كتب وبحوث

سورة الكوثر .. تفسير وتحليل وتأويل 1من 3

سورة الكوثر .. تفسير وتحليل وتأويل 1من 3

إعداد أ. د. عبد المجيد الحميدي الويس

بسم الله الرحمن الرحيم

        الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الفصحاء والبلغاء، أفصح من نطق بالضاد, سيدنا محمد, وعلى آله، وصحبه، ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

           يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك..

 أما بعد:

فسورة الكوثر: هي أقصر سورة من سور القرآن الكريم، آياتها ثلاث آيات فقط، وكلماتها عشر كلمات فحسب، غير أن هذه الآيات الثلاث, وتلك الكلمات العشر, تنطوي على أسرار خطيرة عجيبة رهيبة, وألفاظ فصيحة متينة عظيمة, ومعانٍ غريبة بعيدة قريبة، وحكم بالغة كثيرة كبيرة، وفيها من الخير ما لا حد له ولا طرف…

        لقد أبدع الله سبحانه وتعالى في هذه السورة إبداعا عجيباً، ووضع فيها من الأسرار والكنوز ما يعطي لكل باحث فيها شيئاً منه، فيعود فرحاً جذلانّا بما اكتشف, وما وجد من كنز ثمين، ولهذا كثر المفسرون والباحثون والمنقبون، وتعددت الآراء والأفكار, واختلفت التحليلات والتأويلات.

        ولكن الهوى أحيانّا لعب لعبته فأفسد، وأفقد ذاك المفسر قيمة ما وجد. وتطرف بعض المفسرين أحيانّا فقولوا القرآن ما لم يقل، وأساؤوا إلى الناس من حيث لم يرد الله ذلك، ولا رسوله، ولا المؤمنون.

        ولهذا وجدتني أبحث فيها منذ زمن، وأجمع المادة العلمية، وأنتظر الفرصة والظرف.

         والحمد لله الذي أعان وهيأ الأسباب، فبدأت دراستها بعد التوكل على الله، بهذه المقدمة الموجزة، وتمهيد وضعت فيه تصوري ورؤيتي للمنهج الذي يحسن لدارس القرآن أن يتبعه في دراسته الحديثة، وقسمت الدراسة إلى قسمين:

 القسم الأول: الدراسة التفسيرية، وفيها نقلت آراء كل المفسرين الذين وصلت يدي إلى تفاسيرهم، ثم وقفت على بعض النقاط التي وجدت أنها تحتاج إلى الوقوف عليها، ومناقشتها، وإبداء الرأي فيها. وقد فعلت.

القسم الثاني: الدراسة التحليلية والتأويلية، وفيها وقفت على النص القرآني نفسه، فدرسته دراسة تحليلية: (نحوية، صرفية، صوتية، دلالية) ثم حاولت أن أجتهد في تأويل هذه الآيات بما آتاني الله من علم – على قلته – وأبديت فيها رأيا أسأل الله أن يكون سديدا، وبذلت فيها أقصى ما أستطيع من جهد، راجياً الله أن يغفر لي إن أخطأت، وأن يثيبني إن أحسنت وأصبت، فغاية طلبي مبلغ رضاه عني، وغاية رجائي منه أن يوفقني، ويعينني على المزيد، ففي النفس حاجات إليه كثيرة، ولكن العوارض تعترض، وشياطين الأنس والجن تقف لنا بالمرصاد، ونحن معهم في معارك مستمرة، ينالون منا وننال منهم، وأحسب أن هذا البحث هو أحد النقاط المهمة التي أسجلها عليهم، التي تقربنا إلى النصر خطوة أخرى.

        سلاحنا إيماننا بالله، وسندنا القرآن الكريم، ويشجعنا كل المؤمنين المخلصين الشرفاء من أبناء هذه الأمة العظيمة المجيدة.

الدراسة التفسيرية

[1]

قراءتها:

       قرأ الجمهور (أعطيناك) وقرأ الحسن وطلحة وأبو محيصن و الزعفراني: (انطيناك), بالنون, وهي على ما قال التبريزي: لغة العرب العرباء من أولي قريش.

       وذكر غيره أنها لغة بني تميم أهل اليمن، وليست من الإبدال الصناعي في شيء كما يقول الآلوسي, ومن كلامه e: (اليد العليا المنطية واليد السفلى المنطاة) وكتب عليه الصلاة و السلام لوائل: (انطوا الشبجة – أي الوسط – في الصدقة)[2] وقيل هي لغة العرب العاربة، قال الأعشى:

حبــــــاؤك خير حباء الملوك ***** يصــان الحلال وتنطي الحلـــــــولا[3]

 صفاتها:

       هي أقصر سورة في القران الكريم، وتسمى سورة النحر أيضا. وقالوا هي كالمقابلة للسورة التي قبلها (سورة الماعون). (أرأيت الذي يكذب بالدين* فذلك الذي يدع اليتيم* ولا يحض على طعام المسكين* فويل للمصلين اللذين هم عن صلاتهم ساهون* الذين هم يراؤون و يمنعون الماعون)[4]، فقابل البخل بالكوثر والسهو عن الصلاة بالدعوة إليها (فصل)، والرياء بـ (لربك)، ومنع الماعون بـ (النحر)[5].

مكان نزولها:

        قالوا مكية، في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل وابن الزبيري وسيدتنا عائشة، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم جميعاً، وقيل أنها نزلت مرتين[6].

فضلها:

        قالوا: من قرأها في فرائضه ونوافله سقاه الله من نهر الكوثر يوم القيامة، أو من كل نهر في الجنة، وأعطي من الأجر بعدد قربان قربة العباد في يوم عيد، أو بعشر حسنات عن كل قربان[7].

        وذكروا أن مسيلمة الكذاب عارضها بقوله: (إنّا أعطيناك الزماجر، فصل لربك وهاجر، إن مبغضك رجل فاجر أو كافر).

أسباب نزولها:

        يذكر المفسرون مجموعة أسباب لنزول هذه السورة، فقسم كبير منهم يذكر أنهe أغفى إغفاءة في المسجد بين بعض الصحابة ثم انتبه، فابتسم، فسألوه، فذكر لهم السورة، وتحدث لهم عن الكوثر، وهذا ما سأفصله في تفسير معنى الكوثر.

         وقسم منهم يجعل قصة وفاة ابنه e وشنآن أهل مكة، وبعض رجالات قريش، سبباً لنزول هذه السورة.

           وهذا ما سأفصله وأقف عليه في تفسير معنى (شانئك) و (الأبتر).

وقسم قال: بل نزلت يوم الحديبية، حين حوصر النبي e وأصحابه، وصدوا عن البيت الحرام، فأمره الله فيها أن يصلي، وينحر، وينصرف[8].

       وقسم يذكر أسبابا غريبة لا يقبلها عقل ولا منطق، فقد ذكر الرازي في تفسيره قصة عجيبة مضحكة، قال: روي أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم ثم إنه وصف رسول الله e بالأبتر ثم قال: قوموا حتى نذهب إلى محمد أصارعه, وأجعله ذليلاً حقيراً..

       فلما صاروا إلى دار خديجة وتوافقوا على ذلك: (اتفق الرسول e أبو جهل على أن يتصارعا) يقول: أخرجت خديجة رضي الله عنها بساطاً (حلبة مصارعة) فلما تصارعا، جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه، بقي النبي e  وأقفاً كالجبل، ثم بعد ذلك رماه النبي على أقبح وجه, فلما رجع أخذه باليد اليسرى، لأن اليسرى للاستنجاء كما يقول – ولا أدري إذا كان هناك وقتها وضوء واستنجاء أم لا؟- فكان نجساً، قال: فصرعه على الأرض مرة أخرى ووضع قدمه على صدره.  فالمقصود هذه الواقعة كما ذكر بعض القصاص[9].

       وجاء في تفسير الطبري: حدثني أبو الخطاب الجارودي سهيل، قال حدثني مسلم بن قتيبة، قال حدثنا القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن قال: قلت للحسن بن علي (رضي الله عنه) يا مسود وجوه المؤمنين, عمدت إلى هذا الرجل فبايعت له، يعني معاوية (وأصحح سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما), فقال الحسن : لا تؤذيني يرحمك الله، إن رسول الله e أري في منامه بني أمية يعلون منبره خليفة خليفة، وفي رأي أخر: ينزون على منبره نزو القرود، فشق عليه ذلك، فأنزل الله (إنّا أعطيناك الكوثر)[10].

     عيسى بن مازن هذا الصعلوك التافه، يشتم الحسن بن علي أمام جموع المسلمين, وبين أهله وعشيرته من قريش، ويسترضيه الحسن ويستسمحه ويرجوه أن يغفر له مبايعته لسيدنا معاوية، في هذا الكلام الموضوع على لسانه تنزه وتكرم.

      أي سخف هذا و أية شعوبية هذه؟!.

ما هو الكوثر؟ وماذا قال المفسرون فيه؟:

        أورد المفسرون في الكوثر أقوالا كثيرة، اتفقوا واجتمع رأيهم على المعنى اللغوي فقط، وهو أن العرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر والخطر كوثرا، و الكوثر: من الغبار الكثير، و استشهدوا ببيت من الشعر لحسان بن نشبة:

أبـــوا أن يبيحوا جارهم لعدوهم **** وقد ثار نقع الموت حتى تكــــوثرا[11].

وكوثر: فوعل، من الكثرة المفرطة، ومن الخير الكثير، قيل لإعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت آب بكوثر، و استشهدوا على ذلك بقول الشاعر:

وأنت كثير يــا بن مروان طيب **** وكان أبوك ابن العقائل كوثـــــرا[12].

أما في الاصطلاح: فقد كثرت آراؤهم فيه، اتفقت أحيإنّا, واختلفت اختلافا بينا وتعارضت في أحايين أخرى، ومما اتفقوا عليه تقريباً ما جاء في صحيح مسلم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله e إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: ( نزلت علي آنفا سورة, فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، (إنّا أعطيناك الكوثر…)الخ.

       ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: (فإنه نهر وعدنيه ربي Y، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، وفي رواية أخرى عدد الكواكب[13], فيختلج العبد منهم أي ينتزع ويقطع عنهم[14], فأقول: إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدث بعدك، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر، وفي رواية أخرى كأعناق البخت، قال أبو بكر الصديق: وفي رواية عمر رضي الله عنهما إنها لناعمة يا رسول الله؟ قال أكلها أنعم منها، وفي رواية: أنعم منها من أكل الطائر وشرب الماء، وفاز برضوان الله.[15]

وفي مجمع البيان: (الكوثر: هو نهر أعطاه الله لرسوله عوضاً عن ابنه وقيل: هو حوض النبيe)[16].

صفات نهر الكوثر أو حوض الكوثر كما ذكرها المفسرون:

حافتاه: من ذهب وفضة وقباب اللؤلؤ أو خيام اللؤلؤ أو قصور اللؤلؤ و الياقوت أو الزبرجد. وشاطئاه: الدر المجوف، ويجري على الدر والياقوت[17].

تربته: أطيب من ريح المسك، أو ترابه المسك، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت، أو ترابه مسك اذفر.أرضه: ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ[18].

ماؤه: أبرد من الثلج، وألين من الزبد، وأشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل[19]، وقالوا: أشد بياضا من الثلج، وماؤه الخمر[20].

أوانيه: من فضة[21].

منبعه: قالوا يشخب من ميزابين من السماء من نهر الكوثر[22].

طوله وعرضه: ما بين المشرق والمغرب.

عمقه: عن عائشة رضي الله عنها: عمقه سبعون ألف فرسخ كما يقولون[23].

مكانه: اختلفوا في مكانه، و تعددت آراؤهم، ووصلت حد الاستغراب، قالوا: عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: إنه نهر في بطنان الجنة، قيل لها وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها[24].

         ومما قالوا فيه أيضاً: هو قبل الميزان والصراط عند بعضهم، وبعدهما قريبا من باب الجنة, حيث يحبس أهلها من أمته e ليتحاللوا من المظالم التي بينهم عند آخرين، ويكون على هذا في الأرض المبدلة.

         وقيل له حوضان، حوض قبل الصراط، وحوض بعده، ويسمى كل منهما على ما حكاه القاضي زكريا كما يقول الآلوسي: كوثرا[25],  ولكنه يستدرك قائلا: وصحح رحمه الله فقال: إن الحوض بعد الصراط، وإن الكوثر في الجنة، وإن ماء الحوض ينصب فيه، لذا يسمى كوثراً.

         وليس هو من خواصه e كالحوض، بل يكون لسائر الأنبياء عليهم السلام، يرده مؤمنو أممهم، ففي حديث الترمذي: (إن لكل نبي حوضا وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة) وهو كما قال: حديث حسن غريب.

        وهذه الحياض لا يجب الإيمان بها كما يجب الإيمان بحوضه e عندنا، خلافاً للمعتزلة، والكلام ما يزال للآلوسي، النافين له، لكون أحاديثه بلغت مبلغ التواتر بخلاف أحاديثها (أي المعتزلة) فإنها آحاد، بل قيل: لا تكاد تبلغ الصحة[26].

       ومن الآراء المستغربة في مكانه قولهم: هو على ظهر ملك عظيم يكون مع النبي e حيث يكون، فيكون معه في المحشر إذ يكون فيه، و في الجنة إذ يكون فيها، ولا يعجز الله تعالى شيء[27].

        ومن المستغرب أيضا ما قالوا: يقف على أركانه الأربعة خلفاؤه الأربعة رضي الله عنهم أبو بكر وعمر  وعثمان وعلي، وإن من أبغض واحدا منهم لم يسقه الآخر[28].

فضله: من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها ابدأ[29]، وفي رواية: لا يشرب منه أحد فيظمأ، ولا يتوضأ منه أحد فيشعث أبدأ، ولا يشرب منه أحد أخفر ذمتي، ولا من قتل أهل بيتي[30].

ورَاده: قالوا : أول وارد له فقراء المهاجرين ، الدنسو الثياب ، الشعث الرؤوس ، اللذين لا يزوجون المنعمات ، و لا تفتح لهم أبواب السدر ، يموت واحدهم وحاجته تتلجلج في صدره ، لو أقسم على الله لأبره[31].

صوته: يروون حديثاً عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من أحب أن يسمع خرير ماء الكوثر فليجعل إصبعيه في أذنيه[32].

الأقوال الأخرى في الكوثر:

         أضاف المفسرون إلى النهر أو الحوض أقوالا كثيرة أخرى، بعضها معقول مقبول، وبعضها الآخر غير معقول ولا مقبول، ومما قالوه: الكوثر الماء الكثير، وكثرة الواردة الشاردة من أمة محمد، وكثرة الخير، وقالوا: النبوة، والقرآن أو الكتاب، والحكمة، وقالوا: خير الدنيا والآخرة، وقالوا: الإسلام, وقالوا: ثواب الآخرة، وقالوا: كثرة الأصحاب والاتباع والأشياع، وقالوا: انتشار الدين، وعلو أمره، وقالوا: الحق، والرسالة، وخاتمة النبوة، ونهاية الرسالات، والعلم ، والفضل الكثير، والخير العميم, والفضائل الكثيرة المتصف بها e, والهدى، وسعادة الدنيا والآخرة.

        وقالوا: هو تفسير القرآن، أو تيسير القرآن، وهو الإيثار، وهو المعجزات، وهو الفقه في الدين، وهو الصلوات الخمس، وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقالوا: هو التوحيد، وفضائله، والمقام المحمود، ورفعة الذكر، وإجابة الدعوة,  ونور قلبك، ودلك على الله، وقطعك عما سواه، وقالوا: الأمة، والفتوحات، والنصر على الأعداء، وقالوا: هو العظيم من الأمر، وقالوا: هو الشفاعة[33].

        وقال بعضهم الذرية: جاء في مجمع البيان للطبرسي: الكوثر كثرة النسل والذرية، وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة عليها السلام حتى لا يحصى عددهم، واتصل إلى يوم القيامة مددهم، وكثرت ذريته حتى صار نسبه أكثر من كل نسب[34].

         ويضيف الطباطبائي في الميزان: وكيف ما كان فقوله في آخر السورة (إن شانئك هو الأبتر) وظاهر الأبتر: المنقطع نسله، وظاهر الجملة: أنها من قبيل قصر القلب، وإن كثرة ذريته e هي المرادة وحدها بالكثرة، وأضع خطين تحت قوله وحدها، ثم يعقب: والجملة لا تخلو من دلالة على أن ولد فاطمة عليها السلام، ذريته e، وهذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم، فقد كثّر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أي نسل آخر، مع ما نزل بهم من النوائب، وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة[35].

        يضيف الرازي: والمعنى أن يعطيه بفاطمة نسلاً يبقون على مر الزمان، والعلماء الأكابر منهم لاحد لهم ولاحصر، فمنهم: الباقر، والصادق، والكاظم، والرضي، والتقي، والزكي، وغيرهم ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبؤ به[36].

فصل لربك و انحر:

ماذا قال المفسرون فيها؟:

فصل: قالوا:[37], هي حضَّه على المواظبة على الصلاة المكتوبة، وعلى الحفاظ عليها في أوقاتها، وهي صلاة الفجر بجمع، أو صلاة الغداة بجمع.

وقالوا: عن انس بن مالك رضي الله عنه كان النبي e  يخرج ينحر ثم يصلي، فأمر أن يصلي ثم ينحر، وقالوا: فصل معناه: اعبد ربك، وقالوا: كان المشركون يصلون مكاءً وتصدية، فقال له الله: صلَ لربك وحده. وقالوا: فصل: الصلاة جامعة لكل أقسام الشكر، وهي جنس الصلاة.

وانحر: ماذا قال المفسرون في انحر؟ قالوا فيها أقوالاً كثيرة، أجملها بما يأتي: قالوا: معناه: انحر أضحيتك، وانحر الهدي (شاة أو بعير) وانحر البدن، واذبح.

       وقالوا: كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغيره، فقال له: اجعل صلاتك ونحرك لله. وقالوا: بل معنى ذلك: صل وادع ربك وسله، وقالوا: أخلص صلاتك لربك، ونحرك الإبل لتي هي خيار أموال العرب شكرا له، وقالوا: استقبل القبلة بنحرك، ويذكرون ما سمع عن العرب قولهم: منازلهم تتناحر أي هذا قبالة هذا، وشاهدهم قول الشاعر:

أبا حكم هل أنت عمَ مجالـــــد **** وسيد أهل الأبطح المتناحــــــر

 وقالوا: هو انتصاب الرجل في الصلاة إزاء المحراب.

وقالوا: النحر: رفع اليدين إلى النحر عند افتتاح الصلاة و الدخول فيها.

وقالوا: انحر: ارفع صلبك بعد الركوع واعتدل وأبرز نحرك.

وقالوا: أمره أن:  يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره.

وقالوا: ارفع يديك بالدعاء إلى نحرك.

وقالوا: يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك[38].

ومن الآراء التي اختلفوا فيها ما يأتي:

النحر: هو وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر، أو وضع اليمين على الشمال في الصلاة، ثم وضعهما على الصدر[39], جاء في فتح القدير و القرطبي ما يأتي: اخرج ابن أبي شيبة و النجاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والدار قطني في الإفراد، وأبو الشيخ والحاكم وابن فردويه والبيهقي في سننه عن سيدنا علي ابن أبى طالب رضي الله عنه في قوله  تعالى: (فصلَ لربك و انحر) قال: النحر, وضع اليد اليمنى على وسط ساعده اليسرى, ثم وضعهما على صدره في الصلاة.

 ويضيف ابن كثير عن الشعبي مثله[40].

        ويعقب القرطبي على ذلك بقوله: وقد اختلف المالكية في هذه الهيأة، والصحيح أن المصلي يفعل ذلك في الفريضة والنافلة، لأنه ثبت أن رسول الله e  وضع يده اليمنى على اليسرى، من حديث وائل بن حجر وغيره، وبه قال مالك، وأحمد وإسحاق والشافعي وأصحاب الرأي.

          واستحب جماعة إرسال اليد[41], والموضع الذي توضع عليه اليد مختلف فيه، فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه انه وضعهما على الصدر، وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل: فوق السرة، وقال: لا بأس إن كانت تحت السرة[42].

الطبرسي في مجمع البيان[43] يردَّ هذا الحديث وينفيه، ويكذبه بقوله: أما ما روي عن علي كرم الله وجهه أن معناه ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة لا يصح عنه، لأن جميع عترته الطاهرة قد رووه بخلاف ذلك، وهو أن معناه ارفع يديك إلى النحر في الصلاة.

    ويشاركه في هذا الرأي الطباطبائي في الميزان[44] بقوله: إن جميع عترته الطاهرة رووا عنه عليه السلام معنى النحر: رفع اليدين إلى النحر في الصلاة.

         ويفسران النحر بقولهما: روي عن مقاتل بن حيان، عن الإصبع بن نباته، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: لما نزلت هذه السورة قال النبي e لجبريل عليه السلام ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ قال جبريل، ليست بنحيرة، ولكنه يأمرك إذا تحرَمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبَرت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت، فانه صلاتنا وصلاة الملائكة في السماوات السبع, فان لكل شيء زينة، وإن زينة الصلاة رفع الأيدي عند كل تكبيرة[45].

