاوية رضي الله عنه أموالاً كبيرة ليتألف بها قلوب الزعماء والأشراف ويوطد أركان الدولة الإسلامية التي قامت بعد فترات من الصراع والتطاحن ، فقد رأى معاوية رضي الله عنه أن إراقة بعض المال خير من إراقة كثير من دماء المسلمين.. فأعطى هؤلاء الرجال المال يستميل بها قلوبهم ، وقلوب أتباعهم وأنصارهم ، ويعلي به مكانتهم ويسد خلة من ورائهم ، ولعله قد فهم من إعطاء الرسول ﷺ المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة ليستميلهم نحو الدين ويسلَّ سخائم نفوسهم ، أنه يجوز أن يعطي أمثال هؤلاء الرجال ليتألف قلوبهم ويضمن ولاءهم ، والولاء للدين والدولة يختلطان في فهم معاوية وبني أمية؛ حيث قامت دولتهم فيما اعتقدوا لنصرة الدين وجمع شمل أهله، وأخيراً فإن كان معاوية مخطئاً في ذلك؛ فما القول في هؤلاء السادة الذين قبلوا عطاياه وجوائزه وفيهم من اشتهر بالتقوى والورع والخوف من الله تعالى؟! إن من الحق أن نقول: إن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد كان يشهد تغيراً كبيراً عن زمن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين حتى صارت بعض فعالياته السياسية ترى أن من حقها التميز في العطاء.
هذا ويحتل الحديث عن ترف الأمويين وبذخهم مكانة واسعة عند مؤرخينا ، والحق أنه كان عندهم لون من ألوان البذخ في سكناهم وفي لباسهم وفي عطائهم ونفقاتهم ، وقد لفت عمر بن الخطاب نظر معاوية رضي الله عنهما إليه وهو بعد أحد ولاة الشام ، يغدو في موكب ويروح في اخر ، ولكن من الحق أيضاً ألا ننظر إلى حياة الأمويين بمعزل عن حياة المجتمع العربي والإسلامي انذاك ، فهي جزء منه ، تتأثر به ، كما تؤثر فيه ، وفي ذلك العصر كان التطور الاجتماعي يتلاحق ، ومظاهر الغنى وانثيال الأموال والرغبة في التمتع الحلال به تصبح أمراً ظاهراً يدفع الذوق العام والقيم الاجتماعية الحاكمة انذاك إلى مزيد من التفتح والاتساع.. وإن هذه السمة الظاهرة لا تنفيها ورود أخبار مؤكدة في زهد معاوية ورقة ثيابه، أو زهد عامله زياد ولباسه المرقوع، فلا تناقض بين هذه الروايات وما عرف من التلبس بمظاهر الملك ، بل هي دليل على نفوس عالية لا ترى الزهادة نقصاً ولا ترى التنعُّم حراماً (الدولة الأموية المفترى عليها ، ص 424) ، وهكذا إذا نظرنا نظرة شاملة في وجوه الإنفاق المالي في ذلك العصر لا نجد مظاهر الترف والبذخ قصراً على بني أمية ، خلفائهم وولاتهم ، فبعض بني هاشم وبني الزبير وغيرهم من معارضي الأمويين لم يكونوا أقل سماحة بالمال من بني أمية ولا أكثر حرصاً عليه، وإذا كان بنو أمية قد ابتنوا القصور فقد بنى رجال من أشراف العرب قصوراً كان لها ذكر وبهاء وكان العرب يعدون ذلك كرماً ، ويتفاخرون به ، ويتوقعون مثله من كل شريف من أشرافهم وإن لم يكن حاكماً، والترف في المجتمعات الإسلامية ظاهرة سلبية لها ما بعدها.
إن بحبحة الأمويين في الإنفاقات المالية أدت إلى ظهور الترف ، ثم تعمق وتجذر في الأمة حتى أصبح ترفاً مدمراً، ظهرت معالمه واثاره في سقوط بلاد الشام في يد الصليبيين، ثم سقوط بغداد في يد المغول وزوال الدولة العباسية ، لذلك يكره الإسلام الترف ويحذر منه أشد التحذير: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *﴾ [الإسراء: 16]. إنه كالحمض الأكَّال الذي ينخر في جسم المادة فيذهب ، فتصبح هش_ة سهلة القصف ، أو تصبح لينة لا قوام لها في الصدام ، وقد كانت وفرة المال في أيدي الناس هي الباب المؤدي إلى الترف بطبيعة الحال ولكن هذا يفسر ولا يبرر، فإنه لا يوجد تبرير لمعصية الله ، وقد جاء المال بوفرة نسبية على أيام عمر رضي الله عنه ، ولكنه تصرَّف بشأنه بمنع الفساد ، فمنع الصحابة رضوان الله عليهم من الخروج من المدينة للضياع والتجارة؛ حتى لا تتكون منهم طبقة تملك المال في أيديها وتملك السلطان (الأدبي) على الناس ، فيحدث التميز وتفسد الأحوال ، فضلاً عن احتمال إصابتهم هم أنفسهم بالترف وهم هيئة المشورة إلى جانب الخليفة ، فتفسد مشورتهم حين تترهل نفوسهم ، وإلى جانب ذلك وقبل ذلك أخذ عمر رضي الله عنه نفسه وأهل بيته بالشدة الحازمة ، حتى لا يكونوا قدوة سيئة أمام الناس. فيفسد الناس.
أما حين يترك المال بدون تصرف معين من ولي الأمر ، يسمح بالنفع ويمنع الضرر ، فإنه لا بد أن يؤدي إلى نتائجه المحتومة حسب السنة الإلهية ، لا لأن المال في ذاته هكذا يصنع ، ولكن لأن الجهد البشري المطلوب لإصلاح الافة لم يبذل فتنفرد الافة وحدها بالسلطان ، وافة المال الترف ، وعلاجها في يد ولي الأمر… بنشر روح الجد في المجتمع ، وبإعطاء القدوة من نفسه لبقية الناس. أما حين يترك في أيدي الناس بلا ضابط مع وجود فئة تعمل جاهدة في إفساد أخلاق المجتمع وروحه كما فعل الفرس ، فالنتيجة هي ما قررته السنة الربانية التي جاء بيانها في كتاب الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *﴾ [الروم: 41]
والترف مُعْدٍ ككل آفة.. فحين لا يعالج ولا يوقف؛ فإنه ينتشر ولا بد.. وحين يكون مبتدؤه في قصور الخلافة فأمر أسوأ ، لأن الحكام دائماً قدوة ، وقد كان الأمويون _ برغم وجود الترف بينهم _ أقل فساداً بالمال من العباسيين ، لأنهم كانوا أكثر انشغالاً بتثبيت دولتهم من ناحية ، وبالجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى ، فأما العباسيون فبعد أن استتب لهم الملك أخذ الترف يسري بينهم سريعاً ، خاصة بفعل الحاشية الفارسية المفسدة المتعمدة للفساد ، ومن قصور الخلافة انتقل الترف بالعدوى إلى قصور الأمراء والوزراء ، ثم قصور التجار الذين وصل دخلهم في التجارة العالمية إلى ملايين الدنانير ، وشيئاً فشيئاً غلب الفساد على عاصمة الخلافة بغداد ثم العواصم الإسلامية الأخرى. (كيف نكتب التاريخ الإسلامي، محمد قطب ، ص 126 ، 127)
______________________________________________________
المصدر:
علي محمد الصلابي، كتاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، ص 255، 259.