مقالاتمقالات مختارة

سواكن العثمانية التاريخ المجهول (3)

بقلم وائل علي

انقضت الفترة الذهبية لسواكن بعد وفاة أوزدمير باشا وانتقال نجله عثمان باشا إلى الأستانة. تعاقب على إيالة الحبشة عدد من الولاة الذي لم يكونوا على قدر المسؤولية ولا بمستوى حنكة أسرة أوزدميرو هؤلاء الولاة المتتابعون تدور حولهم علامات استفهام تاريخية كونهم تسببوا بإضعاف المدينة والولاية وغرقوا في الرشوة والفساد. تدهور الوضع الاقتصادي للعثمانيين لدرجة أن بعض سلطانيهم صكوا نقدا مغشوشا ليمنعوا ثورة الإنكشارية عليهم، وكنتيجة لحالة الكساد الاقتصادي تغيرت السياسة العسكرية للعثمانيين فلم يعد التواجد في منطقة البحر الأحمر استراتيجيا خصوصا بعد انهيار العدو البرتغالي وفشل حملته على المغرب ووقوع البرتغال تحت الاحتلال الإسباني الذي لم يكن له طموحات في ما وراء البحار.

فتضاءلت نسبيا الأهمية الاستراتيجية لولاية الحبشة وللأسطول البحري العثماني الجنوبي، وربما تكون آخر عملية كبرى قام بها هذا الأسطول هو التدخل لدعم سلطات إقليم أتشيه الإندونيسي ضد العدوان البرتغالي، وهو ما مكن هذا الإقليم المسلم للبقاء صامدا حتى 1873م عندما تم إسقاطه على يد الاحتلال الهولندي، ولكن بالمجمل بانقضاء الخطر البرتغالي اهتمت الدولة العثمانية بتعزيز أسطولها البحري في البحر الأبيض المتوسط بدلا من أسطولها في البحر الأحمر كأحد تداعيات كارثة معركة لابينتو.

أشار أولياء جلبي أن مخازن سواكن تحتوي على بضائع لصالح سلطنة سنار والحبشة ولمن سماهم عبدة النار ولعله يقصد أتباع الديانات الإفريقية الذين كان لهم وجود في ذلك الزمن

كانت سواكن ضحية العسكرة ابتداء فتحولها من مدينة تجارية إلى قاعدة حربية أبعد عنها تجارة الهند التي كانت تأتي إليها في عهود سابقة، ومع تغير الإستراتيجية العثمانية في البحر الأحمر اتجه ولاة سواكن إلى إقناع الجوار باستخدام ميناء سواكن كمركز للتجارة والتصدير، وتطلب هذا الأمر وقف التوسع العسكري وعقد اتفاقات سلام وتفاهم وهو ما حدث وانتهى الصراع العثماني مع دولتي الفونج وأثيوبيا سلميا وأصبحت سلطنة سنار وإمبراطورية الحبشة دولتين صديقيتين للدولة العثمانية وأصبح ميناء سواكن محطة تجارية وسياحية بالنسبة لهما، فالسناريون والأحباش كانت قوافل حجاجهم نحو بيت المقدس والمشاعر المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة تستخدمان سواكن كمحطة أساسية في طريق الحج وكذلك كانت الدولتان تعتمدان على سواكن في تصدير البضائع إلى الخارج.