     ويؤكد هذه الطريقة، الطباطبائي[46] بسند آخر، يقول: في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: ويذكر الحديث مرة أخرى على لسان ابن عباس بقوله: وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: (فصل لربك و انحر) قال: .. ويذكر الحديث، ولا يكتفي بذلك بل يؤكد ذلك برواية عن الحسين بن علي عليه السلام بقوله: عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله (الحسين) يقول في قوله: (فصل لربك و انحر): هو رفع يديك حذاء وجهك. وروى عنه عبد الله بن سنان مثله، وروى أيضا قريباً منه عن جميل عنه عليه السلام.

القرطبي[47] لا يرويه على أنه حديث شريف عن رسول الله e وإنما هو حديث ابن عمر رضي الله عنه, يقول: وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والسجود فمختلف فيه أيضا، والصواب ما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (رأيت رسول الله e إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكون حذو منكبيه، ثم يكبر وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، وحين يرفع رأسه من السجود).

       قال بن المنذر هذا قول الليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول.

يقول القرطبي: وبه أقول، لأنه الثابت عن رسول الله e.

إنّ شانئك هو الأبتر:

             ماذا قال المسفرون في شانئك؟:

 قالوا[48]: مبغضك، وعدوك، وحاسدك، ومبغض ما جئت به من إلهدى، والحق، والبرهان الساطع، والنور المبين.

ماذا قالوا في الأبتر[49]؟: قال أهل اللغة: البتر: القطع، وبترت الشيء بتراً: قطعته، والباتر: السيف القاطع، وخطب زياد خطبته البتراء، لأنه لم يحمد الله فيها، ولم يصل على نبيه، والأبتر من الرجال: الذي لا ولد له، ومن الدواب: الذي لا ذنب له، ويقال: رجل أُباتر، بضم إلهمز: الذي يقطع رحمه.

      وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات، ثم مات البنون وبقي البنات: أبترا.

وقالوا: الأبتر[50]: الأقل، الأذل، المنقطع ذكره، والمنقطع دابره، والذي لا عقب له، وقالوا: الحقير الذليل، المنقطع عن الخير، وقالوا: الفرد مقطوع الأثر والذكر، والمنسي في الدنيا والآخرة.

وقالوا في: إنّ شانئك هو الأبتر[51]: إن مبغضك من قومك هو الأبترلا أنت، لأن كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولاك وأعقابك، وذكرك مرفوع على المنابر وعلى لسان كل ذاكر إلى آخر الدهر.

وقالوا[52]: إن الله عز وجل لما أوحى إلى الرسول e ودعا قريشاً إلى الإيمان، قالوا: أنبتر منا محمد، أي خالفنا وانقطع عنا ، وقالوا[53]: هو الأبتر، لا أنت.

والقول السوء في الأبتر ما قاله الطبرسي في مجمع البيان، حيث قال: ( وقيل معناه أنه لا ولد له على الحقيقة ، وإن من ينسب إليه ليس بولده[54]) .

     وهذا القول المقصود منه التشكيك بنسب سيدنا عمرو بن العاص وأبنائه، لأنهم يعتمدون الرواية القائلة بأنها نزلت في العاص بن وائل، وسأوضح فساد هذا القول.

        وقد ورد في التفسير الواضح رأياً ممجوجاً مستهجناً، حيث ذكر أن الأبتر: مقطوع الذكر، وعقب قائلاً: (وقد شبه الله الذكر الجميل بذنب الحيوان لأنه يتبعه، وهو زينة له، وشبه الحرمان من الأثر الطيب بقطع الذنب[55]) وسأبين سبب استهجان هذا الرأي.

من هو الأبتر:

         اختلفوا في اختلافاً كبيراً، فقال بعضهم: عني به العاص بن وائل، وقال آخرون: عني بذلك جماعة من قريش، وقال آخرون: بل نزلت في كعب بن الأشراف قال لأهل مكة: أنتم خير من هذا الصنبور، والصنبور: النخلة المنفردة، أو التي تنبت في جذع النخلة لا في الأرض.

وقال آخرون: بل في عقبة بن معيط، و آخرون: في أبي لهب، وآخرون: في أبي جهل.

        واللافت للنظر ما انفرد به الطباطبائي في الميزان من رأي، وهو قوله: (وفي بعض الآثار هو الوليد بن المغيرة) بعد أن يقول: نزلت في العاصي بن وائل، بزيادة الياء، وهذا الرأي يخفي وراءه أمرا خطيرا سأذكره في مناقشة الآراء.

[1]ـ الكوثر 1-3 .

[2]1ـ روح المعاني للالوسي ج 30 ص 440 .

[3]ـ فتح القدير  ج 30 ص 641 . 2

3ـ الماعون 1-5.

[5]ـ الطبري ج 30 ص4

5ـ الكشاف للزمخشري المجلد الرابع ص 291 .

[7]ـ نفسه, م4, ص 291.

[8]ـ الطبري ج 30 ص 722 .

[9]ـ الرازي م ج 32 ص 133 .

[10]ـ الطبري ج 30 ص 653 .

[11]ـ القرطبي م ج  20 ص 216.

[12]ـ الكشاف مج 4 ص 219 و مجمع البيان م ج 10 ص 458 .

[13]ـ ابن كثير ص 557 و الطبري 651 .

[14]ـ صفوة التفاسير ص 611 .

[15]ـ مجمع البيان مج 10 ص 459 ، والقرطبي مج 20 ص 216، وابن كثير ص 558 .

[16]ـ مجمع البيان مج 10 ص 460.

[17]ـ الكشاف مج 4 ص 291 .

[18]ـ نفسه, مج4, ص291.

[19]ـ الكشاف مج 4 ص 291 ، و الميزان ج 30 ص 431 .

[20]ـ الطبري ج  30 ص  651 .

[21]ـ الكشاف مج 4 ص 291 .

[22]ـ ابن كثير ج 30 ص 558 .

[23]ـ روح المعاني ج 30 ص 440 .

[24]ـ الطبري ج 30 ص 652 .

[25]ـ روح المعاني ج 30 ص 440 .

[26]ـ المصدر نفسه ج 30 ص 441 .

[27]ـ المصدر نفسه ج 30 ص 441 .

[28]ـ القرطبي ج 30 ص 217 .

[29]ـ صفوة التفاسير ص 611 و الكشاف مج 4 ص 291

[30]ـ روح المعاني ج 30 ص 440 .

[31]ـ الكشاف مج 4 ص 291 .

[32]ـ الطبري ج 30 ص 652 .

[33]ـ انظر القرطبي مج 20 ص 216-217 ، والطبري ج30ص 719، وابن كثير ج 30 ص 559، ومجمع البيان مج 10ص460، والتفسير الواضح مج 3 ص911، وروح المعاني ج 30 ص 443، وفتح القدير مج 3 ص 641.

[34]ـ مجمع البيان مج 10 ص 461.

[35]ـ الميزان مج 10 ص 429.

[36]ـ الرازي مج 32 ص 133.

[37]ـ انظر الطبري ص 722، وابن كثير ص 559، ومجمع البيان ص 459، والقرطبي ص219-220، والكشاف ص291.

[38]ـ انظر مجمع البيان ج 30 ص 433، و الطبري ص 722-724، وصفوة التفاسير ص 611، وابن كثير ص 559 –560 ، والكشاف م 4 ص291، و الميزان ص430.

[39]ـ ابن كثير ص 559، و الطبري ص 721.

[40]ـ فتح القدير ص 644، و القرطبي م5 ص 219، وابن كثير ص559.

[41]ـ القرطبي ج 20 ص2 وما بعدها.

[42]ـ التفسير المنيرج 30 ص 435.

[43]ـ مجمع البيان ج10ص 461.

[44]ـ الميزان ج 30 ص 430.

[45]ـ المصدر نفسه ج 30 ص 430 ، و مجمع البيان ج 10 ص 461.

[46]ـ الميزان ج 30 ص 430 .

[47]ـ القرطبي ج 30 ص 222 و ما بعدها.

[48]ـ انظر: الطبري ج30 ص 724، و ابن كثير ج 30 ص 560  والتفسير الواضح مج 3 ص 911.

[49]ـ انظر: صفوة التفاسير ج 30 ص 611، القرطبي مج 20 ص 223.

[50]ـ انظر: ابن كثير ج 30 ص 560، و الطبري ج 30 ص 724، ومجمع البيان10 ص461.

[51]ـ الكشاف مج 4 ص 291.

[52]ـ القرطبي مج 20 ص 223.

[53]ـ مجمع البيان مج 10 ص 459.

[54]ـ المصدر نفسه مج ص 461.

[55]ـ التفسير الواضح مج 3 ص 911.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى