سورةٌ تقلب «المائدة» على رؤوس اليهود
بقلم معتز الجعبري
ورد فعل «لعن» في سورة المائدة أربع مرات، وقد صبّت السورة لعناتها حصريًا على اليهود، ومنذ بداية السورة تظهر أسباب استحقاق سلف اليهود وخلفهم لللعن؛ يقول تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾ (المائدة: 13).
وتخبرنا السورة أن لعن الله لليهود وغضبه عليهم أوصلهم إلى أن مسخ طائفة منهم على وجه الحقيقة قردة وخنازير، ومسخ قلوب عموم أمتهم فصارت شرّ الخلق وأضلهم عن الاستقامة: ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ﴾ (المائدة: 60). وكيف لا يلعن الله هذه الأمة وهم يصفون الخالق -تعالى عما يقولون- بما لا يليق بالخلق: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ (المائدة: 64)، وحسب هذه الأمة من الشر أن يتم لعنُها على لساني نبيين كريمين: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون﴾ (المائدة: 78).
ولأن اللعن طردٌ أبدي من رحمة الله؛ فإن سورة المائدة بررت ذلك اللعن بالحديث عن جرائم اليهود وصفاتهم، وهاجمت قبائحهم واعوجاجهم، وحذرت أمة خاتم الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- من صنائع مَن عاصرهم من اليهود، وحكمت على السواد الأعظم من متقدّميهم ومتأخّريهم بالضلال والإسراف والعصيان والكذب وتحريف كلام الله، والخيانة والجبن والفساد والعمى والصمم والفسق، بل الكفر، وجعلت عاقبتهم الخزي والخسران، وبشّرتهم بسخط الله والخلود في عذابه، هذا هو موقف سورة المائدة من اليهود المغضوب عليهم.
التأويل الانتقائي للقرآن؟
إلى هنا فلا جديد ولا عجيب؛ لأن صفحات اليهود السوداء منشورة في التوراة والإنجيل قبل القرآن؛ ففي العهد القديم الذي بين أيدينا اليوم نقرأ عنهم العجب، لكن أعجب العجب أن يسلخ جاهل الآية 21 من سورة المائدة عن سياقها، زاعمًا بأنها إثبات قرآني لحق اليهود في أرض فلسطين! أما الآية فهي قوله تعالى على لسان موسى -عليه السلام-: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِين﴾. وأما الجهلة الذين يسوّقون للمشروع الصهيوني استنادًا لهذه الآية فهم كُـثر، واحد منهم هو “أفيخاي أدرعي”، الناطق باسم الجيش الصهيوني، الذي علّق على آية سورة المائدة فقال: “نحن موجودون في فلسطين لتطبيق الآية القرآنية”!
لا عجب أن يسلك “أدرعي” مسلك بني إسرائيل الانتقائي مع كلام الله؛ فيتبجّح بهذه الآية ويُعرض عن 40 آية في سورة المائدة تصف اليهود بما أسلفنا من قبائح، لا عجب من هذا الحمار الذي يحمل أسفارًا أن يقتبس آية من كتاب يلعنه. لكن العجب من نُخب سياسية وثقافية عربية، ومن بعض أعراب وذباب التواصل الاجتماعي المتصهينين، عندما يحلو لهم الاستحمار كأسيادهم؛ فيعتقدون بأن آية المائدة تعترف بحق تاريخي لليهود في أرض فلسطين.
ومما لا شك فيه بأن ما قبل الآية وما بعدها وسياق السورة كافٍ في دحض استدلالهم السقيم، إذ لا يستقيم لعاقل سلخ آية من سورة موضوعها هو نزع القيادة الروحية من أمة مغضوب عليها وتسليمه لأمة مهدية، فيترك هذا الموضوع الرئيس والواضح كالشمس في رابعة النهار، ويقف عند آية ليثبت بها عكس هدف السورة. لا شك بأن من يفعل ذلك يخرم قواعد البحث عن الحقيقة التي تقتضي حمل المتشابه على المحكم، وحمل الجزء على الكل، لا إنشاء حكم مستقل عن السياق والجو العام.
وعلى أي حال فإن من يتولون اليهود ليسوا طلابًا للحقيقة، وليسوا خليقين بحمل الحق، وقد صدقت الآية 41 من سورة المائدة في وصفهم: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
في الفقرات القادمة وعبر محوريْن أفنّد مزاعم ما التبس على الأفهام في الآية 21 من سورة المائدة، أما المحور الأول فيتحدث عن موضوع السورة، والثاني عن الآية موضع بحثنا وسياقها.
موضوع السورة: سورة الميثاق
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ…﴾ (المائدة: 1)، ليس بمستغرب أن تبدأ سورة المائدة بوجوب الوفاء بالعقود على المؤمنين؛ لأن لهذا الأمر علاقة وثيقة بموضوع السورة وهو الالتزام بميثاق الله؛ فقد وردت كلمة الميثاق في سورة المائدة خمس مرات، والمتأمل في السورة يجد أن العهد والميثاق الإلهي هو الخيط الناظم والقاسم المشترك بين آياتها وقصصها وأحكامها، والإيفاء به هو جوهر دين الله ولب دعوة الرسل، ويظهر الحديث عن الميثاق مبكرًا في السورة بالتنويه إلى تكليف أمة جديدة بميثاق الله وتشريفها بحمله؛ ففي الآية السابعة من السورة: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا…﴾ (المائدة: 7).
ويلحق بهذا الأمر وعد بالجنة لمن التزم الميثاق، ووعيد بالجحيم لمن نقضه. وليس بعيدًا عن الآية السابعة حديث في الآية 12 عن أمة سبقت أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد أخذ الله منهم ميثاق العمل بشريعته ووعدهم إذا التزموا به بالجنة، وحذرهم من النار إذا ما نقضوا ذلك الميثاق: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (المائدة: 12). فهل التزم بنو إسرائيل بميثاق الله؟
تجيبنا الآية التالية على هذا بتقرير واضح بأنهم نقضوا الميثاق، وأنهم ضلوا عن السبيل، وتزيد الآية على ذلك بذكر العقوبات التي أصابتهم نتيجةً لنقضهم ميثاق الله، وعلى رأسها طرد الله لهم من رحمته.
كما أحاطتنا الآية علمًا بأسوأ أفعالهم، وهو تحريف كلام الله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ…﴾ (المائدة: 13). أفبعدَ هذا الجواب القاطع يسيغ لعاقل أن يدني هذه الأمة الملعونة من الله ويعطيها حقًا إلهيًا غير قابل للنقض في أرض مباركة؟! على كل حال فإن من يحرّف كلام الله على وجه الحقيقة لا يُستغرب منه أن يلوي أعناق النصوص المحفوظة من التحريف فينحرف بتأويلها، فلا تسأل بعد ذلك عن أي ادعاء يدّعيه.
من أمة اليهود إلى أمة النصارى
ومن أمة اليهود إلى أمة النصارى في الآية التي تليها: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ…﴾ (المائدة: 14). يتضح لنا في ذات الآية أن أمة النصارى، وهي في أصلها من بني إسرائيل، نقضت الميثاق، وعكست أمر الله بتوحيده وتنزيهه إلى تثليثه وتجسيده.
ولأن باب التوبة مفتوح، والفرصة متاحة للأوبة إلى عهد الله وميثاقه؛ فإن الآيتين 15 و16 تبين لأهل الكتاب من يهود ونصارى سبيل الخروج من الظلمات إلى النور باتباع الرسول الخاتم وشريعته، فذلك هو الطريق الحصري إلى الله: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة: 15-16).
وتتابع الآية 18 تفنيد مزاعم بني إسرائيل من يهود ونصارى بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وهنا يتضح انسياق هاتين الطائفتين وراء الأماني والأوهام وإلزامهم الله -تعالى عما يقولون- بما لم يلزم به نفسه؛ فالله مالك السماوات والأرض والخلق، وهو من يلزم البشر ويحاسبهم ويأخذ العهد منهم، ومشيئته مطلقة في أن يغفر أو يعذّب، وأما البشر فليس لهم إلا الطاعة والامتثال.
نستخلص مما سبق أربع حقائق
- ميثاق الله ليس نَسَبًا بين الله وبين أحد من خلقه، بل هو الخضوع لإرادته والسمع والطاعة لرسله. ومن يفِ بهذا الميثاق يفِ الله له بإنقاذه من عقابه وأليم عذابه، ويدخله دار كرامته.
- ميثاق الله ليس عهدًا أبديًا بين الله وبين أمة من الناس؛ فأهل الكتاب من يهود ونصارى لم يفوا بميثاق الله فنالوا غضب الله وعقابه، ومع ذلك فباب التوبة مفتوح لمن شاء منهم عبر الانقياد لخاتم المرسلين، واتباع شريعته المحفوظة من التبديل والتحريف.
- في الآيات إشادة ضمنية بأمة السمع والطاعة، وبشرى لها بحمل رسالة الله التي نزعها من اليهود والنصارى، وفيها تحذير للأمة الجديدة من عاقبة نكث ميثاق الله، وتنبيه لها من سوء عاقبة اليهود والنصارى.
- ميثاق الله نعمة وفضل ومنّة من الله، وهو تكاليف وامتحانات تُدخِل صاحبها مملكة إلهية روحية، لكنها بالتأكيد ليست ملكًا دنيويًا فانيًا، وليست صكوكًا لأرض، ولا تحكمًا في رقاب الخلق، ولا بسطًا لنفوذ مادي.
الآية موضع البحث: أرض الأنبياء
بعد الحقائق السالفة تأتي قصة موسى -عليه السلام- مع قومه عندما أمرهم أن يدخلوا أرض فلسطين، وهو لا شك أمر أوحاه الله إليه تعبدًا لموسى ومن معه، ودخول هذه الأرض حينها جهاد أوجبه الله على مؤمني ذلك الزمان لرفع راية التوحيد وتطهير الأرض المقدسة من الوثنية، ولو كان موسى رسولًا للناس كافة وآمن به كنعانيٌ من فلسطين لوجب عليه أن ينحاز إلى موسى وبني إسرائيل، تمامًا كانحياز مؤمن آل فرعون إلى موسى.
والسؤال المهم: هل قام بنو إسرائيل بهذا التكليف ليستحقوا شرف وراثة الأرض المقدسة؟
الجواب: لا، ذلك أن الأمر يحتاج إلى جهاد، والجهاد فيه بذل للأموال والأنفس، واليهود الذين امتزجت دماؤهم بالجبن والشح وحب الدنيا والتمرد على أوامر الله وقتل أنبيائه رفضوا أمر الله بطريقة غير مسبوقة في سوء الأدب، ليس مع كليم الله فحسب، بل مع الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ (المائدة: 20-26)
إذن، نحن أمام تكليف إلهي لأمة جعل الله في ذريتها النبوة والكتاب، ووعدها بوراثة الأرض المقدسة من سكانها الوثنيين إذا جاهدت، فعصت ذلك التكليف، وعصت غيره من الأوامر، واكتفت بالوقوف على ما كتب الله لها إن أطاعته، دون أن تقوم بما كتب الله عليها، تمامًا كمن ينتظر تحقق جواب الشرط دون القيام بالشرط نفسه.
وبلغت الخسّة بهذه الأمة الجبانة أن تشترط على الرب أن يخرج أهل فلسطين أولًا، حتى تنفّذ أمره بالدخول إليها، فأي شجاعة في أن تدخل أرضًا خالية من السكان وتتبجح بعدها بالانتصار؟!! كما يقول الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- ضمن محاضراته في إصلاح الفرد والمجتمع عندما تحدث عن آية المائدة فقال: “لقد كان سكان فلسطين من أربعين قرنًا عربًا يُسمّون الكنعانيين، وكنعان وقحطان وعدنان أسماء عربية لقبائل انتشرت في الجزيرة وفوقها وتحتها. المهم أن هذه القبائل في تاريخها المبكر استعصت على أمر الله، وأساءت إلى نفسها.
فكانت النتيجة أن دمّر الله هذه القبائل كلها وجعلها خبر كان، وكذلك أصاب الكنعانيين في فلسطين؛ فعندما تجبروا في أرضهم، ونسوا ربهم سلّط عليهم من كان أحق منهم يومئذ بأن يسكن الأرض، لقد كان اليهود جبناء على عهد موسى، وأقل وأذل من أن يدخلوا على العرب أرضهم، ومات موسى، ومات هارون، وشاء الله أن يدخل يوشع -فتى موسى- الأرض المقدسة، وأن يدخل اليهود معه هذه الأرض.فهل كان اليهود بعدما سكنوا الأرض عبادًا صالحين لله؟ أم سرت إليهم عدوى المجرمين من قبل وتحولوا أيضًا إلى جبابرة؟ يقول التاريخ: سرعان ما تحولوا إلى جبابرة؛ أكثروا في الأرض الفساد، وبدا منهم ما لا يليق، وأغضبوا رب العالمين” -انتهى كلامه-.
من أمّة الإعراض والتبديل إلى أمّة السمع والطاعة
ولأن الله لا يحابي أحدًا، ويُنزل غضبه وعقابه على من يبدّل كلامه وينقض ميثاقه؛ فقد مضت سنته في بني إسرائيل فنزع منهم النبوة والكتاب والقيادة الروحية للعالمين، ووضعها في أمة أخرى تستحق الاصطفاء الإلهي ووارثة الأرض، لأنها أمة السمع والطاعة، ولأنها أمة قالت لخاتم المرسلين: “والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون”.
إن الفرق بين بني إسرائيل وبين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- يشبه الفرق بين ولدي آدم الذيْن وردت قصتهما في سورة المائدة؛ إذ قرّبا قربانا فتقبّل الله من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر؛ ما أثار حسده، متناسيًا أن أخاه قرّب أفضل ما عنده تعظيمًا لله ومسارعة في طاعته ومرضاته، وأنه قرّب على مضض أسوأ ما عنده مستثقلًا أمر الله.
إن فلسطين هي أرض الأنبياء وقد كتبها الله للمؤمنين، وأورثها لعباده المخلصين، فحكمها داود وسليمان -عليهما السلام-، ولما انحرف من جاء بعدهما عن منهج الله وأفسدوا في الأرض المقدسة نزع الله الأرض المقدسة منهم وسلط عليهم الوثنيين، حتى أذن الله ببعثة نبي آخر الزمان، وكتب الله له ولمن تبع دينه هذه الأرض المباركة.
وأعلن الله في مطلع سورة الإسراء بأن الأقصى أصبح مسجدًا للمسلمين، وأنه توأم للمسجد الحرام إلى قيام الساعة. وفي حادثة الإسراء، كرّس الله محمدًا إمامًا للأنبياء والمرسلين في المسجد الأقصى، حيث صلّى في هذا المسجد المبارك الصلاة الأولى للأمة الجديدة، وفي العام 16 للهجرة النبوية فتح أصحاب محمد القدس وصلى في مسجدها عمر بن الخطاب وأبو عبيدة -رضي الله عنهما- ومن معهما من الصحابة والجنود المؤمنين.
إن سورة المائدة، وهي تنزع القيادة الروحية من بني إسرائيل وتضعها في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، تصحّح التفسير العنصري للتاريخ كما يراه بنو إسرائيل، وتجعل القرآن الكريم هو المعتمد حصريًا في تصحيح أوهامهم المريضة، والناقد لأغاليطهم، والمبين للحقائق والسنن الإلهية. وعبّرت سورة المائدة عن ذلك بهيمنة هذا الكتاب المحفوظ على كل ما سبقه من كتب سماوية؛ يقول تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ…﴾ (المائدة: 48)، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
المصادر
-
القرآن الكريم
-
جامع البيان في تفسير القرآن، الإمام الطبري
-
في ظلال القرآن، سيد قطب
-
محاضرات في إصلاح الفرد والمجتمع، الشيخ محمد الغزالي
-
زوال إسرائيل حتمية قرآنية، الشيخ أسعد بيوض التميمي
- حمد بن جاسم آل ثاني: الإسرائيليون لهم حق العيش بأرضهم
- وعد بلفور يتوافق مع التأريخ الإسلامي – موقع إيلاف
- عباس: لا ننكر حق اليهود في فلسطين
(المصدر: موقع تبيان)