هذا الوضع خلق حالة من الانتعاش النسبي لمدينة سواكن وهو ما رصده الرحالة العثماني أولياء جلبي عندما زار سواكن في إطار رحلته السياحية المقدسة بحثا عن الأولياء والتي دونها في كتابه “سياحتنامه” فيقول أولياء جلبي واصفا ما رآه في سواكن وجزيرتها: “ويقابل سواكن على شاطئ البحر مدينة جدة على بعد 300 ميل مدينة جدة وبينها وبين مكة المكرمة مسيرة اثني عشر ساعة، وإن سواكن في الإقليم الأول الذي يواجه القبلة وجزيرة سواكن صغيرة تمتد غربا 3 أميال، وهذه الجزيرة تحت حكم والي الحبشة لكن الوالي لا يقيم فيها وينوب عنه فيها من يتولى أمورها، وقصر الباشا يسمونه قصر الخردة ومن يستلمون الجمرك يقيمون فيه الجزيرة وقد بناه أوزدمير باشا وهو قصر عظيم شامخ وتأتي إليه السفن القادمة من الهند والسند واليمن والحبشة فتدفع (عشرا).. وقد بنى أوزدمير باشا جامعا ذو مئذنة من الحجارة مع وجود مساجد صغيرة وعشرون دكانا من الحصير ومخازن بها شتى أنواع السلع مبرات وحمامات وخانات ومدارس.. وتحرس الميناء ثلاث قلاع قلعة باش وقلعة أورنة وقلعة بوغاز وفي كل قلعة خمسون أو ستون من الجند يأخذون راتبهم من الباشا كل شهر وهي محصنة بالمدافع والذخيرة وتحتها أبواب تطل على البحر والذين في القلعة على استعداد دائما”.

وقد أشار أولياء جلبي أن مخازن سواكن تحتوي على بضائع لصالح سلطنة سنار والحبشة ولمن سماهم عبدة النار ولعله يقصد أتباع الديانات الإفريقية الذين كان لهم وجود في ذلك الزمن في مناطق شمال أثيوبيا وجنوب شرق السودان، ما يؤكد أن سواكن بعد أسرة أوزدمير عادت كمدينة تجارية.

تحدث البروفيسور أندرو شارليس بيكوك في دراساته عن سواكن العثمانية عن ثورة هامة اجتاحت سواكن في منتصف القرن السابع عشر سببها والي بوسني اسمه مصطفى باشا تم تعيينه من الباب العالي كوالي على ولاية الحبشة، وقد كان قدوم مصطفى باشا لسواكن كارثيا فقد تسببت قراراته الجائرة في أزمة للتجار وتمرد جنود الحامية عليه ليهرب إلى جدة مستنجدا بوالي الحجاز. فمصطفى باشا اتخذ قراراً وهو أن تدفع الجمارك نقدا ً وهو أمر لم يكن متعارف عليه في سواكن حيث كانت الجمارك تدفع بشكل عيني وقد تسبب هذا القرار في ابتعاد السفن عن ميناء سواكن لموانئ أخرى واحتج التجار ومعهم القاضي ثم تبعهم جنود الحامية بقيادة انكشاري اسمه درويش وعندما حوصر الباشا مصطفى آثر الهرب بدلا من التنازل متهما الثوار بتلقي دعم خارجي في إشارة للجبشة وسلطنة سنار.

واستعصت سواكن على حملات الاسترداد فترة من الزمان حتى قام المتمردون بالهرب إلى الحبشة، وقد أشارت رسائل عثمانية أن سلطان سنار كاتب إمبراطورية الحبشة بوجوب التحالف بينهما لصد أي حملة انتقام عثمانية بعد إخماد هذا التمرد. وبعد هذا التمرد بفترة اقتضت ظروف العثمانيين الاقتصادية في إلغاء ولاية الحبشة في إطار عملية خفض إنفاق شاملة وتم ضم سواكن إلى ولاية الحجاز، وتعتبر هذه الفترة هي فترة مظلمة في تاريخ المدينة لأن ولاة الحجاز أهملوها واستمر هذا الحال حتى الحملة الفرنسية وصعود نجم حاكم مصر محمد علي باشا الذي أحيا سواكن من جديد عندما طالب الخليفة العثماني بمنحه إياها بصفة مؤقتة لصالح إقليم السودان الذي فتحته جيوشه إلى أن جاء حفيده إسماعيل وحصل على سواكن ومصوع في صفقة سياسية مع السلطان عبد العزيز تضمنت زيادة الخراج الذي تدفعه مصر لإسطنبول مقابل إنعام الخليفة على إسماعيل بلقب خديوي واعتبار نجله محمد توفيق وليا لعهده مع منحه قائمقامية سواكن ومصوع.

 

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى